كلمة تقديم
الأصالة والتجديد في الثقافة العربية المعاصرة
موقف العرب من المذاهب الفلسفية المعاصرة
التوفيق بين ثقافتين
أزمة العقل في حياتنا
الواقع وما وراء الواقع
لمسات من روح العصر
منطق جديد .. لفكر جديد
دماغ عربي مشترك
صراع الأجيال
صفحة غير معروفة
لحظة مع الماضي
رجل الفكر ومشكلات الحياة
ضمير الكاتب ودستور المثقفين
نموذجان من ثورة الفكر
الحضارة وقضية التقدم والتخلف
حياتنا بين الأمس واليوم
إنسانية العلم
سارتر في حياتنا الثقافية
عندما يحلم العقلاء
من برتي إلى برتراند
صفحة غير معروفة
تعادلية الحكيم
شاهد على الصهيونية من يهود
هذه الأفعى .. كيف تسللت؟!
العنصرية والعسكرية معا
كلمة تقديم
الأصالة والتجديد في الثقافة العربية المعاصرة
موقف العرب من المذاهب الفلسفية المعاصرة
التوفيق بين ثقافتين
أزمة العقل في حياتنا
الواقع وما وراء الواقع
صفحة غير معروفة
لمسات من روح العصر
منطق جديد .. لفكر جديد
دماغ عربي مشترك
صراع الأجيال
لحظة مع الماضي
رجل الفكر ومشكلات الحياة
ضمير الكاتب ودستور المثقفين
نموذجان من ثورة الفكر
الحضارة وقضية التقدم والتخلف
حياتنا بين الأمس واليوم
صفحة غير معروفة
إنسانية العلم
سارتر في حياتنا الثقافية
عندما يحلم العقلاء
من برتي إلى برتراند
تعادلية الحكيم
شاهد على الصهيونية من يهود
هذه الأفعى .. كيف تسللت؟!
العنصرية والعسكرية معا
ثقافتنا في مواجهة العصر
ثقافتنا في مواجهة العصر
صفحة غير معروفة
تأليف
زكي نجيب محمود
كلمة تقديم
في هذا الكتاب محاولة ثالثة أقدمها إلى القارئ، ساعيا بها - كما سعيت بسابقتيها - نحو صيغة ثقافية تلتقي فيها أصولنا الموروثة مع ثقافة العصر الذي نعيش فيه.
كانت المحاولة الأولى في كتاب «تجديد الفكر العربي».
وكانت الثانية في كتاب «المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري».
وها هي ذي المحاولة الثالثة في هذا الكتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر»؛ فلئن تفرقت زوايا النظر في فصول هذا الكتاب، فإنها تلتقي كلها عند هدف رئيسي واحد، هو النظر في ثقافة عصرنا من جهة، ثم النظر في ثقافتنا الموروثة من جهة أخرى؛ بحثا عن وسيلة تلتقي بها الثقافتان عند أبناء الأمة العربية في يومهم الجديد.
فما هي أهم العناصر في ثقافة عصرنا؟ عن هذا السؤال تجد محاولة الجواب في «لمسات من روح العصر»، وفي «منطق جديد لفكر جديد»، وفي غيرهما من فصول الكتاب.
وكيف واجهنا تلك الثقافة العصرية حين وفدت إلينا فيما وفد من عناصر الحضارة الغربية الجديدة؟ أكان ذلك بالقبول؟ أم بالرفض؟ أم بالتعديل؟ وجواب هذا تراه في «الأصالة والتجديد في الثقافة العربية المعاصرة» بصفة خاصة؛ ثم إلى أي حد يجد العربي مشكلاته الفكرية منعكسة في المذاهب الفلسفية المعاصرة؟ ألا يجوز أن تكون تلك المذاهب كلها منبثقة عن أزمات عقلية حدثت هناك ولم تحدث هنا، ومن ثم تعذر على الدارسين عندنا أن يردوا أوجه التساؤل التي حاولت تلك المذاهب الفلسفية أن ترد عليها؟ عن هذه الأسئلة هناك محاولات للجواب، يجد القارئ بعضها في «موقف العرب من المذاهب الفلسفية المعاصرة»، كما سوف يجد نموذجا لاتجاهين رئيسيين في الفكر الفلسفي المعاصر، متمثلين في «سارتر» و«رسل»، وضعنا إلى جانبهما موضوعا شبه فلسفي تعرض له علم من أعلام الأدب والفكر عندنا، هو توفيق الحكيم، في كتابه «التعادلية»، ليرى القارئ أين تتفق مشكلاتنا الفكرية مع مشكلات الغربي، وأين تختلف.
فإذا كان هنالك اختلافات رئيسية بين مشكلاتنا ومشكلاتهم، وبين حلولنا وحلولهم، فهل من سبيل إلى التلاقي؟ عن هذا السؤال يجيب الكاتب في «التوفيق بين ثقافتين»، وفي غيره؛ ثم إذا كان لا بد عندنا من ثورة فكرية نغير بها بعض الوقفات؛ كالتي عبرنا عنها في «أزمة العقل في حياتنا» وفي «الواقع وما وراء الواقع»، وفي غيرهما من فصول، فكيف تكون الثورة؟ لقد عرضنا نموذجين من ثورة الفكر جوابا عن هذا السؤال، تلك وأمثالها هي أنواع الأسئلة التي تعرضت لها فصول الكتاب، فإذا خرج القارئ من هذا الكتاب بمثل ما خرج به من الكتابين السابقين، وهو أن يجد بين يديه موضوعا يتحداه، وأن يشعر في مواضع كثيرة في معارضة الرأي الذي يراه، برأي آخر من عنده يراه، كنت سعيدا بما حققته من إثارة القضية، واستثارة الرغبة في بحثها.
صفحة غير معروفة
إلا أن النية خالصة، وعلى الله التوفيق.
د. زكي نجيب محمود
الأصالة والتجديد في الثقافة العربية
المعاصرة
1
صميم الثقافة العربية - لا فرق في ذلك بين قديمها وحديثها - هو أنها تفرق تفرقة حاسمة بين الله وخلقه، بين الفكرة المطلقة وعالم التحول والزوال، بين الحقيقة السرمدية وحوادث التاريخ، بين سكونية الكائن الدائم ودينامية الكائن المتغير؛ فالأول جوهر لا يتبدل، والثاني عرض، يظهر ويختفي، على أنها تفرقة لا تجعل الوجودين على مستوى واحد، بل تتخذ من عالم الحوادث رمزا يشير إلى عالم الخلود، فمهما تكن طبيعة الواقع والأحداث، مما يقع عليه البصر والسمع، فليست هي إلا علاقات تشير - لصاحب البصيرة النافذة - إلى الكائن الروحاني الكامن وراءها، إلى مبدعها ومجريها، وسواء نظرنا إلى الإنسان باعتباره عالما صغيرا، أو نظرنا إلى الكون كله باعتباره إنسانا كبيرا - وهي مقابلة يكثر ورودها في ثقافة العرب الأقدمين - فإن مادة الجسم في كلتا الحالتين، إنما هي ستار يستر وراءه روحا يمتنع على الفناء.
تلك التفرقة الفاصلة بين ظاهر الأمر وباطنه، هي المنبت العميق الذي يوضح لنا ما يقسم رجال الثقافة عندنا في فترات التحول، قسمين، أطلق عليهما حينا (في عشرينيات هذا القرن وثلاثينياته) أسماء القديم والجديد، وحينا آخر (في أيامنا هذه) أسماء الرجعية والتقدمية؛ وذلك أن رجال الثقافة هؤلاء، كلما عصفت بهم رياح الحوادث، ونظروا حولهم فإذا هذا الهيكل الصوري راسخ كالجبال العاتية التي لا تنال منها الرياح، ظن منهم فريق أن النجاة هي في اعتصامهم بأركانه، وظن فريق آخر ألا نجاة إلا في الخروج منه ليلوذوا بهيكل ثقافي آخر، أقامته حضارة أخرى، أثبت العصر نجاحها، ومهد لها سبيل السطوة والسيادة، فأنصار القديم أو الرجعيون هم - في كلتا الفترتين - الذين يلوذون بالمبادئ نفسها، وبالقواعد نفسها، وبالصورة نفسها التي ميزت الثقافة العربية الكلاسيكية، والتي قلنا عنها إنها في صميمها تفرقة بين عالم الأزل وعالم الزوال، وأما أنصار الجديد، أو التقدميون، فهم الذين يودون لو بتروا الشجرة من جذورها، فلا يعود الظاهر مردودا إلى الباطن، ولا الحاضر منسوبا إلى الماضي، ولا الأحداث محكومة بمبادئ سوى المبادئ التي نقررها نحن المعاصرين لها، حتى لا نترك قيادة الأحياء للموتى.
ولم يكن ذلك البناء الهيكلي للثقافة العربية في صميمها، ليكون ذا معنى، لولا أن جانب الثبات والدوام من بنائه، بالقياس إلى جانب التغير والزوال، يشتمل على مجموعة «القيم» التي يناط بها توجيه السلوك والمفاضلة بين الأفعال، فليست معايير الإنسان التي يحتكم إليها من صنعه - بناء على هذه النظرة الثقافية - بل هي مفروضة عليه، وإنما فرضت عليه لأنها بمنزلة «الحق» الموضوعي الذي لا قبل للإنسان أن يغيره أو يحوره، فهل في وسع الإنسان أن يغير من طبيعة المثلث أو المربع، فيجعل المثلث محوطا بخمسة أضلاع إذا شاء؟ كلا، فهكذا المثلث بحكم تعريفه، أن تحيط به ثلاثة أضلاع، وكذلك قل في العدل والصدق وغيرهما من معايير السلوك، ثم نتوسع قليلا في هذه المعايير الثابتة، فإذا هي المبادئ كلها والقواعد كلها، التي تهدي الإنسان في نشاطه، كائنا ما كان ذلك النشاط، من عبادة المتعبد، إلى فروسية الفارس، ومن توقيعات الموسيقى والغناء، إلى زخرفات الفنان وتفعيلات الشاعر ... معايير هي التي في مجموعها تصنع «الذوق» العربي على جميع مستوياته، من «الذوق» الصوفي إلى «ذوق» الناقد الأدبي، وهي معايير لو حللتها ألفيتها على تنوعها تلتقي في نهاية الأمر عند نقطة مشتركة، وهي أن الوقائع الجزئية الماثلة على مرأى البصر، أو على مسمع الأذن، تنتهي بك - لو تعقبتها إلى أصولها الأولى - إلى فكرة مطلقة ثابتة، لا يوصل إليها عن طريق التجريد والتعميم من خبرات الحياة الجارية، بل هي فكرة «أولية» - باصطلاح الفلاسفة في ذلك - يجدها الإنسان مغروزة في فطرته إذا هو استبطن فطرته، أو يستدلها من ظواهر الكون إذا هو نفذ خلال تلك الظواهر إلى جوهرها الباطن.
ومن هنا كان بين الأسس العميقة في بناء الثقافة العربية الصميمة أن تكون «للإرادة» أولوية منطقية على «العقل»؛ فالإرادة «فعل»، والفعل باطنه «قيمة» توجهه، وما دامت مجموعة القيم قائمة أمامنا، لم نصنعها، بل نشخص إليها لنحذو حذوها؛ فلم يبق «للعقل» إذن مهمة يؤديها إلا أن يرسم الطريق المؤدية إلى تحقيق ما تقتضيه تلك النماذج العليا المنصوبة أمامنا، ومعنى ذلك أن مجال «العقل» منحصر في دنيا التنفيذ، بحيث نلتمس به السبل المؤدية إلى الغاية المطلوبة، أما الغاية نفسها فلا شأن له بها؛ لأنها تنتمي إلى عالم القيم، فليختلف الناس كيف شاءوا في أي الطرق يسلكون، لكن الغايات مرسومة لهم، تسدد الخطى كأنها أنجم السماء تهدي السائرين في تيه الفلاة.
وواضح أن أداة الإنسان في إدراكه للغايات التي «ينبغي» عليه بلوغها، غير أداته في إدراك الخطوات التي تؤدي إلى تلك الغايات؛ فهذه الخطوات هي تخطيط «عقلي» تتتابع فيه المقدمات والنتائج، وأما تلك الغايات فإدراكها يكون «بالحدس» - وهذا مصطلح فلسفي - وإذا شئت فقل عنه إنه إدراك بالبصيرة، أو بالقلب، أو بالوجدان، أو بإلهام، أو بما تختاره من لفظ يؤدي معنى الإدراك الذي يتم بصورة مباشرة بين الذات العارفة والشيء الذي تعرفه، وإذن تكون الثقافة العربية الأصيلة - بناء على هذا التحليل - قائمة على دعامتين: الإلهام والعقل؛ بالأول ندرك ما «ينبغي»، وبالثاني نحقق ما انبغى.
صفحة غير معروفة
2
ويحكي لنا التاريخ حكاية مفصلة عن هذا الهيكل العام للثقافة العربية، ماذا كان من أمره حين ألفى نفسه وجها لوجه مع ثقافة «غربية» قديمة، هي ثقافة اليونان، فقد نقلت هذه الثقافة إلى العربية، في القرن التاسع، بأمر من الدولة وبتدبيرها وبأموالها، على نحو يكاد المرء يلمح فيه رائحة السياسة وأهدافها، لكن ذلك ليس من شأننا في هذا المجال، وحسبنا أن نعلم أن خاصة المثقفين عندئذ قد وجدوا أمامهم هذا الوافد الجديد، الذي هو «الفلسفة» اليونانية خاصة، وإذا قلنا «الفلسفة» فقد قلنا «منطق العقل» فكيف استجابوا له؟
استجابوا له على طريقتين؛ ففريق حاول أن ينتفع به لأغراضه، وفريق آخر وقف منه موقف الرفض الصريح، فأما أول الفريقين فنراه في المعتزلة من المتكلمين وفي الفلاسفة، فحاول فريق المعتزلة أن يستخدموا أداة المنطق العقلي في الوصول إلى صيغة تدفع عن الدين كل شبهة، وتصون للفرد الإنساني في الوقت نفسه حريته في الاختيار، ومسئوليته عما يختار، فركزوا أنظارهم على محورين؛ هما وحدانية الله من جهة، وحرية إرادة الإنسان في دنيا الفعل من جهة أخرى، فسلمت لهم بذلك أركان الهيكل الثقافي العتيد، الذي يحرص على التمييز الواضح بين المطلق في ثباته، والجزئي في تغيره، مع اصطناعهم للثقافة اليونانية الوافدة وسيلة يتوسلون بها، لا غاية يقفون عندها، وأما الفريق الثاني - فريق الفلاسفة - فقد كانت طريقتهم أن يحاولوا التوفيق بين الوافد والمقيم، بين الطارف والتليد، بين ما يؤدي إليه منطق العقل، وما قد هبط به الوحي، بين حكمة الفلسفة وشريعة الدين؛ ليبينوا أن لا اختلاف على الحقائق وإن تعددت المناهج، وهكذا اتفق الفريقان: فريق المعتزلة من المتكلمين، وفريق الفلاسفة، على أن قبولهم للثقافة اليونانية المنقولة إليهما، لا يؤدي إلى تنازلهما عن أي شيء من مقومات الثقافة العربية الأصيلة، بل قد يزيدها رسوخا بما يضفيه إليها من براهين التوكيد والتأييد.
لكن تلك الوقفة المعتدلة المتسامحة اقتصرت على جماعة من خاصة المثقفين، ولا أظنها قد تسربت لتسري في حياة الناس، وأما الذي بدأ بجماعة من خاصة المثقفين كذلك، ثم سرى في جمهور الناس جيلا بعد جيل، فهو وقفة أخرى رفض بها أصحابها فلسفة اليونان المنقولة، ورأوها دخيلة على ثقافتهم وربما أفسدتها، فعند هؤلاء الرافضين أن «علوم الأوائل» - هكذا أسموا ثقافة اليونان - لا تكاد تصلح لشيء في «علوم العرب»، وعلوم العرب هذه لا تخرج عندهم عن عقيدة دينية وشريعة ولغة عربية، فكيف يمكن لهذه الفروع الثلاثة أن تفيد من علوم قوامها «طبيعيات ورياضيات وإلهيات» تدور في مجال آخر وبأسلوب آخر؟ إن هذه العلوم الوافدة - في رأيهم - هي على أحسن الفروض «حكمة مشوبة بكفر» أو هي «حق مشوب بباطل».
وحسبنا أن نذكر من هذا الفريق الرافض للفلسفة اليونانية، الإمام الغزالي، ليدرك القارئ كم كان لوقفته هذه من أثر لم يقتصر على خاصة المثقفين، بل اتسع مداه حتى أصبح مقوما هاما من مقومات الثقافة الشعبية - إذا صح هذا التعبير - فقد كتب الغزالي كتابه المشهور «تهافت الفلاسفة»، ليبين - من وجهة نظره - كيف أن الفلسفة الأرسطية بصفة خاصة، منطوية على كلام ينقض بعضه بعضا، نعم .. إن الغزالي قد أمسك بزمام نفسه، فلم تجرفه المبالغات، بدليل أنه أخذ يميز من جملة الثقافة اليونانية التي سلط عليها نقده، جوانب يراها مفيدة، ولا ضير على العقيدة الدينية منها؛ كالرياضيات، والمنطق الخالص، ومع ذلك فقد كان يخشى على الناس أن يقرءوا للفلاسفة الأقدمين أشياء صحيحة كهذه، فيتوهموا أن كل ما قاله الفلاسفة لا بد أن يكون صحيحا كذلك.
لا، لم يكن النظر العقلي - عند الغزالي - هو وسيلة إدراك الحق، والحق هو الله سبحانه، وإنما الوسيلة لذلك هي الحدس الصوفي، فكان بقوله هذا بمثابة من واجهته ثقافة «العقل» الدخيلة، فلاذ بما قد ألفه واستراح إليه ووجد فيه الدفء، ألا وهو القلب ونبضته، والوحي وهدايته.
3
ويخطئ من يظن أن قوائم الهيكل الثقافي الأصيل قد غيرها الزمن، حتى وإن تغيرت جميع القضايا المطروحة للنظر، فإذا تحدثنا عن «الثقافة العربية الحديثة» فلا بد من التفرقة الواضحة بين «المنظار» من جهة، و«الموضوع» الذي ننظر إليه من جهة أخرى؛ فهنالك موضوعات للنظر أثارتها مشكلات العصر لم يكن لنا بد من التعرض لها؛ لأنها تمس حياتنا في الصميم، ومن تفكيرنا فيها توالدت «الثقافة العربية الحديثة»، لكننا نسأل هنا: بأي منظار نظرنا، وعن أي موقف فكري صدرنا؟ وتلك هي «المواجهة».
وإنني لأزعم أن الموقف الفكري الذي صدرنا عنه في مواجهتنا للعصر، هو نفسه الموقف الفكري الذي صدر عنه أسلاف لنا عندما فوجئوا بثقافة جاءتهم من اليونان: ففريق أراد أن يجعل من الثقافة الجديدة أداة ينتفع بها في حل مشكلاته، وفريق آخر رفضها رفضا، وكان الرافضون هم الفئة التي استجابت لها عامة الناس طوال القرون التالية، نعم، إن هنالك فريقا ثالثا ثار على الهيكل نفسه، وخرج منه، بل خرج عليه، وحاول العيش مع الغرباء؛ بغية أن يتبعه الآخرون، لكن سرعان ما تبين لهؤلاء وللناس، أنهم إنما فرضوا على أنفسهم عزلة قد تفيدهم إلى حين، ولكنها لن تكون جزءا باقيا من «الثقافة العربية الحديثة».
أريد أن أكون في هذا الموضع واضحا غاية الوضوح؛ فلست أدافع ولا أهاجم، ولكنني أصف، فأقول إن الثقافة العربية الحديثة إذا واجهت العصر بمقولاتها، لم تجد مقولاتها تلك معدة كل الإعداد لتلقي مادة العصر، فانقسم رجال الثقافة عندنا ثلاثة مذاهب: مذهب وجد الصيد نافرا من القفص، لكنه لم يزل به حتى طوعه بعض التطويع، فاستكان له ولو إلى حين، وفي رحاب هذا المذهب تقع الكثرة الغالبة من أعلام الأدب والفكر في تاريخنا الحديث: محمد عبده، والعقاد، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وغيرهم، فهؤلاء جميعا - على اختلاف نزعاتهم وأذواقهم - لم يرفضوا العصر، لكنهم حاولوا أن يصوغوه في قوالب الثقافة العربية الأصيلة، مع تفاوت بينهم في درجة النجاح، ومع هؤلاء القادة يذهب معظم المثقفين. ومذهب آخر وجد الصيد نافرا من القفص، فاستغنى عن الصيد، واحتفظ بالقفص يضع فيه من كائناته المألوفة ما يجده حاضرا بين يديه، وفي هذا المذهب تقع جماعة لا حصر لعددها، ممن ملئوا أوعيتهم من كتب التراث، وغضوا أنظارهم غضا عن العصر بكل ما يضطرب به من قضايا ومشكلات فكرية، ومع هذه الجماعة تذهب عامة الناس من غير المثقفين. ومذهب ثالث وجد الصيد نافرا من القفص، فحطم القفص، وجرى مع الصيد حيث جرى، وهؤلاء قلة قليلة، لا تجد بأسا في أن نمحو صفحتنا محوا، لنملأها بثقافة العصر وحده، كما هي معروفة في مصادرها، بغير تحريف ولا تعديل. فمن ذلك ترى جماعتين من الجماعات الثلاث، هما اللتان تصدتا للعصر؛ إحداهما بتعديله ليلائم قالبنا الموروث، والأخرى بغير تعديل فيه، ملقية في اليم القالب الموروث، وأما الجماعة الثالثة فقد لاذت بالهروب في حصونها، فلا مواجهة بينها وبين العصر، ومن ثم فلنا أن نسقطها من حسابنا، برغم كثرة عددها، وبرغم أنها هي التي ظفرت بتأييد الجماهير.
صفحة غير معروفة
وكذلك نستطيع أن نسقط من حسابنا - في موضوعنا هذا - تلك القلة القليلة التي، وإن تكن قد شاركت العصر في مشكلاته الفكرية وقضاياه؛ فإنها قد شاركته كما يشاركه رجال الفكر من أصحاب الحضارة الغربية نفسها، فكأن هذه الجماعة المستغربة تنظر إلى الأمور بعين أوروبية أو أمريكية، وكل ما لها من انتماء إلى الثقافة العربية الحديثة هو أنها تكتب ما تكتبه باللغة العربية، ولعل أهم ما قامت به في صنيعها ذاك، هو أنها عرضت على الأمة العربية ثقافة الغرب، لا عن طريق الترجمة المباشرة، بل عن طريق تمثلها لتلك الثقافة ثم عرضها بأسلوب حي، فيه روحها وشخصيتها، فلئن كانت الفئة الكبيرة التي لاذت بالماضي بغير تعديل، قد خرجت من ميدان المواجهة بالفرار؛ فإن هذه الفئة الصغيرة التي دمجت نفسها في حاضر الغرب كما هو، قد خرجت هي الأخرى من ميدان المواجهة بالذوبان في عالم غير عالمهم، وتبقى بين أيدينا جماعة واحدة، هي التي اضطلعت بالمواجهة الثقافية بكل ما في هذه الكلمة من أبعاد، وأعني تلك الجماعة التي تستقطب جمهور المثقفين، والتي جعلت همها أن تسوق ثقافة العصر في مقولات الثقافة العربية كما عرفها التاريخ.
4
ولكن ما هي ثقافة العصر التي نواجهها أو لا نواجهها؟ أحسب أننا في هذا الموضوع مطالبون بشيء من التحديد؛ فأغلب الظن أن تمر كلمة «العصر» على قارئها أو سامعها، فيعدها اسما كالأسماء التي نسمي بها الأشياء لنميز بعضها من بعض، وحقيقة الأمر غير ذلك؛ لأن «العصر» ليس شيئا محددا يشار إليه بقولنا هذا هو، وإنما هو خضم من الأحداث والكائنات تتشابك حينا وتتفكك حينا آخر، وهي ما تنفك في حركة دائمة تحذف منها وتضيف إليها، فإذا تذكرنا أننا فوق ذلك كله نتحدث عن فترة زمنية بلغت ثلاثة أرباع القرن؛ أدركنا كم هو جزاف أن نرسل القول الواحد ليشير إلى هذا المركب كله دفعة واحدة.
فأقل درجات الحيطة والحذر، تقتضينا ألا نطلق التعميم الواحد ليشمل أهل هذا العصر جميعا؛ وذلك لأن «العصر» ليس واحدا بالنسبة للجميع، فقد يعيش رجلان في محيط واحد، وفي لحظة واحدة، فإذا كل منهما قد انصرف بانتباهه إلى جانب غير الجانب الذي انصرف إليه زميله؛ فينتج عن ذلك أن يكون لكل منهما عصره، برغم اشتراكهما في أرض واحدة تظلهما لحظة بعينها، والأمثلة من حولنا تعد ألوفا لأفراد من الناس يعيشون معا في محيط زمني واحد، ومع ذلك فقد اكتفى أحدهم من ذلك المحيط بطعامه وثيابه ، وأما فكره فقد اختار أن يقيم في فترة زمنية سلفت، بينما استدبر غيره ذلك الذي سلف، لا يكاد يدري من أمره شيئا، ليعيش بفكره مع ما تصدره مطابع اليوم عن مشكلات اليوم، أنقول عن هذين إنهما يعيشان في عصر فكري واحد؟! خذ مذاهب الفلسفة - مثلا - تجد لكل مذهب عرفه الناس داعيا ونصيرا في عصرنا هذا، فما يزال بيننا دارسون هم من أعظم الدارسين، قصروا أنفسهم على الفلسفة الأفلاطونية، أو الأرسطية، أو على مذاهب المتكلمين، أو المتصوفة من المسلمين، أنقول عنهم إنهم ليسوا من أبناء العصر دون أن نجاوز الحق؟!
وإن الأمر في ذلك لتشبيه «بالبيئة» الطبيعية التي تحيط بعدد من الناس، فيظن للوهلة الأولى أن هؤلاء جميعا يعيشون في بيئة واحدة، فإذا ما أمعنت النظر قليلا ألفيت كلا منهم قد اتجه بنظره واهتمامه إلى جانب من البيئة غير ما اتجه إليه جاره؛ فقد يكون هذا الجار فلاحا يتقن زراعة أرضه، ثم لا يهمه بعد ذلك شيء، على حين أن صاحبنا الأول دارس للآثار، أو باحث عن البترول، أو فنان جاء ليرسم لوحاته من وحي هذا المكان، فالمكان واحد، لكنه بالنسبة للرجلين بيئتان مختلفتان.
ونعود إلى سؤالنا الأول: ما ثقافة العصر التي نواجهها أو لا نواجهها؟ إنها يقينا ليست كل فكرة جرى بها قلم في صحيفة أو كتاب، بل هي مختارات من تلك الحصيلة الكبرى، وجدناها ذات صلة مباشرة بحياتنا ومصيرنا، فوقفنا عندها قبولا أو رفضا أو تحليلا ينتهي بتعديل وتبديل، إن الحدث الواحد قد يكون أضخم حدث بالنسبة لسوانا، ولكننا حياله متفرجون، وهل في هذا العصر ما هو أضخم من إطلاق الصواريخ التي تغزو الفضاء؟! فلعلي أفجأ القارئ إذا ما زعمت له بأن هذه الضجة الكبرى تكاد لا تكون جزءا من ثقافة عصرنا نحن، التي نواجهها أو لا نواجهها، لكن قارن ذلك بحدث آخر، هو إقحام إسرائيل على أرضنا، وانظر بأي معنى وإلى أي مدى قد دخل هذا الجانب من الاستعمار الذي هو من علامات العصر، في دنيانا الثقافية، بحيث لم يعد منا واحد يستطيع أن يغض عنه النظر.
فالعصر إذن من الوجهة الثقافية، وبالنسبة إلى الثقافة العربية الحديثة على وجه التحديد، هو تلك الأفكار والأحداث التي مست حياتنا فأثارت اهتمامنا عن إخلاص لا تكلف فيه، ولا جدال في أن أخطرها جميعا وأعمها شمولا وأعمقها أثرا، هو القفزة الهائلة التي قفزتها العلوم الطبيعية في عصرنا، بكل ما تبعها من نتائج، كانت إحداها سعار المستعمرين، وكانت الأخرى خشية منا على الدين أن تهتز مكانته في نفوس المؤمنين، فلو تقصينا ما كتبه الكاتبون حول هذين المحورين: ما كتبوه دفعا للمستعمر ودفاعا عن الحرية، ثم ما كتبوه بيانا لقوة الدين أمام غزوات العلم الجبارة؛ تارة بالتدليل على أن الدين والعلم لا يتناقضان، وتارة أخرى بالتقليل من شأن العلم بالقياس إلى الدين؛ أقول إنا لو تقصينا ما كتبه الكاتبون حول هذين المحورين، لوجدناه قد ملأ رقعة فسيحة من مجال نشاطنا الثقافي الحديث.
والتشابه - كما ترى - شديد بين وقفتنا اليوم في مواجهة العصر ومؤثراته، وبين وقفة أسلافنا في مواجهة مثلها؛ ففي كلتا الحالتين كان الوافد «عقلا»، لولا أن هذا العقل في الحالة السابقة تمثل في الفلسفة اليونانية، وهو في الحالة الحاضرة متمثل في العلوم الطبيعية، لكن جوهر المواجهة واحد في الحالتين: في الماضي حاول أسلافنا إما أن يدللوا على أن التوافق تام بين نتاج العقل وإملاء الوحي، وإما أن يبينوا أن الثقافة العقلية الدخيلة ليست بذات نفع، إن لم تكن ضارة بإيمان المؤمنين، وكذلك في حالتنا الراهنة قد وقفنا الوقفة نفسها أمام العلوم الغازية؛ فإما - وهو الأغلب - جعلنا لها ميدانا وللدين ميدانا آخر، بحيث لا يتعارضان، وإما استخففنا بمزاعم العلم، إيمانا منا بأن الروابط السببية التي يعتز بها العلم، قد تنفصم بقدرة القادرين من أصحاب الخوارق ومن إليهم.
ومهما يكن من أمر؛ فذانك عنصران من مقومات «العصر» التي واجهتها الثقافة العربية الحديثة: المطالبة بالحرية السياسية، ثم بالحرية على إطلاقها في شتى الميادين، والدفاع عن الدين ضد أي تشكك محتمل نتيجة لسيادة العلوم الطبيعية ونجاحها الذي خطف الأبصار، تضاف إلى هذين العاملين عوامل أخرى تتفرع عنها؛ منها ما قد أدى إليه الاقتصاد الحديث القائم على العلم والصناعة من فجوة هائلة بين الغني والفقير، سواء كان ذلك على مستوى الأفراد أو على مستوى الأمم؛ ما أنشأ موضوعا خطيرا تحدى رجال الفكر والأدب، ألا وهو المساواة العادلة بين الناس كيف تتحقق، وما صورة المجتمع التي تعمل على تحقيقها، ومن تلك العوامل أيضا تلك المقارنات العجيبة التي كثرت وتنوعت، في محاولة الكشف عن طبيعة الإنسان ما هي؟ أهو العقل أم الوجدان؟ أهو الشعور الواعي أم اللاشعور؟ وكذلك من العوامل التي تحرك ثقافة العصر، فواجهناها نحن بالقبول أو الرفض؛ تحديد العلاقة بين الإنسان والعالم الذي يعيش فيه، ترى هل تفصل بينهما الفواصل بحيث يمكن القول بأن الذات الإنسانية في طرف والعالم في طرف آخر، أم أن الإنسان ظاهرة طبيعية كأي ظاهرة أخرى؟ ... تلك وأمثالها أسئلة ملأت ثقافة العصر، ورددنا عليها بمواجهات تنوعت باختلاف المفكرين والأدباء.
على أن ذلك كله إجمال، وسبيلنا الآن أن نفصله.
صفحة غير معروفة
5
يستهل الشهرستاني كتابه «الملل والنحل» (القرن الثاني عشر الميلادي) بفقرة يوضح فيها منهجه في عرض المذاهب الفكرية التي ينوي عرضها، فيقول: إن هنالك طريقتين في الترتيب؛ الأولى أن نتخذ من المسائل أصولا، ثم نورد في كل مسألة مختلف الطوائف والرجال الذين تحدثوا فيها فنقارن بينهم، والثانية أن نتخذ من الرجال والمؤلفين أصولا، ثم نورد مذاهبهم في مختلف المسائل، ثم يقول إنه اختار لنفسه الطريقة الثانية.
وأراني أميل إلى الجمع بين الطريقتين، بحيث تكمل إحداهما الأخرى؛ فلقد أسلفت القول - بناء على الطريقة الثانية - إن رجال الثقافة العربية الحديثة ينقسمون طوائف ثلاثا في مواقفهم من العصر وقضاياه: فطائفة منها رفضت العصر ولاذت بالتراث وحده، كمن تطرفوا في وجوب الأخذ بمبادئ الشريعة في تنظيم الحياة، وكمن تناولوا الفكر بمثل ما تناوله مصطفى صادق الرافعي، وطائفة ثانية قبلت العصر بحذافيره؛ فإذا تعارض مع أحوال التراث العربي رفضوا التراث، مثل فرح أنطون، وسلامة موسى، وسعيد عقل، وأما الطائفة الثالثة؛ فهي التي صنعت لنا ثقافتنا العصرية؛ لأنها هي التي زودت نفسها بكلا الزادين: الثقافة العربية الأصيلة، وثقافة عصرنا، وأخرجت منهما مزيجا، هو الذي نطلق عليه بحق «الثقافة العربية الحديثة»، وفي مقدمة هؤلاء: طه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم، وأمين الريحاني، وميخائيل نعيمة، وسائر من سار على هذا النهج القويم.
وعلى أساس هذه الطائفة الثالثة وحدها، نطبق أول المنهجين اللذين ذكرهما الشهرستاني، وهو المنهج الذي يتخذ من «المسائل» أصولا له؛ فما علينا إلا أن نعرض لأمهات القضايا التي جذبت انتباهنا وأثارت اهتمامنا من مشكلات العصر؛ لنرى كيف عالجها رجال الطائفة الثالثة هؤلاء، فنعلم أنهم في معالجتهم لها، كانوا عربا وكانوا معاصرين في آن معا؛ فقد كانوا عربا بما حافظوا عليه في أنفسهم من أسس هي نفسها الأسس التي قام عليها البناء الثقافي العربي منذ قديم، وكانوا معاصرين بمادة الموضوعات التي تناولوها.
وأولى القضايا هي قضية العلم، وما استتبعه من تقنية وصناعة؛ فمهما تكن لعصرنا هذا من خصائص تميزه، فهو عصر العلم التقني بلا نزاع، وما كان أحد منا ليتردد في قبول هذا العلم النظري، من حيث نتائجه، ولا من حيث تطبيقاته، وكيف له أن يتردد في حقائق من شأنها أن تقلب وجه الحياة المادية نحو الأصح والأمتع والأيسر؟! بل إننا على مدار الخمسين عاما الأخيرة، استطعنا أن نحول التعليم في مدارسنا وجامعاتنا، من تعليم كان أقله علما وأكثره مواد إنسانية، إلى تعليم أصبح أكثره علما وأقله تلك المواد الإنسانية - كما يسمونها.
إلى هنا ولا إشكال، ولكن ذلك كله - عند النظر الفاحص - لا يعدو السطح الظاهر إلى الباطن الخبيء، إن أخذنا العلم من حيث نتائجه وطرق تطبيقه في أجهزة نستخدمها في البيوت وفي المصانع؛ لم يجاوز هذه القشرة العملية الظاهرة بحيث يتغلغل إلى الداخل فيغير من وجهة النظر؛ وذلك لأننا أخذنا الثمرة ولم نأخذ الشجرة بجذورها، أخذنا النهاية ولم نأخذ المنهج الذي أدى إليها، والنظرة التي تضمنتها؛ فالعلم العصري ينطوي على أسس ليست هي الأسس التي عرفناها في بنائنا الثقافي العربي، فكان لا بد لنا من أحد أمرين: إما أن نرفض البناء الجديد كله أسسا وجدرانا، وبذلك نعزل أنفسنا عن العصر عزلا تاما، وإما أن نقبله أسسا وجدرانا كذلك، وبذلك نخرج على نظرتنا ذات الطابع المتميز، وكان هذان الموقفان هما بالفعل موقف الطائفتين الأولى والثانية على التتابع، من الطوائف الثلاث التي ذكرناها، لكن فاجأتنا الطائفة الثالثة - التي هي العمود الفقري للثقافة العربية الحديثة - بموقف وسط، فيه مرونة برغم ما فيه من مفارقة منطقية؛ وذلك أن أصحابها قبلوا العلم ورفضوا الأسس التي ينطوي عليها، كأنما هم قبلوا الجدران المقامة ورفضوا الركائز التي أقيمت عليها هذه الجدران، ولا عليهم أن يقال لهم إن ذلك لا يتسق مع الصورة المنطقية الشكلية، ما داموا قد وجدوا في هذا الموقف ما يريح الأنفس ويحل الإشكال.
وذلك أنك لا تستطيع أخذ العلم النظري الحديث، دون أن تفطن إلى أنه قد انبنى على تغيير في وجهة النظر، نقل الإنسان من البحث عن «أسباب» الظواهر، إلى البحث عن «قوانينها»، وقد كان البحث التقليدي عن الأسباب، ثم عن أسباب الأسباب، وهلم جرا، ينتهي بالفلاسفة دائما إلى ما كانوا يسمونه «بالعلة الأولى»، أو السبب الأول، وكانت هذه العلة الأولى - في تصورهم - لا تكتفي بذاتها إلا إذا كان من طبيعتها أن تحرك سواها، لكنها هي نفسها ساكنة وثابتة، والقول بالعلة الأولى يتفق مع الإيمان الديني بوجود الله، وهو إيمان رأينا أنه يقع في الصميم من البناء الثقافي العربي على طول العصور، فإذا جاءت النظرة العلمية اليوم واستغنت عن الأسباب في تسلسلها، وقنعت بالصيغ الرياضية التي تؤلف مجموعة القوانين العلمية، فقد انحصرت في «الطبيعة» ذاتها؛ كيف تتفاعل عناصرها، وعلى أي القوانين تسير؟ وطرحت من حسابها سؤالين كان لهما فيما مضى كل الخطر: ما الذي أحدث ...؟ وإلى أي غاية ...؟
ها هنا يقع الحرج للمثقف العربي الذي لا يجد بدا من مسايرة العصر في علمه وتقنياته وتطبيقاته، وها هنا أيضا وجد رجال الطائفة الثالثة التي أشرنا إليها، الشجاعة والمهارة معا ليعلنوا حكمهم بأن «العلم وحده لا يكفي» وعند هذه النقطة يكمن أعمق جذر في مواجهة الثقافة العربية الحديثة للعصر؛ فليس منا واحد لم يحس في نفسه القلق الشديد إذا طولب ببتر الطرفين من مجال النظر: طرف القوة التي أحدثت، وطرف الغاية التي من أجلها أحدثت؟ وفي يقيني أنه حتى أولئك الذين أرادوا أن يكونوا علميين تجريبيين بكل ما تقتضيه وجهة النظر الجديدة؛ لم يستطيعوا مصالحة أنفسهم، وبقي القلق في ضمائرهم يؤرقها، إذن فهذه هي نظرتنا التي تريحنا، وهي أن نضيف إلى عالم الشهادة غيبا مستورا، وإذا كان عالم الشهادة بحاجة إلى مشاهدة وتجربة لإدراكه، فالغيب إدراكه يبنى على إيمان.
ولك بعد ذلك أن تطالع ما كتبه أعلام الثقافة العربية الحديثة من هذه الزاوية، لتجد صحائفهم مليئة بهذا التطلع الذي يجاوزون به المادة، دون أن يتنكروا للعلم المؤسس على هذه المادة وطبيعتها؛ إيمانا منهم بأن التعلق بما وراء المادة، إضافة تنفع الإنسان ولا تنقص من العلم شيئا، ويكفينا هنا مثالان أو ثلاثة، نسوقها من هؤلاء الأعلام:
كان طه حسين عقلانيا خالصا، على نهج العلم والعلماء، حين أصدر كتابه عن «الأدب الجاهلي» سنة 1926م، حتى ظن الناس أنه قد ذهب مع عقلانية العصر إلى المدى الذي ينسيه روح الثقافة العربية، حتى إذا ما أقبل على الناس عام 1933م، أصدر لهم طه حسين رائعته الأدبية «على هامش السيرة» وفي مقدمة هذا الكتاب، يقول: «أنا أعلم أن قوما سيضيقون بهذا الكتاب لأنهم محدثون، يكبرون العقل، ولا يثقون إلا به، ولا يطمئنون إلا إليه؛ وهم لذلك يضيقون بكثير من الأخبار والأحاديث التي لا يسيغها العقل ولا يرضاها .. وأحب أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وأن للناس ملكات أخرى ليست أقل حاجة إلى الغذاء والرضى من العقل».
صفحة غير معروفة
وأما توفيق الحكيم، فتكاد كل مسرحية من مسرحياته تفصح عن هذه العقيدة، وهي عقيدة طالما ساقها الكاتب صريحة لا تحتاج منك إلى استدلال وبحث؛ فهو يؤمن أعمق الإيمان بوجود قوة غيبية لا قبل للإنسان بردها، فإن أوهمه عقله المحدود بأنه قادر على فرض إرادته، حدثت الفاجعة ونزلت المأساة ، فلا مندوحة للإنسان عن حصر معرفته العقلية في حدودها، تاركا لإيمانه ما وراء تلك الحدود، وإنا لنرى الكاتب في «عصفور من الشرق» يخاطب الغرب، الذي أخذه الغرور بعلمه، فيقول: «ماذا صنع لنا العلم؟ وماذا أفدنا منه؟ الآلات التي أتاحت لنا السرعة؟ وماذا أفدنا من هذه السرعة؟ البطالة التي تلم بعمالنا، وإضاعة ما يزيد من وقت فراغنا فيما لا ينفع ...» ولكنه برغم هذه النبرة اليائسة من العلم وحضارته، لا يريدنا أن نستغني عنه؛ فهو لا يفتأ يذكرنا مسرحية بعد مسرحية، أن على العقل أن يرتاد الكون إلى آخر مستطاعه، ثم يسلم الزمام بعد ذلك لإدراك الوجدان.
وتقرأ العقاد نثرا أو شعرا، فترى العقيدة نفسها؛ فالكون عنده روح نلمسها بيد من المادة؛ أي إن الروح هي حقيقة الوجود، والمادة وسيلتنا إلى معرفتها، وأن هذه الطبيعة بكل ما فيها لهي ألسنة تنطق بالروح الكامنة وراءها؛ ولذلك فليس العقل، وليست الحواس (وهذه هي أدوات العلم) بمستطيعة وحدها أن تدلنا على الحق، وإنما وسيلتنا إلى إدراك الحق هي الوجدان.
6
ومن الأفكار التي ميزت عصرنا، واستجابت لها الثقافة العربية الحديثة بضروب شتى من المواجهة العنيفة التي بلغت حد الثورات الشعبية الجارفة، فكرة «القومية»، وهي فكرة تمتد جذورها إلى أول يوم قامت فيه تجمعات بشرية، لكنها اكتسبت في عصرنا أبعادا جديدة، جعلتها - مع التجوز - تعد من معالم العصر البارزة، فمن أعجب المفارقات أن هذا العصر قد شهد من وسائل الاتصال ما لم يحلم به أي عصر مضى، بحيث باتت أبعد مطارح الأرض رهنا بدفعة صغيرة من إصبع، فإذا أنت هناك، ومع ذلك؛ فقد فرقت بين شعوب هذا العصر فواصل لم يشهدها عصر آخر، فكأنما خشي الناس - من أبناء هذا الوطن أو ذاك - أن تغمرهم موجة التقارب، فإذا هم قد أضاعوا خصائصهم المميزة، فطفقوا يشددون القبضة على كل علائم التمييز: اللغة والعادات والثياب والفنون الشعبية، وغيرها وغيرها، فزاد ذلك من ظهور الفوارق القومية شدة، وكلما كان اللقاء بين الأمم على صعيد دولي أوسع؛ كان الحرص على إبراز الخصائص القومية أشد وأقوى.
ولقد تلازمت فكرة القومية في بلادنا بفكرة الحرية السياسية، وكان ذلك أمرا طبيعيا؛ لأننا وقد خرجنا من سلطان الأتراك لنقع في قبضات المستعمر الغربي، لم نجد حافزا يجمع قوانا في حركة المقاومة أفعل أثرا من الدعوة إلى ضم صفوفنا تحت راية القومية، وإذن فنستطيع القول بأن صدامنا مع المستعمرين، كان هو الذي ألهب شعورنا بقوميتنا، لكنها لم تكن «قومية» بمعنى واحد على طول الطريق، بل بدأت قوميات إقليمية، وانتهت إلى قومية عربية مشتركة، وتخللت هذه وتلك نداءات إلى قوميات طائفية؛ كالفرعونية في مصر، والفينيقية في لبنان.
والذي يهمنا في موضوعنا هذا، هو ما أحدثته هذه الحركة القومية بشتى معانيها وأهدافها، من صلات ثقافية بيننا وبين مصادر الثقافة العصرية، وحسبنا في هذا المجال أن نذكر أن عشرات المؤلفين الذين كتبوا مئات البحوث والكتب في موضوع القومية، يكادون جميعا يكونون ممن استمدوا ثقافتهم من معين الثقافة الغربية، ويندر جدا أن تجد مؤلفا واحدا ذا خطر في هذا الميدان ممن اقتصرت ثقافتهم على تراثنا العربي وحده، فماذا يعني ذلك إلا أن تكون فكرة «القومية» من النقاط المهمة التي حدثت عندها مواجهة ثقافية بيننا وبين عصرنا؟ لقد كنا في هذا الميدان كالمحارب الذي يستمد سلاحه من عدوه ليحاربه به، اقرأ مثلا هذه الفقرة المأخوذة من خطاب لمفكر عربي ألقاه في مؤتمر عربي: «إن الجماعات في نظر علماء السياسية لا تستحق هذا الحق (حق القومية الواحدة) إلا إذا جمعت - على رأي علماء الألمان - وحدة اللغة ووحدة العنصر، وعلى رأي علماء الطليان وحدة التاريخ ووحدة العادات، وعلى مذهب ساسة الفرنسيس وحدة المطمع السياسي. فإذا نظرنا إلى العرب من هذه الوجوه الثلاثة، علمنا أن العرب تجمعهم: وحدة لغة، ووحدة عنصر، ووحدة تاريخ، ووحدة عادات، ووحدة مطمع سياسي؛ فحق العرب بعد هذا البيان أن يكون لهم - على رأي كل علماء السياسية دون استثناء - حق جماعة، حق شعب، حق أمة.» فلنلحظ هنا كيف يبني المفكر العربي حق العرب في أن يكونوا قومية واحدة، على مذاهب الغرب ، ليكون مفهوما لأبناء الغرب حين يتحدث إليهم بلغتهم.
وإنه لجدير بالذكر هنا أن نقول إنه إذا كانت القومية حلما يتغنى به الشعراء أو أئمة السياسة، فإن الفضل في ذلك درجة ثقافتهم، ولم تعد فكرة تقتصر على علية المثقفين، أو حلما يتغنى به الشعراء أو أئمة السياسة، فإن الفضل في ذلك هو لرجال الثقافة العربية الحديثة، الذين كتبوا وكتبوا، وشرحوا وشرحوا، حتى بلغت الدعوة كل فرد من أبناء الأمة العربية من أقصاها إلى أقصاها، فلربما وجدت هذه الأمة مختلفة على قادة السياسة، لكنك واجدها على اتفاق يكاد يكون تاما على المثقفين، فالشاعر الكبير، والكاتب المرموق، يتخطى حدود إقليمه ليصبح شاعر الجميع، وكاتب الجميع، بغير تمييز ولا تفرقة، فلا نقول عن أحمد شوقي إنه من مصر، ولا أمين الريحاني إنه من لبنان، ولا معروف الرصافي إنه من العراق، ثم لا نميز بالقومية الإقليمية طه حسين، أو العقاد، أو الزهاوي، إلا على سبيل استيفاء الملامح الفردية لكل منهم، وأما من حيث الواحد منهم شاعر أو كاتب، فهو عربي وكفى.
ولعل فرعين تفرعا من «القومية» بمعناها السياسي، أن يكونا أجدر باهتمامنا في موضوعنا، وهما: اللغة العربية، وهل نأخذ بعامياتها المتنوعة، أو بفصحاها المشتركة؟ ثم اللغة العربية، وهل نكتبها بأحرف عربية أو نكتبها بأحرف لاتينية؟ فهاتان مشكلتان اشتجر حولهما خلاف بين المثقفين، حتى لنراهما تكونان جانبا ملحوظا في تاريخنا الثقافي الحديث، نعم، إن مشكلة الكتابة بأحرف عربية أو لاتينية قد أوشكت على الزوال، بعد أن اشتد صراخها في ثلاثينيات هذا القرن وأربعينياته، لكن مشكلة الفصحى والعامية ما زالت قائمة على أشدها، وربما كان ذلك بسبب النهضة المسرحية، التي استدعت منا تفكيرا جادا في لغة الكتابة المسرحية ماذا تكون، ثم تتسع المشكلة عند نفر قليل، لتشمل الكتابة على إطلاقها.
لقد ارتبطت فكرة «القومية» بالاهتمام باللغة ارتباطا عضويا، لا يجعل إحداهما بمعزل عن الأخرى، مهما يكن موقف الكاتب، لكننا نستطيع المجازفة بشيء من التعميم المقبول، إذا قلنا إنه كلما أحس الكاتب رغبة مخلصة في تدعيم للقومية العربية ؛ أحس بالتالي ضرورة أن تحافظ اللغة الفصحى على مقوماتها، والعكس صحيح، فكلما أراد الكاتب - عن قصد مباشر أو غير مباشر - مناهضة القومية العربية لأي سبب من الأسباب - طائفيا كان السبب أو ثقافيا - أراد بالتالي أن يلتمس وسيلة يتذرع بها إلى التخلص من الفصحى وما يتبعها من أصول وقواعد ومفردات، ولقد رأينا جميع من تناولوا القومية العربية بالبحث العلمي من كتابنا - ساطع الحصري، وأنطون زريق، وحازم نسيبة، وغيرهم كثيرون - يختلفون حول العوامل المكونة لتلك القومية، أيها يتقدم أيها في قوة الأثر، لكنهم يتفقون على أن اللغة لها المكانة الأولى في بناء القومية العربية.
ومجرد الاهتمام باللغة - على أي وجه كان - هو اهتمام بتجديد العلاقة بين حاضرنا وماضينا، لكننا نزيد الأمر تخصيصا فنقول - مع إدوارد سابير في كتابه «اللغة» - إن اللغة من حيث هي أداة للثقافة، تقع في مستويين؛ فهناك المستوى الذي تكون فيه العلاقة بين اللغة والواقع الحسي علاقة مباشرة، أو كالمباشرة، فإذا تحدث المتحدث كان السامع يتابع حديثه وعينه على شئون الواقع، ليطابق بين الرمز اللغوي من جهة، وأوضاع العالم الفعلية من جهة أخرى، لكن هنالك مستوى آخر للغة، وذلك حين يصوغ المتكلم أو الكاتب عبارته، فإذا بها تقع على أذن السامع وكأنها هابطة من مصدر مجهول، وهنا ترانا نصغي، وندرك الحق فيما نسمعه، دون أن يدور في خلدنا أن يكون مصدر هذا الحق ما حولنا من شئون الحياة الجارية، فكأنما أمثال هذه العبارات ليس لها صاحب يحتكرها، أو كأن الوجود كله عندئذ هو الذي يتكلم العربية بهذه العبارات، ليصور بها جوانب من الحقائق الأزلية الأبدية.
صفحة غير معروفة
ونعود إلى الهيكل الصوري الذي أشرنا إليه في أول هذا المقال، زاعمين أنه بين قوائم الثقافة العربية الأصيلة، فقد كان أهم ما ذكرناه عندئذ، مقابلة بين «المطلق» و«عالم الحوادث»، وما لم تكن وقفة المثقف العربي - مهما يكن ميدانه - وقفة تجمع بين هذين الطرفين، لا من حيث يكون «المطلق» استخلاصا من عالم الحوادث الجزئية، بل من حيث هو موجود واجب الوجود، يفرض نفسه على مجرى الأحداث، فمثل ذلك المثقف يبتر الصلة بينه وبين «الأصالة» بالمعنى الذي يرد «الأصالة» إلى الأصول الأولى، وعلى أساس ذلك الهيكل الصوري للثقافة العربية، نقول إن اللغة العربية التي كونت تراثنا الأدبي، هي لغة صادرة عن المستوى الثاني - المستوى الأعمق - الذي قلنا عنه إن العبارة الصادرة عنه تجيء وكأنها لغير متكلم فرد، أو كأنها قيلت بلسان الكون كله، ولعله لا يصعب على المتعقب أن يلاحظ أن الفرق الجوهري بين أنصار «القديم» وأنصار «الجديد» في حياتنا الثقافية الحديثة، هو في طريقة استخدام اللغة: استخدامها بالطريقة المبهمة الموحية كما كان شأنها، وبذلك نجعلها وكأنها هي صادرة عن «المطلق» من فوق رءوس الحوادث، أم نستخدمها بالطريقة الواضحة المباشرة التي نتتبع بها حوادث الحياة الجارية، ووقائع الطبيعة المحسوسة؟ لو كانت الأولى كنا من أنصار «القديم»، ولو كانت الثانية كنا من أنصار «الجديد»، ونترك لصاحب الموهبة أن يلتمس لنفسه طريقا يجمع بينهما، فيكون هو الكاتب الذي جمع التجديد إلى الأصالة، كما هي الحال مع طه حسين، وغيره من أعلام الأدب العربي الحديث.
7
بدأ العالم العربي الحديث صلاته بحضارة عصره، حين جاءته هذه الحضارة غازية غالبة متسلطة؛ فما هي إلا أن زالت عنه الدهشة، حتى أخذ يحاول الخلاص؛ لذلك كانت فكرة «الحرية» نقطة تماس بين المقهور والقاهر، وكما هي الحال في سائر الميادين، أخذنا المبادئ النظرية من الغرب الظافر، لنحاربه بها، وإلا فلو اعتمدنا على محصولنا الموروث وحده في المطالبة بالحرية والاحتجاج لها؛ لما وجدنا ما يحقق الغاية.
بدأنا بفكرة الحرية السياسية، كما نرى عند مصطفى كامل، وأحمد لطفي السيد، وعبد الرحمن الكواكبي، وغيرهم، لكن سرعان ما تفرع معنى الحرية وتعددت أوجهه؛ من حرية المرأة عند قاسم أمين، إلى حرية الأديب والشاعر في اختيار مادته وأسلوبه، وفي هذا كان لكل فترة روادها، فالعقاد وزميلاه، عبد الرحمن شكري وإبراهيم المازني، في الربع الأول من القرن، وجماعة الرومانسيين، التي أطلقت على نفسها جماعة أبولو في ثلاثينيات القرن، ثم دعوة إلى أن يكون الأدب هادفا نحو عدالة اجتماعية بين الناس؛ وذلك بعد الحرب العالمية الثانية، وما استهل عقد الخمسينيات حتى توالت الثورات الشعبية، بادئة بثورة مصر سنة 1952م، ثم في العراق، وسوريا، والجزائر، واليمن، والسودان، وليبيا، من أقطار الوطن العربي، تعمل كلها على توسيع معنى الحرية، ليجاوز الحرية السياسية ويشمل الحرية الاجتماعية كذلك.
ولسنا نذكر هذه اللمحة الخاطفة عن موضوع «الحرية» وإلى أي مدى بعيد شغل، وما زال يشغل، الثقافة العربية بكل أبعادها، أقول إننا لا نذكر هذه اللمحة الخاطفة من موضوع «الحرية» لتؤدي ما يؤديه تاريخ سياسي يكتب عن الوطن العربي في عصره الحديث، بل نذكرها لنسأل على ضوئها: كيف كانت مواجهة الثقافة العربية للعصر في هذا الميدان؟
فضلا عن مواجهة الصراع السياسي الذي أنتج لنا مقالات سياسية ممتازة على أيدي كبار كتابنا، مما لا أظن القارئ بحاجة إلى مزيد من معرفة به، أود أن أسوق ضربا آخر من المواجهة في ميدان «الحرية» قد لا يرد ورودا سريعا على الخواطر، وهو مواجهة «الشمولية» في السياسة وفي الصناعة، بموقف يصون للأفراد حياتهم، حتى لا تنجرف في التيار، نعم، إن هذه المقاومة ملحوظة أيضا في ثقافة الغرب العصرية نفسها، بما قد نشأ هناك من فلسفة وجودية، تعطي للفرد حق الحياة المستقلة المسئولة بقرارات يتخذها في المواقف التي تصادفه، وتتطلب منه القرار على طريق دون طريق، وهي وجودية تبدأ بالفلسفة لتنتشر إلى كل ضروب الثقافة من أدب وفن؛ حرصا منها على ألا يتجانس الأفراد بفعل المحاكاة وحدها، كأنما هم آلات صبت في قالب واحد، فلو تركنا عوامل العصر - سياسية كانت أم صناعية - تفعل فيها بغير تدخل منا، لأنتجت الإنسان ذا البعد الواحد - على رأي هربرت ماركيز في كتابه المعروف بهذا العنوان - وهذا البعد الواحد هو ما يتجانس به الفرد مع سائر الأفراد، لكن فطرة الإنسان تدعوه في إلحاح إلى أن يتميز من سواه، وإذن فلا بد من إضافة عمق التمييز إلى سطح التجانس؛ ليجيء الإنسان بسطحه وبعمقه متكامل التكوين، يحقق الهدفين: التفرد بما يميزه، والتجانس مع غيره بما لا يميزه.
ولقد سارعت الثقافة العربية المعاصرة إلى التقاط خيوط المذهب الوجودي، حتى قبل أن يصاب الناس في الوطن العربي بكل ما من شأنه أن يصيبهم لو اكتملت لهم حياة العصر من علم تقني وصناعة، ولا غرابة أن نجد أطرافا متناثرة من المذهب الوجودي على أقلام كتابنا وشعرائنا، حتى لقد أصبح هذا المذهب جزءا مألوفا من ثقافة العامة، فضلا عن الخاصة من المثقفين، لكننا لو وقفنا عند هذا الحد - وعند هذا الحد يقف أكثرنا - نكون قد محونا أصالتنا؛ إذ لا يكون ثمة فرق بين عربي وفرنسي وإيطالي في وجهة النظر، ما داموا جميعا يشتركون في صورة واحدة من مقاومة العصر في نزوعه نحو طمس الفردية من الأفراد.
والذي حدث هو أن رجالا من الفئة الممتازة التي تصنع لنا الثقافة العربية الحديثة، لكي تجمع بين الجديد والأصيل، لجأت إلى الإطار الثقافي العتيد، واستعانت به في توكيد الفردية للأفراد، فوجدته في ذلك - والحق يقال - خير معين؛ لأنه إطار قائم أساسا على موضوعية القيم، وأعني أن طريق الإنسان في حياته - من حيث معايير الصواب والخطأ - مرسوم له بمجموعة من المقاييس، أعطت له إلهاما ووحيا، وهذه المقاييس الموحى بها لتهدي عالم الحوادث، مشحونة بما يذكر الإنسان الفرد أنه فرد مسئول عما يأخذ وعما يدع، باختياره الحر، وانظر إلى رجال الأدب والفكر جميعا، واحدا واحدا، فلا تكاد تجد منهم أحدا لم يلجأ إلى تصوير البطولات العربية التقليدية، تصويرا يراد به تجسيد القيم الأصيلة في تراثنا، وهي قيم لا تدع مجالا لريبة مرتاب، في أن حرية الفرد حق له وواجب عليه في آن معا؛ فهو من ناحية حياته الخاصة مسئول عن اختياره يوم الحساب، وهو من ناحية حياته الاجتماعية مسئول عن تقويم المعوج حيثما رآه: العقاد ب «عبقرياته» الكثيرة، وطه حسين بمن أرخ لهم من الخلفاء الراشدين، وكذلك هيكل والحكيم، وسائر أفراد الزمرة الكريمة من حملة الأقلام، التي لم يكفها القديم وحده، ولم تندفع إلى الجديد وحده، بل صبت هذا في إطار من ذاك، فكان لنا من المركب ثقافة عربية حديثة.
ومرة ثانية؛ نلفت الأنظار إلى أن الثقافة العربية بموقفها هذا، هي بمنزلة من رفض العصر في ركن ركين من بنائه؛ ففي المرة الأولى أشرنا إلى ما تقتضيه علمية العصر من اكتفاء بظواهر الطبيعة وقوانينها، فرفضت ثقافتنا مثل هذا الاكتفاء، وأضافت باطنا إلى الظاهر، وغيبا إلى الشهادة، وها هي ذي مرة أخرى؛ تجد العصر - وهو عصر النسبية بلا جدال - قد استدبر كل فكرة تأخذ بمطلق من المطلقات الكثيرة التي كانت تأخذ بها العصور الماضية، ومنها القيم - أخلاقية كانت أو جمالية أو كائنة ما كانت - فإذا كان المكان والزمان نسبيين، تختلف عنهما الحقائق باختلاف موقع الرائي، فما بالك بتقديرات الإنسان عن الجيد والرديء والجميل والقبيح؟ إنها مسائل مرهونة كلها بما ينفع، بل ذهب أصحاب التحليلات الفلسفية في عصرنا، وهم الذين عنوا بنقد الكلام لتمييز ما يكون منه ذا معنى وما لا يكون، إلى أن العبارات الدالة على قيمة من القيم، هي عبارات بغير «معنى»، وذلك حين يقصد ب «المعنى» مقابل خارجي تشير إليه الجملة المعنية .. هذا هو العصر في وقفته إزاء «القيم»، فتجيء ثقافتنا العربية المعاصرة (وقد غضضنا النظر عمن ينحاز منا نحو الثقافة العصرية كما هي قائمة في مصادرها، بغير تعديل) وترفض هذه الوقفة التي تحيل كل «قيمة» إلى وجهة نظر ذاتية، لا يؤيدها ولا يدحضها أن تجيء عند الآخرين وجهات نظر توافقها أو تعارضها؛ فالقيم - بناء على إطارنا الثقافي الأصيل - هي كسائر الحقائق الروحية، أمور ليست من صنعنا، إنما هي هناك، نشخص إليها ببصائرنا كما نشخص بأبصارنا إلى الشمس والقمر، وعلينا أن نهتدي بهديها، كما يهتدي الملاح بالنجم القطبي الثابت، وعلى المنحرف عن هديها تقع التبعة يوم يكون الحساب.
كذلك تقف ثقافتنا العربية الحديثة موقف الرفض الصريح من معظم ما يذهب إليه العصر بالنسبة إلى حقيقة الإنسان؛ فأغلب الرأي الذي نراه منعكسا في العلوم وفي كثير من التيارات الفلسفية التي تساير العلوم (إذ هنالك تيارات فلسفية رافضة، موقفها شبيه بموقفنا) هو أن الإنسان ظاهرة من ظواهر الطبيعة، نبحثه بالمنهج نفسه الذي نبحث به سائر الظواهر؛ لأنه إذا اختلف عنها فهو اختلاف في درجة التركيب والتعقيد، لا في النوع، وإذا كانت فكرة «التطور» في عصرنا هي الفكرة ذات السيادة في كل التفسيرات العلمية والفلسفية على السواء - على اختلافهم في تحديد الخصائص الرئيسية للتطور - فإن النتيجة التي تلزم عن مبدأ التطور هذا، هي أن نفسر الأعلى بالأدنى، بمعنى أننا إذا أردنا إدراكا صحيحا لكائن من الكائنات، أو لموقف من المواقف، أو مرحلة من المراحل، فعلينا أن نحللها إلى المكونات البسيطة التي دخلت في تركيبها، وليس الإنسان بالشاذ في هذا التعميم، فإذا أردنا دراسة الإنسان دراسة علمية دقيقة تغض النظر عن «قيمته» وتحصر البحث في «حقيقته» الواقعة؛ كان حتما علينا أن نرده إلى أصوله التي نشأ عنها، وبالطبع قد كانت هذه الأصول، في مرحلة من التطور، أسبق من الفروع التي نشأت عنها، فقد نرده إلى طبائع حيوانية، بل قد نرده آخر الأمر إلى مجموعة من تفاعلات كيماوية إذا استطعنا.
صفحة غير معروفة
وتأسيسا على هذه النظرة العصرية، وجدنا مدارس علم النفس في دراستها للإنسان قد تختلف في الأصول التي ترد إليها سلوكه، لكنها تتفق في أن هذا هو منهج النظر؛ فهذه مدرسة فرويد مثلا ترد السلوك الإنساني إلى أصول دفينة من اللاشعور؛ أي إنها تفسر الطبقة العليا من كيان الإنسان بالطبقة الدنيا، وبهذا ينحل «العقل» إلى جذور ضاربة في غرائز الحيوان، وهذه هي مدرسة أخرى، أقرب إلى روح العلم الحديث من فرويد، وأعني بها مدرسة «السلوكيين»، الذين يحللون السلوك تحليلا يرده إلى أفعال منعكسة، ومرة أخرى نلاحظ أن الطبقة السلوكية العليا تفسر بالطبقة السلوكية الفطرية الدنيا.
هذا هو العصر .. ولكننا بحكم إطارنا الثقافي الأصيل، نشعر بالقلق الشديد، إذا نحن أنزلنا الإنسان هذه المنزلة التي تسلكه مع الطبيعة في عقد واحد، وإذا نحن هبطنا «بالعقل» إلى درجة تجعله وظيفة عضوية كسائر الوظائف التي تؤديها أعضاء البدن؛ لأن هذه النظرة من شأنها أن تؤدي بنا إلى إنكار ما بعد الموت، ومن ثم استمسكت ثقافتنا العربية بنظرتها التقليدية الأصيلة، التي تفرق بين بدن وروح، لتكون هذه التفرقة مدخلا إلى تفرقة أعم، ولعلها أهم، بين دنيا ودين، بين حياة أولى وحياة آخرة.
هما اتجاهان متضادان، تراهما في مختلف الثقافات ومختلف العصور؛ فإما أن يميل أصحاب النظر الفلسفي أو العلمي إلى «تعقيل» الطبيعة، وإما أن يميلوا إلى «تطبيع» العقل، الأولون «روحانيون»، والآخرون «ماديون»، والفكرة السائدة في عصرنا هذا هي أميل إلى تطبيع العقل؛ أي إلى جعل العقل ممكن التحليل، بحيث يرتد إلى ظواهر طبيعية صرف .. وهو ما ترفضه الثقافة العربية الحديثة من عصرها.
ونسأل بعد الذي قدمناه: ما موقف الثقافة العربية الحديثة في مواجهة العصر؟ فنجيب: هو موقف الرافض للمبادئ والجذور، ولا بأس عليه بعد ذلك أن يقبل بعض النتائج مبتورة عن مبادئها، ويقبل بعض الثمار مستغنيا عن جذورها التي أنبتتها.
فقد وجدنا العصر متميزا بالعلم التقني، وهو علم يقتضي وراء ذلك أن نحصر النظر فيما يخضع للتجربة من ظواهر الطبيعة، لا نمد البصر إلى ما كان قبل ذلك، ولا إلى ما سوف يكون بعد ذلك؛ فلا الأسباب الأولى تهمنا في مجال العلم، ولا الغايات تعنينا، فقبلنا من العصر نتائجه العلمية النظرية، وأجهزته وآلاته، ورفضنا أن نحصر النظر في دنيا الظواهر الطبيعية كما يحصرها.
ووجدنا العصر متميزا بالنظرة النسبية التي ترفض المطلقات حتى في الحال العلمي الدقيق نفسه، بله أن يرفضها فيما هو نسبي بطبيعته كالقيم، فقبلنا النسبية في الفيزياء وما إليها، لكننا تشبثنا بالقيم المطلقة الموضوعية، التي نزعم أنها حقائق أزلية لا سبيل إلى الاختلاف عليها بين إنسان وإنسان.
ووجدنا العصر أميل إلى أن يجعل الإنسان ظاهرة كغيرها من ظواهر الطبيعة، يخضع للبحث العلمي بالطريقة نفسها التي تخضع بها الفيزياء أو علوم الحياة، فرفضنا أن ننظر إلى الإنسان تلك النظرة التي تسوي بينه وبين سائر الكائنات.
موقف العرب من المذاهب الفلسفية
المعاصرة
من أفدح الكوارث التي يشقى بها المشتغلون «بالفلسفة» أنها - في العصر الواحد - لا تستقر لنفسها على معنى واحد، حتى لقد ينظر الرائي فإذا هو أمام ضروب من النشاط العقلي اختلف بعضها عن بعض، ومع ذلك فكلها «فلسفة» على حد سواء، ثم جاء عصر الناس هذا، فزادت الكارثة فداحة؛ لأن ضروب ذلك النشاط العقلي قد ازدادت تشعبا، وأوشكنا أن نبلغ حدا يستحيل معه الإجماع على رأي واحد، فيما عسى أن يكون مجال البحث، عندما نسمي هذا البحث «فلسفة» والباحث «فيلسوفا»؛ وذلك لأن موضع الاختلاف فيما مضى كان ينحصر - عادة - في موضوع البحث الفلسفي ماذا يكون؟ وأما اليوم فقد اتسعت هوة الخلاف، بحيث تناول منهج البحث أيضا: كيف يكون؟
صفحة غير معروفة
كان العصر الواحد - فيما مضى - يكاد يتفق على هدف واحد، يضعه المفكرون أمامهم ليشخصوا إليه جميعا بأبصارهم، ثم يكون التباين بعد ذلك في الوسيلة التي يراها كل منهم محققة لذلك الهدف، بعبارة أخرى، ربما كانت أوضح: كان لكل عصر مسألته الرئيسية يطرحها أمام الناظرين، فيكون الاختلاف بعد ذلك في «الحلول» المقترحة لتلك «المسألة» المتفق عليها من الجميع.
انظر معي نظرة عجلى إلى مراحل التاريخ الفلسفي:
فعصر «ما قبل سقراط» اتفق على مسألة واحدة؛ هي جوهر الوجود الذي يكمن وراء المتغيرات، أليس البادي أمام حواسنا هو أن الموجودات يتحول بعضها إلى بعض، فما هو اليوم تراب، قد يتحول غدا ليصبح شجرة وثمرة، فما هو ذلك الجوهر الثابت الأصيل الذي يلبس اليوم لبوسا فإذا هو تراب، ويلبس غدا لبوسا آخر فإذا هو شجرة أو ثمرة؟! كان ذلك هو السؤال، اتفق عليه الجميع، ثم اختلفت إجاباتهم عنه.
وذهب ذلك العصر اليوناني الأول، وتلاه عصر، كان سقراط فاتحته، فاختفى سؤال وظهر سؤال، اتفق عليه العصر كله، ثم اختلفت عنه الإجابات، وكان السؤال هذه المرة هو هذا: ما حقيقة الإنسان؟ وعلى أي أساس ينبغي أن يقيم سلوكه فردا ومجتمعا؟ وهكذا دار البحث حول «الإنسان» في أخلاقه وسياسته، وخيره وشره، وسعادته وشقائه، وفنائه وخلوده، لكن الرأي اختلف عندما عرض رجال الفكر الفلسفي حلولهم للسؤال المطروح.
وذهب عصر قديم، وجاء عصر وسيط - في الغرب المسيحي، وفي الشرق الإسلامي على السواء - فاتفق الفلاسفة هنا وهناك على الهدف، واختلفوا على الوسيلة؛ إذ اتفقوا جميعا على أن يكون هدفهم تحليلا لمفهومات الدين بحيث يقام البرهان على أنه لا تناقض - عموما - بين دين جاء وحيا، وبين فلسفة أنتجها فلاسفة اليونان عقلا، غير أن وحدانية الهدف لم تمنع أن يكون لكل مفكر فكرته التي يعرضها للحل.
ثم دخلت أوروبا - وحدها هذه المرة - تاريخها الحديث بنهضة أخرجتها من عصورها الوسطى، فكان السؤال الرئيس المطروح طوال قرون ثلاثة، امتدت من عصر النهضة الأوروبية - في القرن السادس عشر - إلى عصرنا هذا الأخير، الذي بذرت بذرته في القرن الماضي، هو: كيف يعرف الإنسان ما يعرفه عن الطبيعة الخارجية، أو عن نفسه الباطنية، أو عن الله؟ ولذلك رأينا معظم الجهد منصرفا إلى تحليل «العقل» لنرى كيف يعمل، فنفهم بذلك كيف حصل ما حصله من معرفة، لكن الاتفاق على السؤال لم يكن معناه أن يتفق المجيبون على جواب.
ثم جاء عصرنا هذا، فلم يكن كسوابقه متفقا - بشكل واضح ظاهر - على المسألة المطروحة، مختلفا على حلولها، بل تعددت فيه المسائل الرئيسية نفسها، فانقسم المفكرون حينها، كل فريق منهم يؤثر لنفسه إحداها دون الباقيات، ولم يكن في ذلك من بأس؛ لأنه قد يعد علامة غنى لا علامة فقر، وجئنا نحن - أعني رجال الفكر الفلسفي في الأمة العربية - وأردنا أن ننقل عن الغرب في هذا الميدان ما استطعنا نقله، فلم نقصر أمر التفرق على اختلاف في زاوية النظر، بل جاوزنا ذلك، فتحول الميدان على أيدينا ميدانا للصراع الفكري، يتبادل فيه الأطراف ألوان السباب، فضاع الحق في غمرة النقع المثار، فإذا تذكرنا ما لا بد أن يبقى مذكورا دائما، وهو أنه لا المسائل المثارة مسائلنا نحن أثرناها منبعثة عن أزمات في ضمائرنا عانيناها، ولا الحلول المعروضة حلولنا نحن، كددنا الذهن حتى انتهينا إليها، وإنما المائدة بكل ما عليها، أعدها طهاة غيرنا، ولم يكن منا إلا أن استوينا على المائدة الممدودة لنأكل، كل من الطبق الذي يشتهيه. عرفنا كيف أن صراعنا الفكري كان أجدر به سوانا؛ لأن الأمر كله بالنسبة إلينا كالشعر المستعار ، وضعناه فوق رءوسنا وضعا، دون أن ينبت من جلودنا، ويتغذى بدمائنا، ها هنا يكون التفرق تمزقا هو إلى أن يكون علامة فقر أقرب منه إلى أن يكون علامة غنى.
ومع ذلك؛ فقد كان في وسع الفكر العربي أن يقف أمام اختلافات الفلسفة المعاصرة، ليلتمس لنفسه مدخلا فيها، يكون ذا صلة بحياتنا، وفي هذا المقال محاولة في هذا السبيل، لكننا نريد أولا أن نرسم للقارئ حقيقة الموقف الفلسفي في عصرنا بخطوط عريضة؛ لعله يشارك في قبول المحاولة أو رفضها.
إن من الأفكار القديمة ما قد فقد قيمته في الموضوع الذي قيل فيه أساسا، لكنه ربما صلح وسيلة للتوضيح في موضوعات أخرى؛ من ذلك فكرة مشهورة لأرسطو عن «العلل الأربع»، التي ظن أنها السبيل إلى تعليل أي شيء نريد تعليله، فافرض مثلا أننا نعلل لتمثال مقام في ميدان من مدينة؛ فأولا: نسأل عن الفنان الذي نحته «وهذا هو ما أسماه أرسطو بالعلة الفاعلة»، وثانيا: نسأل عن الغاية التي من أجلها صنع الفنان هذا التمثال، فإذا عرفناها، كانت هي ما أسماه أرسطو بالعلة «الغائية»، وثالثا: نسأل عن المادة التي صيغ منها التمثال، فتكون هي العلة «المادية»، ورابعا: نسأل عن أسلوب صياغته، فيشار لنا إلى مقومات هذا الأسلوب، فيكون ذلك هو «العلة الصورية». بهذه الأسئلة الأربعة، وإجاباتها الأربع، يتم لك تغطية المجال من جميع جوانبه، فيتم لك فهم ما أردت أن تفهمه.
هي فكرة أرسطية قديمة؛ إذ لبثت هذه «العلل الأربع» على مر الزمن تتآكل وتتساقط واحدة بعد أخرى، كلما وجد المشتغلون ب «العلم» أنهم لم يعودوا بحاجة إليها في تفسيراتهم العلمية للظواهر المختلفة، حتى زالت كلها الآن، ولم تعد فكرة «السببية» نفسها ذات شأن في ميدان العلم؛ إذ حلت محلها فكرة أخرى، هي فكرة «القانون العلمي»، الذي يصاغ في دالة رياضية لا تميز بين سبب ومسبب، بل تحدد المتغيرات الداخلة في موضوع البحث، وطرائق تجاوبها أو تفاعلها بعضها مع بعض ... فكرة أرسطية قديمة إذن هي فكرة «العلل الأربع»، لكنني سأستعين بها على توضيح الموقف الفلسفي في عصرنا، وإني لأراها تعين.
صفحة غير معروفة
عصرنا يعج بنتائج العلم، ويضطرب ويموج بتغيرات الأنظمة الاجتماعية جميعا، ومهمة «الفلسفة» أن تفهمه، فماذا صنع الفلاسفة في هذه السبيل؟ أريد أن أصورهم للقارئ وكأنما هم جماعة وقفت أمام الخضم الهائل الذي هو عصرنا بكل ما فيه، وأخذت تسأل الأسئلة الأرسطية الأربعة، لكنها سألت تلك الأسئلة من سائلين متفرقين؛ أعني أن الشخص الواحد لم يسأل الأسئلة الأربعة كلها، بل اكتفى لنفسه بسؤال واحد، وترك البقية للآخرين، فاكتفى كل منهم بدوره بسؤال واحد، فكان أن سأل فريق: ما الذي أدى إلى الموقف الراهن كله؟ (كأنه يسأل عن العلة الفاعلة)، وكان أشهر الإجابات في ذلك جواب المادية الجدلية، وسأل فريق آخر سؤالا آخر: ما الهدف من هذا أو ذلك مما نقول ونسمع؟ (سؤال عن الغاية)، وكان أشهر الإجابات جواب الفلسفة البرجماتية، وسأل فريق ثالث سؤالا ثالثا: مم صنع هذا العلم كله، وهذه المذاهب الفكرية كلها؟ بمعنى: على أي نحو نسجت اللحمة بالسداة ليتكون هذا القماش الفكري الممدود أمامنا؟ (سؤال عن الكيان ومادته)، وكان أشهر الإجابات في ذلك جواب الفلسفة التحليلية، ويلحق به جواب الوضعية المنطقية، وسأل فريق رابع سؤالا رابعا: أليس من حقنا أن نفترض بأن وراء هذا الفكر كله، البادي فيما يقال ويكتب، «وعيا» ذا خصائص معينة، لا بد من النظر إليه قبل أن ننظر إلى ما نبع منه (سؤال عن العلة الصورية)، وكان أشهر الإجابات هنا إجابة مذهب الظاهراتية (الفينومينولوجيا)، ويلحق به الفلسفة الوجودية.
ذلك مخطط تقريبي لجوانب الموقف، أفلم يكن الإنصاف يقتضي أن ننظر إلى هذه الوقفات الأربع باعتبارها مكملة إحداها لبقيتها، ما دامت كل منها تقنع بجانب واحد وتترك الجوانب الثلاثة الأخرى لسواها؟ نعم، ولكن يحلو دائما لمن لا يرى الموقف في مجمله أن يقول: إن هناك «صراعا» مذهبيا بين اتجاهات أربعة تغطي الميدان الفلسفي المعاصر، وحقيقة الأمر عندنا هي ألا صراع، بل تكامل، والفهم الكامل يتطلب الإجابات الأربع جميعا.
لكني أرسل حديثي وكأنما القارئ على علم كاف بهذه الاتجاهات الرئيسية الأربعة: المادية الجدلية، البرجماتية، الفلسفة التحليلية، والظاهراتية! وأحسبني مطالبا بشيء ولو يسير من الشرح؛ ليتاح لنا جميعا بعد ذلك أن نشترك في التفكير: ما موقف الفكر العربي من هذا كله؟
أما المادية الجدلية، فهي «مادية» بمعنى أن مرد الكائنات جميعا إلى مادة، على أن «المادة» هنا لا تعني خصائص سكونية ثابتة لا يصيبها تغير؛ إذ إن مادة الطبيعة دائبة التطور والتغير وفق قوانين «الجدل» (الديالكتيك)، والمقصود ب «الجدلية» هو أقرب شيء إلى ما يحدث بين متحاورين يتعارضان؛ أحدهما يقول الرأي، والآخر يقول نقيض ذلك الرأي، حتى إذا ما تصادم النقيضان تولد عنهما رأي ثالث، هو الصحيح، أو قل إن «الجدلية» هي عملية شبيهة بما يحدث إذا أنت «جدلت» أو ضفرت خيطين، ليتكون منهما - آخر الأمر - ناتج يحتويهما معا، فهكذا الحال في الطبيعة وفي المجتمع، يتصادم في أثناء سيره النقيضان فيتولد وضع جديد، وبذلك يتحقق التطور.
وإنهم ليصوغون قوانين السير الجدلي هذا في ثلاثة: أولها: أن يعد التناقض مقوما أصيلا في الطبيعة؛ لأنه كان يستحيل التغير إلى جديد ما لم يكن في صلب القديم ما ينقضه، وثانيها: أن هذا النقض الذي ينسخ الحالة الأولى لينقلها إلى حالة جديدة، لا بد بدوره أن يجد هو الآخر ما ينقضه؛ ليدوم السير على طريق التطور، وثالثا: أنه كلما تراكمت التغيرات من جنس واحد، وصلت حدا انقلب معه ذلك الكم المتراكم إلى كيف جديد؛ أي إلى حالة من جنس آخر، وهكذا يسير العالم: من وضع معين قائم، إلى نقيضه، ثم إلى وضع ثالث يؤلف بين النقيضين، وما إن يصبح هذا الوضع الجديد هو الأمر الواقع حتى ينسخه نقيضه، فإلى وضع يجمع النقيضين، وهلم جرا.
وتطبيقا لهذا السير المثلث الخطوات، على تاريخ الإنسان ونظمه الاجتماعية، تنشأ ما يسمونها ب «المادية التاريخية»، ومؤداها أنه لما كان البناء الاقتصادي للمجتمع هو أهم جوانبه، ثم لما كان هذا البناء الاقتصادي قائما على ما ينشط به الناس نشاطا عمليا، نتج عن ذلك أن جوهر الإنسان ليس هو أنه كائن يعقل الفكرة النظرية (الحيوان الناطق، كما كان يقال عنه)، بل هو الكائن الذي «يعمل» العمل المنتج في زراعة أو تجارة أو صناعة، أو في ما شئت من ضروب النشاط في دنيا الاقتصاد، وبهذا المعيار يتحد الفكر بالعمل اتحادا يجعلهما حقيقة واحدة ذات وجهين؛ ومن ثم جاءت عبارة ماركس الشهيرة «لقد حاول الفلاسفة تفسير العالم بطرق شتى، مع أن المهم هو أن يغيروه.» ورجائي أن يحتفظ القارئ بهذه النتيجة التي جعلت لنا الفكر وعمليات التغيير شيئا واحدا؛ لأننا سوف نرى هذه النتيجة نفسها، أو ما يقرب منها في المذاهب الفلسفية الأخرى؛ مما يكاد يجعلها هي روح عصرنا وصميمه، وقد يوحي لنا بالموقف الذي نريده للفكر العربي.
يعتقد أنصار المادية الجدلية أن فلسفتهم هي الفلسفة العلمية؛ لأنها هي التي تتناول واقع العالم تناولا علميا سليما، ولعلهم في استخدامهم لكلمة «العلمية» إنما يقصدون «المادية»؛ فالمعرفة العلمية كلها مرهونة بما هو مادي، وبما هو واقع في التجربة الحسية، فإذا كانت هنالك كائنات عضوية، رددناها جميعا إلى أصل لا عضوي، وإذا لحظنا في أنفسنا حالات وعمليات وجدانية أو عقلية، أرجعناها كلها إلى أساس فسيولوجي، فمهما تكن النظرية العلمية، ومهما يكن موضوعها؛ فما لم تكن قابلة للرد إلى ما هو واقع في التجربة الحسية، تجردت من علميتها وأصبحت لغوا. ومرة أخرى نرجو القارئ أن يحتفظ بهذه النتيجة التي تحتم أن تنبني النظرية العلمية على تجربة وتطبيق؛ لأنها نتيجة سنصادفها هي الأخرى في مذاهب فلسفية غير المادية الجدلية، مما قد يشير إلى أنها علامة تميز المعرفة العلمية اليوم، ومما قد يوحي بما نجعله أساسا ضروريا في الموقف الذي نختاره للفكر العربي.
إذا حق لنا القول عن «المادية الجدلية» (ومعها المادية التاريخية) بأنها فلسفة للتاريخ، بمعنى أنها تصوب النظر إلى الماضي لترى كيف سار حتى انتهى به السير إلى الحالة الحاضرة الراهنة، حق لنا كذلك أن نقول عن الفلسفة «البرجماتية» إنها فلسفة المستقبل، بمعنى أنها تقيس الأمر الراهن إلى ما يترتب عليه من نتائج عملية تستطيع الحكم عليه بقبول أو برفض، إن المعنى الحقيقي للفكرة - أي فكرة - هو مجموع التصرفات العملية التي تؤديها بناء عليها، فإذا كان لديك ما تزعم له أنه «فكرة»، ثم بحثت فلم تجد عملا واحدا تؤديه بناء عليها، فاعلم أنها ليست من الفكر في شيء؛ لقد كان «تشارلس بيرس
Charles peirce » إمام البرجماتية في العصر الحديث، (وتبعه على التوالي ثلاثة آخرون: وليم جيمس، وشلر، وجوني ديوي، فكانت أربعتهم عمد المذهب البرجماتي)، وفي العبارة الآتية التي قالها «بيرس» ما يبرز أهم خصائص هذا المذهب: «إذا كانت لديك فكرة، وأردت تحديدا لمضمونها، فانظر: ماذا عسى أن يكون لها من نتائج تطبيقية في دنيا العمل، ثم اجمع هذه النتائج العملية معا؛ يكن لك قوام فكرتك»، وبعبارة أخرى، إن قولك: «إني أعرف كذا» مساو لقولك: «إني أستطيع أن أعمل كذا»، وما ليس في وسعك أن «تعمل» به شيئا، لا يكون لك به «علم»؛ لأن علما بلا عمل يؤديه، كلام ينقض نفسه بنفسه.
ويتصل بالبرجماتية اتصالا وثيقا مذهب يقال له «مذهب الإجرائية» في فهم المعاني أو الأفكار؛ فالفكرة معناها هو مجموعة الإجراءات التي نجريها في تحقيقها، وهو قول - كما ترى - مطابق لما تقوله البرجماتية، لولا أن «الإجرائية» لا تقصر الأمر على الإجراءات المادية التي تتم في سلوك منظور، بل توسعه حتى تشمل به الإجراءات التي تتم في العقل، كما يحدث في تناولنا لمسألة رياضية أو ما يشبهها.
صفحة غير معروفة
ولنعد بالقارئ إلى نتيجتين أوردناهما فيما سبق، ورجوناه أن يحتفظ بهما في ذاكرته، وهما: أن الفكر وعمليات التغيير وجهان لشيء واحد، وأن التجربة على الواقع المحسوس هي أساس التفكير العلمي، فنرى أن البرجماتية برغم اختلافها عن المادية الجدلية في «اتجاه» النظر؛ فإنهما يشتركان في رفض «التأملات» العقيم، التي لا تلد للناس «عملا» يؤدونه، ولا تنسل لهم «تغييرا» يبدلون به وجه الحياة إذا فسد.
ننتقل الآن إلى جماعة ثالثة من أبناء عصرنا؛ هي جماعة «التحليل الفلسفي» و«التحليل المنطقي» (وبينهما اختلاف في المعنى، نغض عنه النظر)، فلئن كانت المادية الجدلية تنظر إلى «سير التاريخ» وكيف انتهى إلى ما نحن فيه، وكانت البرجماتية تنظر إلى ما يراد عمله وإجراؤه فيما هو آت من زمان؛ فإن أصحاب التحليل يقفون حيث هم ليروا أولا ماذا تحت أقدامهم! لنضرب مثلا موضحا، حتى لا نشطح بالقارئ في سماء التجريد، افرض أن فكرة عرضت لنا، تقول: «حضارة هذا العصر مادية»، فماذا نحن صانعون بقول كهذا؟ أم هل يراد به أن يمضي مع نسمات الهواء حيث تمضي ونحن قاعدون له نستمع؟ كلا، إن الفكرة الجادة يراد بها أن تكون منطلقا لوثبة نثبها في هذا الاتجاه أو ذاك، وها هي ذي فكرة جادة كثيرا ما تعرض لنا على أقلام الكاتبين، فماذا نحن صانعون بها؟ فلو كنت من أصحاب المادية الجدلية في النظر، لثنيت عنقي إلى الوراء أنظر إلى خطوات التاريخ كيف كانت، بحيث أنتجت لنا اليوم هذه «الحضارة المادية»، ولو كنت من أتباع البرجماتية لأرسلت بصري إلى أمام، أبحث عن النتائج الفعلية التي تترتب على هذه الفكرة، فإن وجدتها كانت هي نفسها «معنى» الفكرة، وإن لم أجدها كانت الفكرة يعوزها المعنى. وها نحن أولاء مع جماعة ثالثة، هي جماعة «التحليل»، فهؤلاء يؤثرون القيام بعملية «تشريح» لهذا الجسم اللفظي أولا؛ لنرى ماذا يمكن أن يكون لهذه العبارة من معنى، لا على أساس النتائج الفعلية المترتبة عليها، كما قال البرجماتيون، بل على أساس منطق اللغة نفسه؛ إذ كثيرا جدا ما نرص ألفاظا بعضها إلى جوار بعض، حتى يكتمل لنا بناء تقبله قواعد النحو، لكن منطق العقل يرفضه، ولكي يرفضه منطق العقل أو يقبله، لا بد بادئ ذي بدء من تحليله، حتى نتبين عناصر بنائه، وما بين تلك العناصر من روابط، وعندئذ يتبدى اللغو الفارغ من الكلام ذي المعنى.
لكن الأمر في هذا التحليل ليس ألعوبة لاعب يلهو، فما تكاد تهم به حتى تتوالى عليك أعوص المسائل، وأهمها أن ترد العبارة التي بين يديك إلى صورة يمكن أن يكون بينها وبين «الواقع» شبه في التركيب إذا كانت صادقة، وأن يمتنع هذا الشبه إذا كانت كاذبة، فإذا تذكرنا أن حقائق الواقع هي دائما «أفراد» جزئية ليس فيها تعميم ولا تجريد، بمعنى أنك لن تجد على أرض الواقع أو في سمائه، إلا مفردات معينة محدودة، فهنالك هذه الشجرة، وهذا الرجل، وذلك الطائر، وتلك السحابة، وهكذا، أقول إننا إذا تذكرنا ذلك، عرفنا أن تحويل الجملة المراد الحكم عليها بالمعنى أو بالخلو منه، يجب أن يتجه نحو أن نستخرج منها قائمة طويلة من جمل لا تتحدث الواحدة منها إلا عن «فرد» واحد، وعندئذ فقط يمكن المقابلة بين العبارة اللفظية من جهة، ودنيا الواقع التجريبي من جهة أخرى، ولنعد إلى الجملة التي سقناها مثلا موضحا، وهي: «حضارة هذا العصر مادية»، وأبدأ بكلمة «حضارة»، فما هي مجموعة المفردات التي تتكون منها حضارة هذا العصر؟ إذا قلت مثلا: هي نتاج العلم، ونتاج الفن، و... و...، كان علينا أن نعود إلى كل واحد من هؤلاء، فما نتاج العلم بالشيء الواحد الذي تمسكه دفعة واحدة بيديك، وما نتاج الفن بالشيء الواحد الذي تنظر إليه نظرة واحدة في لمحة بعينيك، بل نتاج العلم هو ألوف القضايا، ونتاج الفن كذلك ألوف التماثيل واللوحات والمعزوفات الموسيقية، وبعد هذا التحليل، نعود فنضع كل فرد واحد من تلك الألوف، وألوف الألوف، في جملة واحدة، لنقول عنه إنه «مادي»، وقد نتبين ساعتئذ أن معظم الجمل في هذه الحالة سيكون بغير معنى؛ إذ ما معنى أن نقول عن قانون علمي معين إنه مادي؟ وما معنى أن أقول عن لوحة فنية أو قطعة موسيقية إنها مادية؟ وقد نمضي على هذا النحو من التحليل حتى نستيقن من أن العبارة التي تلوكها الأفواه في استخفاف، وأعني عبارة «حضارة هذا العصر مادية»، إنما هي صف من ألفاظ ينتهي بنا إلى لا شيء، أو قد ينتهي بنا إلى معنى، لكنه معنى ينتج لنا بعد عناء التحليل الذي يبين لنا ما نحن قائلوه.
ومدرسة التحليل هذه لا تجعل «العبارات» التي نقولها مجرد صور نعكس بها «أفكارا» في رءوسنا، بل يجعلونها هي هي الأفكار، وبذلك نقلوا التقابل ، الذي كان الفلاسفة يجرونه بين «الفكر» و«الواقع»، دون تحديد لطبيعة الفكر، نقلوا هذا التقابل فجعلوه بين «العبارة اللغوية» و«الواقع»، وبذلك لم يتركوا مجالا لكائنات شبحية تعرقل سيرنا نحو الوضوح.
وإني لأرجو القارئ هنا أيضا أن يحتفظ بهذه النتيجة، وهي أن الجملة «والجملة = فكرة» لا يكون لها معنى إلا إذا وجدناها - بعد تحليلها إلى عناصرها - على تقابل مع واقعة من وقائع العالم التجريبي، وما لم نجده كذلك من الجمل «أي من الأفكار» كان لغوا بغير معنى، والقارئ إذا احتفظ بهذه النتيجة، ثم ضمها إلى ما كان احتفظ به من «المادية الجدلية» ومن «البرجماتية»، وجد نفسه أمام وجهة نظر مشتركة بين هذه الفلسفات المتباينة، وهي ضرورة أن تكون العلاقة وثيقة بين الفكر والعمل.
أما «الظاهراتية» أو «علم الظواهر العقلية» أو «الفينومينولوجيا» فموقف رابع من الفلسفة المعاصرة، يريد أصحابه تحليل الوعي الإنساني في إدراكه للأشياء؛ لعلنا نقع على حقيقته وحقيقة تلك الأشياء في آن معا، نعم، كانت هذه في مقدمة المحاولات التي بذلها الفلاسفة قبل «هوسرل
Husserl »، لكن هؤلاء الفلاسفة كانوا يفترضون دائما فروضا مسبقة، على ضوئها يفهمون عملية الإدراك من وجهة نظرهم، فإذا كانوا من التجريبيين قالوا إن نقطة البدء في الإدراك هي «المعطيات» الأولية، فارضين من عندهم أن تلك المعطيات الأولية لا تكون إلا بانطباعات تقع من الأشياء على حواسنا، وإن كانوا مثاليين أو عقلانيين، قالوا إن الأساس الأولي هو وجود أطر صورية عقلية في فطرة الإنسان - يسمونها «مقولات» - فتكون هذه الأطر بمثابة الشباك، تتصيد من الدنيا التي حولنا مضمونات من هنا وهناك، حتى إذا ما امتلأ إطار معين بمضمون معين، كان لنا بذلك شيء من المعرفة العقلية بالعالم المحيط بنا، فكان الجديد الذي دعا إليه «هوسرل» هو أن نواجه الأشياء بلا فروض مسبقة، فتكون حقيقة الشيء الذي ندركه هي بالضبط كما ندركه، حتى إذا ما سألنا سائل: أهي حقيقة حسية أو حقيقة عقلية؟ أجبناه بأننا نرفض هذه التفرقة من أساسها؛ فهذه الزهرة التي أراها وأعي صورتها، لونا وشكلا ورائحة ، وكل شيء، هي كما أراها وأعيها، ولا تحليل لها عندي وراء ذلك، فلا أنا بالذي يزعم أنها جاءتني معطيات حسية مبعثرة أول الأمر ثم قام ذهني بجمع المبعثرات في زهرة، ولا أنا بالذي يفترض أن عقلي كانت به أطر صورية مركوزة في فطرته هي التي جذبت إليها مدركات الزهرة وصبتها في قوالبها حتى تكاملت في تصوري زهرة، وإنما الذي أقوله هو أنني أدركت الزهرة كما أدركتها، وإذن فهذه هي حقيقتها.
على أن الذي يهمنا نحن من هذه «الظاهراتية» (وهي التي عنها تفرعت بعض فروع الفلسفة الوجودية الحاضرة)، هو أن الوعي الذي نعي به الأشياء ليس بمنزلة كيان مستقل قائم بذاته مثل الذراع أو اللسان، وإنما الوعي عبارة عن «انتباه» أو «التفات»، ومن ذا الذي يتصور «الانتباه» كيانا له استقلاله وحدوده؟ إنه «اتجاه» أو إشارة، إنه كشعاع الضوء، يسقط هنا أو هناك، فيظهر بسقوطه شيء ما، وأهم ما يميز الوعي هو ما أسماه هوسرل ب «القصدية»؛ أي إنه دائما يقصد باتجاهه المعين إلى مسقط ما يسقط عليه فندركه، وعلى هذا الأساس (وأرجو من القارئ حصر انتباهه هنا؛ لأهميته في موضوعنا) يكون من التناقض أن ندعي بأننا نعي فكرة ما، دون أن يكون لهذه الفكرة ما تشير إليه في دنيا الواقع، إن عملية الإدراك لا تتم إلا بهاتين الشعبتين معا: لفتة من الوعي، وشيء معين تقصد إليه تلك اللفتة، أما أن يقال عن اللفتة أنها لا تلتفت إلى شيء، فذلك ينفي عنها طبيعتها، أو أن يقال إننا أدركنا ما أدركناه بلا التفات إليه، فهو تناقض ممتنع الحدوث، لقد كان مما أخذه هوسرل على ديكارت قول ديكارت: «أنا أفكر ...» كأنه جزيرة وحده معزولة عن العالم وعن الآخرين، على حين أنه محال أن تحدث عملية تفكير إلا إذا تعلقت بقصد معين يكون هو الشعبة الثانية التي يتم بها الموقف الإدراكي، فالأمر هنا كالمقص، لا يكون مقصا بإحدى شعبتيه دون زميلتها.
وبهذا الجانب من «الظاهراتية» نلتقي مع المذاهب الفلسفية الثلاثة التي أسلفناها، في أنها جميعا تربط الفكر بالأشياء ، وألا تنتفي عن الفكر طبيعته.
لقد قيل عن الفلسفة المعاصرة إنها تتميز - عموما - بأنها جعلت مدارها الرئيسي هو البحث عن «المعنى»، وبعض ما يقصد إليه بهذا الوصف، هو أنها أصبحت تشترط لكل فكرة تطوف بذهن، ولكل عبارة ينطق بها لسان، مشارا إليه، تشير إليه الفكرة أو العبارة، فيكون هذا المشار إليه هو مدلول الفكرة، أو معنى العبارة، فإذا لم نجد للفكرة المعينة، أو للعبارة المعينة، مشارا إليه في دنيا الواقع - سواء كان ذلك وجودا بالفعل أو وجودا بالإمكان - لم نتردد في أن نقول عن الفكرة المزعومة إنها تشبه الأفكار وليست منها، وعن العبارة إنها لغو بغير معنى، ذلك هو موقف الفلسفة المعاصرة بأجمعها، كائنا ما كان مذهبها، مادية جدلية، أو برجماتية، أو تحليلية، أو ظاهراتية ووجودية، فماذا يكون موقف الفكر العربي من ذلك كله؟
صفحة غير معروفة
إننا لو قصدنا ب «الفكر العربي» أشخاص الرجال الذين حملوه، تدريسا في الجامعات، أو تحريرا في الكتب والمجلات؛ وجدنا أمرا عجبا؛ لأننا واجدون هؤلاء الرجال قد اقتسموا فيما بينهم تلك المذاهب الفلسفية الأربعة، كل أخذ منها بما يتفق مع تكوينه العقلي، فما من مذهب منها إلا وقد كان له الأتباع المؤيدون العارضون الشارحون، ثم أضيفت إلى هؤلاء جميعا فئة خامسة، انتشر أفرادها على مدارج المثقفين، من أعلاها تخصصا إلى أدناها علما، وهي فئة جمعت قوما لا يكادون يعرفون عن عصرهم شيئا، واكتفوا بزاد كثير أو قليل، يقطفونه من كتب الأقدمين، وقد اقتضى دفاع هؤلاء عن أنفسهم - أحيانا عن قصد ووعي، وأحيانا أخرى عن غير قصد ولا وعي - أن يوجهوا سهام النقد - والشتم في كثير من الحالات - إلى ما ليس يعرفون عنه شيئا، أعني أنهم يوجهونها إلى العصر وفكره وأهله، فلنتركهم في كهوفهم يظلمون.
ولننظر إلى المؤيدين لمذاهب عصرهم هذا، على اختلافهم بعد ذلك في أي من تلك المذاهب يؤيدون، وها هنا سنجد الأمر العجب الذي أشرت إليه، وهو أنه بينما المذاهب المعاصرة جميعا تتفق آخر الأمر في وجوب ارتباط الأفكار بالأشياء والأفعال، فإن واحدا منها فقط هو الذي يجعل هذا الارتباط الضروري موضوعه الخاص، وذلك هو مذهب التحليل المنطقي، على حين يظل ذلك الارتباط مضمرا إلى حد بعيد أو قريب في سائر المذاهب، ومع ذلك، فلما شاءت المصادفة النافعة أن يتصدى لمذهب التحليل المنطقي من أولاه اهتمامه وعنايته، فعرضه محاضرا وكاتبا، تألب عليه الآخرون تألبهم على عدو ظهر في الميدان، يخشون أن تنقلب عصاه حية تبتلع سائر الحيات، لماذا؟ لأن المفكر العربي - شأنه شأن الإنسان العربي على إطلاق - يخاف أن تجعلها له صريحة، بأن الفكرة أو العبارة إما تحولت إلى عمل، وإما كانت وهما ولغوا، إنه يخاف ذلك لأننا قوم نأكل لفظا، ونشرب لفظا، ونتسلى في أوقات فراغنا بلفظ، وقد يعمل منا العاملون، لكن أعمالهم - مع ذلك - تكون في عالم لا يؤثر ولا يتأثر بعالم اللافظين.
وهذا هو أول الإصلاح الفكري في حياتنا: أن ندمج العالمين في واحد، فيكون عالم «الكلام» هو جانب «التخطيط» لعالم العمل والتطبيق، إنه لم يكن مصادفة أن أصبح «التخطيط» علامة من أبرز العلامات المميزة لعصرنا؛ لأن التخطيط تحليله هو أن «الفكر» خطة لعمل نؤديه أو هو لا يكون فكرا، فعملية التخطيط التي شاعت إنما هي انعكاس لفلسفة العصر كلها، أو إن شئت فقل إن فلسفة العصر قد استقت ماءها من ميول العصر واتجاهاته.
فالمدخل الذي أقترح أن يكون بابنا الذي ندخل منه إلى ساحة الفلسفة المعاصرة، هو الوصول إلى هذه الحقيقة الكبرى بشتى السبل، حقيقة أن الفكر لا يستحق أن يكون فكرا بمعناه الصحيح، إلا إذا رسم الطريق المؤدي إلى التغيير، وهي حقيقة التقت عندها كل مذاهب العصر كما أسلفت، فلا ضير على المتفلسف منا أن يختار أيا ما شاء من تلك المذاهب، ليدرسه لنا بكل تفصيلاته، ولن يكون في اختلافنا فيما يختاره كل لنفسه «صراع» بقدر ما ينتج عنه التأييد والتركيز لما نحن في أشد الحاجة إلى تأييده وتوكيده، وهو - وأقولها مرة ثانية وثالثة وعاشرة بلا ملل - أن «الفكر» ليس له في عصرنا معنى إلا أن يكون أداة لتغيير ما نود تغييره مما يحيط بنا: من مواقف في السياسة إلى شئون في الاقتصاد، أو في التعليم، أو في نقد الفنون، أو فيما شئت أن تغيره.
لم تكن الدنيا على هذا الاهتمام كله بالجانب التطبيقي العملي من الفكرة في أي عصر مضى؛ لأن فكرتنا عن «العلم» نفسها قد تغيرت مع العصور: كان «العلم» عند اليونان الأقدمين هو أن تصنف الكائنات أنواعا وأجناسا، ثم ترتب تصوراتك الذهنية عن تلك الأنواع والأجناس ترتيبا يصعد بها من الأخص إلى الأعم على صورة هرمية، وتستطيع أن تلم بالعالم كله - على هذا النحو - دون أن يكون في يدك جهاز واحد، ودون أن تحرك من كائنات العالم جناحا لبعوضة، وجاء العصر الوسيط، فكان «العلم» هو ما مهد الطريق إلى السعادة في الآخرة، وإذا شئت فاقرأ - مثلا - كتاب الغزالي «إحياء علوم الدين»، لترى كيف يكون العلم في تصوره رسما لكل خطوة يخطوها من أراد نعيم الآخرة، أو اقرأ له «ميزان العمل»، وكانوا جميعا على هذا المنوال نفسه في تصورهم «للعلم»، ثم جاءت النهضة الأوروبية وما بعدها، فنشأ العلم الطبيعي نشأة متكاملة بعد أن اجتاز مراحل التمهيد قبل ذلك، لكنه كان أيضا علما نظريا إلى حد كبير، فقد ينشر نيوتن - مثلا - نظريته عن الجاذبية، فيعلمها دراسو العلم، لكن شيئا من أوضاع الحياة العملية لا يتغير، وأما في مرحلتنا التاريخية هذه فقد تغير الموقف من أساسه، وأصبح العلم ممزوجا بالأجهزة التي تعين على إنتاجه، مزجا جعل النظر والعمل وجهين لكل خطوة نخطوها في مجاله، ثم لا تكاد النتيجة العلمية الجديدة تظهر حتى تنبني عليها أدوات للحياة العملية نراها في كل ركن من أركان الدنيا ماثلة .. هذا هو «العلم» الذي فلسفناه في المذاهب الفكرية التي اختلفت منهجا، واتفقت في نتيجة عظمى، هي أن الفكرة أداة للعمل، وهي النتيجة التي تلزمنا - أعني الأمة العربية - أكثر مما تلزم سوانا، للإسهال اللفظي الذي أصيبت به ثقافتنا، دون أن يحد اللفظ إنجاز في دنيا العمل.
وقد يسألني سائل ممن يحبون القول ويكرهون العمل: أتريدنا على أن نقيد كل لفظ نلفظه بعمل يتبعه؟ وأجيب مسرعا بالنفي؛ فلك مجالات كثيرة تستطيع فيها أن تمرح بلفظ غير مسئول، أما حيث تقف أمامنا مشكلات الحياة تتحدى مطالبة بالحلول، فها هنا لن يزحزح اللفظ جبالها مهما زخرفته ببيان وبديع، وضبطت له الوزن والقافية، ها هنا لا بد أن يرسم خطة للعمل الذي نؤديه حيال المشكلة القائمة. ذلك هو الدرس الذي نتعلمه من مذاهب الفلسفة المعاصرة جميعا، وذلك وحده هو جواز المرور، الذي لا يمكنك الدخول في أجواء هذا العصر إلا به.
وهل في هذا الذي يتطلبه منا العصر شيء جديد كل الجدة على ما ورثناه عن تراثنا الفكري من مبادئ؟ إن القرآن الكريم كلما وجه الخطاب إلى «الذين آمنوا» أضاف إلى ذلك قوله: «وعملوا الصالحات»، كأن الإيمان لا يكون إيمانا كاملا إلا إذا اقترن بالعمل الصالح، وصلاحية العمل إنما تكون بالنسبة إلى الهدف المنشود، وإلى نوع الموقف الذي نواجهه، كالمفتاح لا يكون «صالحا» للباب إلا إذا نفع في فتحه وإقفاله، والسيارة لا تكون صالحة إلا إذا دارت آلتها على النحو المطلوب للسير، وكذلك السياسي لا يكون صالحا إلا إذا رسم لقومه خطة للعمل الناجح، والاقتصادي لا يكون صالحا إلا إذا عرف الطريق الذي ينقذنا من التخلف ... وهكذا، كل هؤلاء عاملون للصالحات، التي وإن بدأت بدنيا الناس؛ فهي الطريق إلى مرضاة الله، فليست تعوزنا المبادئ النظرية في ثقافتنا الموروثة، ولكن ماذا تجدي المبادئ إذا لم تنسكب في سلوك الناس «عادات» يحيون على أساسها؟ بمثل هذه العادات، ننشأ عليها في ربط القول بصلاحيته في دنيا العمل، ننخرط في تيار عصرنا، وفي الوقت نفسه نلتزم ميراثا كريما ورثناه.
التوفيق بين ثقافتين
1
لست أتردد لحظة حين أقرر بأن أم المشكلات في حياتنا الثقافية الراهنة هي محاولة الكشف عن صيغة لحياتنا الفكرية والعملية، تجمع لنا في طيها طرفين؛ إذ تحافظ لنا على خصائصنا العربية الأصيلة، وفي الوقت نفسه تفتح لنا الأبواب على مصاريعها، لنستقبل - في رحابة صدر - أسس الحضارة العصرية كما يحياها اليوم روادها.
صفحة غير معروفة
ولن نجني من الحق شيئا، إذا نحن اكتفينا في هذا المجال بكلمات نحرك بها شفاهنا، دون أن تكون صادرة منا عن اقتناع وإيمان؛ إذ ما أيسر على المتكلم أن يدعي لنفسه الصفتين معا: صفة العروبة الأصيلة، وصفة التحضر بحضارة العصر، فإذا ما تناولنا حياته الفعلية بالتحليل الموضوعي الدقيق، ألفيناه واحدا من ثلاثة: فإما هو قد خلا من الأسس الأصيلة في الثقافة العربية، مكتفيا في حياته بعناصر متنافرة جمعها لنفسه من هنا وهناك من ظواهر الثقافة العربية، أو هو قد ملأ نفسه بثقافة عربية صرف، حتى انسدت دونه أبواب العصر، فلا يدري من أمر هذا العصر شيئا، أو هو قد أخرج وفاضه خاليا من الثقافتين جميعا؛ فلا هو إلى أولئك ولا إلى هؤلاء. تلك صور ثلاث أراها تستنفد الكثرة الكاثرة من أبناء الأمة العربية، وأما الصورة الرابعة التي هي صورة العربي وقد جمع في كيانه وحدة عضوية متسقة متماسكة، قوامها أصول رئيسية من التراث العربي، وأصول رئيسية أخرى من مقومات عصرنا الحاضر، فلن تجدها متمثلة إلا في نفر قليل، تكاد تشير إلى أفراده في أرجاء الوطن العربي؛ لأنهم بهذا الجمع الحقيقي بين الثقافتين في حياة واحدة، قد برزوا عن غمار الناس بروزا لا يخطئه البصر.
2
إن الموقف الحضاري للأمة العربية اليوم، يتركز في سؤالين، لو أحسنا الإجابة عنهما، تبدت لنا حقيقة ذلك الموقف جلية لا يشوبها غموض؛ السؤال الأول هو: ما هي أهم العناصر التي نعنيها حين نتحدث عن «الشخصية العربية الأصيلة»؟ وأما السؤال الثاني فهو: ما هي أهم العناصر التي تتألف منها بنية الثقافة العصرية؟ فبعد الإجابة عن هذين السؤالين، تكون أمامنا صورتان، وقد يسهل علينا بعد ذلك أن نلتمس السبيل إلى خلق المركب الواحد، الذي يضم ما يمكن ضمه من أجزاء الصورتين، دون أن تضيع من أيهما صفة جوهرية فينتفي بذلك وجودها.
ولنبدأ بسؤالنا الأول: من نحن على الأصالة؟ ما هي مقوماتنا التي إذا تحققت في فرد أو في مجموع قلنا عنه إنه عربي أصيل من الناحية الثقافية؟ لست أطمع في أن تجيء الإجابة شاملة لكل هذه المقومات، بحيث لا يفلت منا شيء منها، وحسبنا أن نقع على طائفة من المقومات الأساسية فنهتدي فيما نحن بسبيله.
وأول ما يرد إلى خاطري من الخصائص المميزة للوقفة العربية، العقيدة الراسخة بمستويين من الوجود، بحيث يستحيل علينا استحالة قاطعة، أن نخلط بينهما في التصور؛ فهنالك الذات الإلهية الخالقة، ثم هنالك عالم الكائنات المخلوقة لتلك الذات، وبين هذه الكائنات المخلوقة، كائن أراد له خالقه أن يتميز ليحمل إلى الدنيا أمانة اؤتمن على حملها ونشرها، وذلك هو الإنسان. في هذا الإطار العام، تتحدد وجهة النظر العربية الأصيلة، وعن هذا الأصل الأول تتفرع فروع:
منها أن الإنسان كائن خلقي، بمعنى أنه مكلف بأن يحقق في سلوكه قيما أخلاقية محددة معينة، أمليت عليه ولم تكن من اختياره، فليس من حقه أن ينسخ بعضها، أو أن يضيف إليها ما يناقضها، ولما كان هذا التكليف الأخلاقي لا يكتمل معناه إلا إذا كان الفرد الإنساني مسئولا عما يفعل، فإن هذه المسئولية الأخلاقية بالنسبة لكل فرد على حدة، تصبح أمرا لا مفر منه، فلا يجوز أن يحملها فرد عن فرد آخر، قد تجد في الثقافات الأخرى أنماطا أخرى، بل إن في عصرنا هذا نمطين آخرين لا يلتئمان مع الوقفة العربية التي ذكرناها؛ أحدهما يقول إن القوانين الأخلاقية كغيرها من القوانين، هي وليدة الحياة الواقعة، فما قد ثبت على التاريخ أنه نافع جعلناه قانونا خلقيا ننظم به سلوكنا، وما قد تبين على التاريخ أنه ضار، حذفناه من قائمة الأفعال المقبولة، ولما كان النفع والضرر يتغيران بتغير الظروف، وجب علينا أن ننظر إلى مبادئ الأخلاق على أنها نسبية لا مطلقة، بحيث نكون على استعداد لأن نغير منها ما لا بد من تغييره؛ لئلا يقف عقبة في سبيل التقدم مع ما يقتضيه الزمن وحضارته.
ذلك أحد النمطين الآخرين، وأما النمط الآخر فيقول أصحابه إن المسألة هنا ليست مرهونة بتقدم أو تأخر في طريق الحضارة، ولكنها مسألة الإنسان وحريته المطلقة في أن يتخذ لنفسه ما شاء من قرار؛ بشرط أن يكون مسئولا عن قراره ذاك، فليس هنالك أحد فوقه أو إلى جانبه يملي عليه ما يجب وما يجوز، بل هو البادئ بقراره بدءا غير مسبوق بمبدأ صاغه سواه.
وواضح أن الوقفة العربية الأصيلة مختلفة عن كلا النمطين من حيث المبدأ والأساس، حتى وإن اتفقت معهما في النتيجة؛ فهي مختلفة عن النمط الأول الذي يجعل المعول في السلوك الإنساني الصحيح على التجارب، على حين أن الوقفة العربية تفترض أسبقية المبدأ الخلقي على التجارب، فالصواب صواب، والخطأ خطأ، بغض النظر عن النجاح أو الفشل في تجارب الحياة العملية، وليست حدود الصواب والخطأ من صنع الإنسان، ولكنها حدود شاءها الله للإنسان.
والوقفة العربية مختلفة عن النمط الثاني كذلك، الذي يجعل القرار الإنساني غير مسبوق بمعيار؛ وذلك لأن وجهة النظر العربية - كما ذكرنا - تفترض أسبقية المعيار الذي يقاس به القرار في صوابه أو خطئه، وسؤالنا - في حدود هذه النقطة الأولى - هو: هل يمكن التوفيق بين أن يكون الإنسان عربيا يحمل هذه الوجهة من النظر، وأن يكون في الوقت نفسه معاصرا يتطور مع الزمن وتغيراته السريعة؟ لست أدعي ها هنا بأن مشكلة التوفيق - في هذا الجانب - بين الأصالة والمعاصرة هنة هينة، ولكنها على كل حال مشكلة تستحق منا النظر الطويل والعميق؛ لأننا لو أمسكنا بالقيم الثابتة الموضوعة لنا، تعرضنا لخطر الجمود، ولو سبحنا أحرارا مع تيار التغير، تعرضنا لزوال الشخصية وانحلالها، وغاية ما أستطيع قوله في هذا الصدد، هو أن قيمنا الأخلاقية الموروثة فيها من السعة ما يمكننا من التصرف في إطارها بدرجة من الحرية تكفي للحركة مع سرعة الإيقاع في عصرنا، وليكن الأمر في هذا شبيها بالأمر في تكوين ألفاظ اللغة من حروف الأبجدية؛ فالحروف محددة معلومة العدد، ومع ذلك ففي مستطاعنا أن نبني بها ألفاظا تعد بملايين الملايين إذا أردنا، فلماذا لا نقول إن مبادئنا الخلقية الموروثة هي أسس يمكن أن نبني عليها ما لا حصر له من ضروب العمل؟ إن هذه القيم الموروثة ماثلة في أسماء الله الحسنى؛ لأن هذه الأسماء - كما يقول الإمام الغزالي - هي صفات تكون مطلقة بالنسبة لله تعالى، وهي نفسها تكون نسبية محدودة بالنسبة للإنسان، فاقرأ هذه الأسماء تعلم ماذا يطلب منك أن تكون؛ يطلب منك - مثلا - أن تكون عليما، بصيرا، سميعا، قادرا، صبورا، إلى آخر هذه الصفات العليا، فما الذي يمنع من مسايرة العصر بهذه الصفات؟ ما الذي يمنع أن أكون عليما وبصيرا وسميعا بحقائق عصري وما تتطلبه الحياة فيه؟ وأن أكون قادرا وحكيما وجسورا وقويا وخبيرا، وكلها صفات من تلك الصفات المطلوبة مني بحكم عقيدتي؟ كل الذي يطلب مني في هذا المجال، هو أن أفهم من كل صفة جوانبها التي تكون أقرب إلى العصر، فأكون عليما بعلم العصر، وقادرا بقدرة العصر، وقويا بقوته، وحكيما بحكمته، وهلم جرا.
3
صفحة غير معروفة
ومن مميزات الثقافة العربية كذلك، تلك الرغبة الشديدة عند الإنسان في أن يتسامى على دنيا الحوادث المتغيرة؛ لياذا بما هو ثابت ودائم، إن كل ما في الأرض والسماء فان وزائل، متغير أبدا، متحول أبدا، ففيم التمسك به وهو عاجز عن التماسك بذاته، أليس ثمة مرفأ بمأمن من أعاصير الفناء والصيرورة والتغير الدائب من حال إلى حال، لنحتمي بمثل هذا المرفأ فنسلم؟ نعم، هنالك مثل هذا المرفأ الآمن، فنستطيع أن نلتمسه، حتى ونحن لم نزل أحياء في هذه الحياة الدنيا، ألا وهو الذات الباطنية التي بها تكون هويتنا، هو «الأنا» التي تظل قائمة صامدة مهما حدث التحول لما حولها، ثم هنالك مثل هذا المرفأ الآمن بمعنى آخر، وهو مرفأ الحياة الآخرة التي هي غاية منشودة خلال كل نشاط ننشط به في هذه الحياة الدنيا.
هذا هو العربي في نظرته، ينشد الخلود عن طريق الظواهر الزائلة، يريد أن يقهر الزمن وأن يقهر الموت، أما الزمن المتقلب بأحداثه، فهو يقهره بالخروج منه إلى ما ليس زمنيا بطبيعته، فيلجأ إلى ذاته التي هي كائن لا زمني، كما يأمل في حياة آخرة لا تخضع هي الأخرى لعوامل الزمن، ولو كانت الحقيقة كل الحقيقة هي هذه المتغيرات المتبدلات الفانيات الزائلات ، التي نراها في الأشياء المحيطة بنا، لكان الكون - من وجهة نظر العربي - عبثا في عبث.
وليست هذه النظرة هي ما يأخذ به عصرنا الحاضر؛ فتكاد المذاهب الفلسفية المعاصرة كلها تجمع على تحليل كل شيء إلى ظواهره المتغيرة، دون أن تزعم وجودا لأي كائن ثابت وراء تلك الظواهر، فهذه المنضدة أمامنا ليست إلا مجموعة ظواهرها البادية لحواسنا من بصر ولمس، وكذلك قل في كل شيء، بما في ذلك الإنسان نفسه، فالكائن البشري بدوره ليس إلا مجموعة ظواهر يراها فيه الآخرون أو يحسها هو في باطنه، دون أن يكون وراء هذه الظواهر المتدفقة «ذات» ثابتة تدوم على الزمن، بل قل هذا نفسه في الوجود كله جملة واحدة، فما هذا الكون إلا خضم من ظواهر، ما تنفك متصلة بعضها ببعض أو منفصلة، دون أن يكون وراءها شيء.
مثل هذه النظرة إلى العالم إنما تجيء ملحقة بالنظرة العلمية الصارمة التي هي من خصائص عصرنا، فسؤالنا هذه المرة هو هذا: كيف ألتزم النظرة العلمية الصارمة لأساير عصري، وأن أظل مع ذلك تواقا إلى غيب وراء الشهادة، يتحقق لي فيه الخلود والدوام؛ لأظل محتفظا بهذه السمة العربية في نظرتي؟ ومرة أخرى أقول: إنني لا أدعي أن مشكلة التوفيق هنا هي من الهنات الهينات، بل هي كزميلتها السابقة مشكلة تتطلب منا التفكير الطويل والعميق، وإني لأرجح أن يكون الحل في أن نعيش في عالمين يتكاملان ولا يتعارضان؛ بشرط ألا نسمح لأحدهما أن يتدخل في مجال الآخر، في أحدهما نعيش حياتنا العلمية بكل ما تقتضيه، ولكننا بدل أن نقول: إن هذه الحياة العلمية حسبنا في دنيانا، يجب أن نقول: إن إلى جانب هذه الحياة العلمية حياة أخرى فيها الأماني، وفيها المثل العليا، وفيها المرفأ والملاذ، فإذا كنت في الساعات العلمية من حياتي أحصر النظر في الظواهر وحدها، لأستخرج قوانينها برغم تغير تلك الظواهر، ففي الساعات الوجدانية من حياتي أخلع عن نفسي عباءة العلم، وأسلم نفسي للتمني والرجاء، وبغير هذا الفصل الحاد بين العالمين، يستحيل علينا التوفيق بين علمية العصر وصوفية الأصل الموروث.
ولقد أحس الغرب نفسه بمثل هذه المشكلة، فالتمس مخرجا منها، بأن أقام حدا فاصلا بين العلم من جهة، والفن من جهة أخرى، فإذا كان محتوما على الإنسان في حياته العلمية أن يتقيد بالواقع كما هو واقع، وبالظواهر كما هي ظاهرة لحواسه، فله في الفن متسع يجول فيه ويصول؛ لأنه في الفن يستطيع ألا يتقيد بواقع، وأن يخلق لنفسه طبيعة أخرى غير الطبيعة التي تصدمه بظواهرها، ومن هنا نشأت مدارس الفن الحديث، التي تتفق كلها على نقطة مشتركة، هي أن الفنان لا يطلب منه أن يصور الواقع، ومن حقه أن يبدع لنفسه ما شاء له خياله أن يبدع، فهذا التحرر من قيود الواقع الموضوعي، يعوضه عما في حياته العلمية من قيود لا تحقق له ما يشبع الأماني والآمال.
فقل عن ثقافة أوروبا وأمريكا اليوم إنها ثقافة يسودها معقول العلم؛ تكن على صواب، أو قل عنها إن الذي يسودها هو لا معقول الأدب والفن؛ تكن أيضا على صواب؛ لأن المعقول واللامعقول يتجاوران ليعوض أحدهما نقص الآخر، وإذا كان هذا هكذا، فما الذي نتحرج له إذا نحن اخترنا أن نجاور بين معقول العلم والإيمان بالغيب في حياة واحدة؟ إننا إذا فعلنا ذلك، عاصرنا زماننا بالشق الأول، ووصلنا وشيجة القربى بيننا وبين تراثنا بالشق الثاني.
4
على أن العربي الأصيل في رغبته أن يجاوز الواقع المتغير إلى ما وراء الواقع في أبديته وخلوده، يظل مرتبطا بالمكان الأرضي ارتباطا عجيبا، فهو مع المكان المحيط به في حوار لا ينقطع، هنالك حركة جدلية موصولة، طرفاها الإنسان العربي ومكانه، إلا أنها جدلية لا تنتهي بدمج الطرفين في مركب واحد، بل هي جدلية تحتفظ للذات الإنسانية بالسيطرة على موضوعها، الطبيعة كلها عند العربي مسرح للفعل والحركة، هي عنده حلبة للقتال والنزال، هي ميدان لفروسيته وبطولته، كانت الصحراء حول العربي مصدر روع له وروعة في آن معا؛ فهو يرتاع لجهامتها ومجهولاتها، ولكنه في الوقت نفسه يكاد يخشع لهيبتها خشوع العابدين، ومن ثم كانت الصحراء له مسرح قتال ومغامرة، كما كانت له مصدر حب وشعر وغناء، إنه يتفحص كل ما حوله من مكان - أرضا وسماء - بجميع حواسه، يتفحصه بالبصر والسمع واللمس والشم والذوق، لا يترك منه شيئا، من جرذان الأرض إلى أنجم السماء، لكنه يتفحص هذا كله ليستخدمه ويسيطر عليه، لم يكن العربي مستندا في علمه بالطبيعة من حوله، إلى كتب تركها له أسبقون، بل استند إلى كتاب الطبيعة نفسه؛ ينظر في صفحاته، ويقرأ ثم يعي، ولم يكن علم العربي بالطبيعة للمتعة وإزجاء الفراغ، بل كان مسألة حياة وبقاء؛ يقول أبو حيان التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»: «إن العرب ليس لها أول تؤمه، ولا كتاب يدلها، أهل بلد قفر، ووحشة من الأنس، احتاج كل واحد منهم في وحدته إلى فكره ونظره وعقله، وعلموا أن معاشهم من نبات الأرض، فوسموا كل شيء بسمته، ونسبوه إلى جنسه، وعرفوا مصلحة ذلك في رطبه ويابسه، وأوقاته وأزمنته، وما يصلح منه في الشاة والبعير، ثم نظروا إلى الزمان واختلافه، فجعلوه ربيعيا وصيفيا، وقيظيا وشتويا، ثم علموا أن شربهم من السماء، فوضعوا لذلك الأنواء، وعرفوا تغير الزمان، فجعلوا له منازله من السنة، واحتاجوا إلى الانتشار في الأرض، فجعلوا نجوم السماء أدلة على أطراف الأرض وأقطارها، فسلكوا بها البلاد، وجعلوا بينهم شيئا ينتهون به عن المنكر، ويرغبهم في الجميل .. حتى إن الرجل منهم وهو في فج من الأرض يصف المكارم فما يبقي من نعتها شيئا، ويسرف في ذم المساوئ فلا يقصر ...»
من ذلك نرى صورة للعربي، جوابا في أرجاء الأرض، جوالا ببصره في السماء، ممسكا خلال ذلك بقيم توجهه نحو الفاضل والجميل، فأين تتفق هذه الصورة العربية، وأين تختلف، إذا ما اصطدمت بوقفة الحضارة العصرية من الطبيعة ومن القيم التي توجه الإنسان في سيره؟ أما الاتفاق فهو الاهتمام بالكون وما فيه اهتماما لا يقف عند حدود الكشف عن الحقائق لذاتها، بل هو اهتمام يستهدف النفع واجتناب الأذى، وأما الاختلاف العميق فهو في أن العربي لم يرد من الطبيعة إلا أن تكون مسرح فعل وإرادة ، على حين أن إنسان الحضارة الغربية بصفة عامة يضيف إلى ذلك ما قد يكون أهم منه، وهو أن تكون الطبيعة مجالا لفاعلية العقل تحليلا وتركيبا؛ ولذلك لم يكن مصادفة أن وجدنا في فلسفات الغرب الحديث نظريات المعرفة (إبستمولوجيا) تحدد العلاقة النظرية بين الإنسان العارف والموضوعات المعروفة، على حين أننا لا نكاد نعثر في التراث العربي الفلسفي كله على نظرية للمعرفة من هذا القبيل. عني المفكر العربي بالإرادة وتحليلها لأنها أداة العمل والحركة، أكثر جدا مما عني بالعقل وتحليله؛ لأنه رآه أداة لفاعلية ذهنية تتم لصاحبها وهو جالس على مقعده.
فماذا نحن صانعون - نحن العرب المعاصرين - للتوفيق في هذا المجال بين أصيل موروث وجديد معاصر؟ أحسب أن الطريق أمامنا واضح، وهو طريق تربوي من الأساس، فما علينا إلا أن نربي ناشئتنا على أن يحتفظوا بميراثهم في تدريب الإرادة الماضية، وفي التطلع والمغامرة، ثم يضيفوا إلى ذلك تدريبا آخر على النظر العقلي والبحث النظري.
صفحة غير معروفة
إن عصرنا هذا إن تميز بسمة تبرزه عن سائر العصور التي سلفت، فهذه السمة هي إيغاله في دنيا العقل - ودنيا العقل هي نفسها دنيا العلوم على اختلافها - إيغالا لم يترك جانبا واحدا من جوانب الحياة، ولا ركنا واحدا من أركان الأرض - وكدت أقول: وأجواز السماء - إلا وقد تناوله بتأثيره، على أن العقل العلمي في زماننا لا يكفيه ما كان يكفيه بالأمس، وهو أن يقف عند الحدود النظرية الرياضية، بل إنه ليصر على أن يتجسد في أجهزة، وعلى أن ينثر هذه الأجهزة على بقاع الأرض ليبدل حياة الناس حالا بعد حال، فلم يعد لنا مناص من السبح على هذا التيار العلمي التقني، فإذا كنا أصحاب فعل وحركة وإرادة من جهة الأصالة، فلا بد من إضافة هذه الصفحة الجديدة إلى كياننا؛ وذلك - كما قلت - إنما يتحقق عن طريق التربية ابتداء، لنخلق النظرة التي لا تترك الفعل والحركة والإرادة سائبة كما اتفق، بل تلجمها إلجاما لتسيرها على الطريق المؤدية إلى تكوين علم وعلماء بهذا المعنى العصري الجديد.
5
وأخيرا ، وكان ينبغي أن يكون أولا، لكنني أرجأت ذكره لبداهته، وهو أن أصالة العربي تبدأ من كونه يتكلم لغة عربية، وإذن فلا بديل أمامنا إلا أن نرعى هذه اللغة على ألسنة أبنائها وأقلام كتابها، فهي بطاقة الهوية التي تجعل من العربي عربيا، هذه بديهية لا أظنها مثيرة لجدال، لكنني أنتقل إلى ما يترتب عليها؛ لأنه لا يبدو للناس بهذه البداهة كلها، وهو أننا إذا أردنا الحياة في عصرنا، فلا بد من صب هذا العصر بكل ما فيه، من علم وأدب، في وعاء اللغة العربية، أعني أنه لا بد من ترجمة العلوم العصرية كلها، وكذلك أدب العصر وفلسفته، وبقدر ما نستطيع أن نسكب مادة العصر في إنائنا اللغوي، يكون نصيبنا من المعاصرة.
إن العصر لا يقتصر على شعب واحد، ولا على قطر واحد؛ فالعصر هو أمريكا وإنجلترا وفرنسا وألمانيا وروسيا واليابان، وغيرها مما يسير معها في شوطها، لكن هذا العصر الواحد يلبس في كل قطر من هذه الأقطار ثوبا ينسجه له ذلك القطر؛ ليجعله واحدا من أهله، دون أن يكون تبدل الأثواب سببا في تغيير شيء من ملامح العصر، وما هذه الأثواب المختلفة باختلاف البلدان الممسكة بزمام الحضارة في عصرنا، إلا اللغات المختلفة؛ فقد صب الفرنسي - مثلا - نتاج العصر في لغته الفرنسية، فبات الفرنسي بذلك معاصرا لزمانه، وكذلك فعل الألماني والروسي والياباني وغيرهم.
ومع ذلك فلقد صادفت في أمتنا أفرادا تعارض ترجمة العلوم، على ظن منهم بأن هذه العلوم لا يليق لها إلا الثوب الإنجليزي أو الفرنسي أو غيرهما من لغات الأمم المتقدمة، ولا يسعني في هذا الصدد سوى أن أكرر القول بأنه على قدر ما ننقل إلى الثوب العربي من نتاج العصر، يكون نصيبنا من العصر؛ فالأصالة في هذا المجال هي في اللغة العربية التي هي لغتنا لا لغة أحد سوانا، والتي هي كذلك ميراث تسلمناه من أسلافنا، وأما المعاصرة فهي أن نصب عصرنا في وعائها.
إن التاريخ العربي هو كالنهر، دفاق المياه، وتظل للنهر هويته منذ ألوف السنين، برغم جريان مائه وتبدله يوما بعد يوم، بل لحظة في إثر لحظة، والذي يحفظ للنهر هويته هو التزامه مجرى واحدا، وهكذا نريد لحياتنا أن تكون: نحفظ لها الإطار الأساسي العام، ووجهة النظر الرئيسية، ثم نجدد المضمون الذي يملأ ذلك الإطار، أو الذي يشغل تلك الوجهة من النظر، كلما جاءت العصور المتوالية بحضارات متعاقبة، لكل حضارة منها مضمونها الجديد.
6
هذه - إذن - نقاط أربع، أو إن شئت فقل إنها مجالات أربعة ذكرناها، في كل مجال منها موقف لنا أصيل، ضارب بجذوره في أعماق تراثنا، يقابله موقف مضاد للحضارة التي نعاصرها، ولقد حاولنا أن نبين في كل حالة من الحالات الأربع كيف يمكن أن تحدث المصالحة بين الضدين؛ فأولا: كانت لنا وقفة معينة بإزاء الله والكون والإنسان، استتبعت وجهة نظر معينة في المبادئ الخلقية، ليس هي وجهة نظر الحضارة القائمة، فبينا كيف يمكن أن تسد الفجوة بين الوجهتين، وثانيا: كانت لنا وقفة بإزاء الواقع المادي، استتبعت منا أن نجاوزه إلى غيب وراءه، وليس ذلك مما تأخذ به الحضارة الحاضرة، فاقترحنا طريقة نخلص بها من هذا التناقض، وثالثا: كانت لنا سبل معينة في التعامل مع الطبيعة المكانية من حولنا، ليست هي السبل المأخوذ بها في حضارة اليوم، فالتمسنا لأنفسنا وسيلة للتقريب بين الطريقتين، ورابعا وأخيرا: لنا لغة لا بد من الحفاظ عليها، وهي التي تحمل ميراثنا في أوعيتها، وقلنا إنه لا مناص لنا من صب نتاج عصرنا في تلك الأوعية، ليمتزج الجديد بالقديم، في إناء واحد، وهكذا رسمنا ما يشبه الخريطة لما يمكن عمله؛ توفيقا بين الأصالة والمعاصرة.
فتعالوا معي الآن في جولة خاطفة، ننظر خلالها إلى ما قد حدث بالفعل في حياتنا الثقافية؛ لنرى إلى أي حد أصابنا التوفيق في هذا الدمج الحضاري المطلوب: فأما بالنسبة للمجال الأول، الخاص بوجهة نظرنا إلى الله والكون والإنسان، فلا أظننا قد ظفرنا بتوفيق كبير في أن نوسع من معنى قيمنا الأخلاقية بحيث تتطابق مع ما هو مستحدث في عصرنا، فقد نرى أصحاب القول والكتابة بين قادة الفكرة منا منقسمين قسمين: أحدهما يضرب على الوتر القديم وحده، والثاني يضرب على الوتر الجديد وحده، وفشلنا حتى الآن في أن تجيء النغمة المعزوفة شاملة للجديد والقديم معا، فإذا قلت - مثلا - كلمة «علم» انصرفت أذهان بعضنا إلى الفيزياء والكيمياء وما إليهما، وانصرفت أذهان الآخرين إلى حفظ المدونات القديمة، وبقينا في معسكرين، لا يكاد يلتقي أحدهما بالآخر، اللهم إلا في أوجه النشاط التي لا تتصل بالحياة الفكرية من قريب، وهكذا قل في كثير جدا من المعاني الرئيسية التي هي محاور الفكر والثقافة.
وأما بالنسبة إلى المجال الثاني، الخاص بمجاوزة الواقع إلى ما وراءه، فللأسف الشديد، أرانا نحتفظ بهذه السمة، ولكننا ننحرف بها عما خلقت من أجله؛ فقد كان الأصل فيها هو أن ننجو بأنفسنا من دنيا الأحداث المتقلبة المتغيرة الزائلة؛ لنلوذ بما هو ثابت وخالد، لكننا جعلنا مجاوزة الواقع إلى ما وراءه في عصرنا هذا؛ فرارا من نظرة العلم إلى سمادير الخرافة، فضاع منا الواقع وما وراءه دفعة واحدة.
صفحة غير معروفة