ونقل السيوطي في شرح الشواهد عن ابن عساكر، أن الحين بن علي لما بلغه انقباض أبي قيس عن ذلك، جاء إليه حافيًا على حر الرمل فقام ومرغ وجهه على أقدامه، وكان ذريح مليًا فمضى مع الحسين حتى زوج قيسًا بلبنى. ونقل الجلال السيوطي أن الحسين أدى المهر من عنده، ولما تزوجها أقام مدة مديدة على أرفع ما يكون من أحسن الأحوال ومراتب الاقبال، وفنون المحبة، وأن قيسًا على أبلغ ما يكون من أنواع البر بأمه فشغله الانهماك مع لبنى عن بعض ذلك فحسنت لأبيه التفريق بينهما فقالت له يومًا لو زوجته بمن تحمل لتجيء بولد كان أبقى لنسبك واحفظ لبيتك ومالك، وأنهما عرضا على قيس ذلك فامتنع امتناعًا يؤذن باستحالة ذلك، وقال لا أسيبها قط. وأقام يدافعهما عشر سنين إلى أن أقسم أبوه أو هي أمه لا يكنه سقف أو يطلق قيس لبنى. فكان إذا اشتد الهجير يجيئه فيلظه بردائه ويصطلي هو حتى يجيء الفيء فيدخل إلى لبنى فيتعانقان ويتباكيان وهي تقول له لا تفعل فتهلك إلى أن قدر أن طلقها، فلما أزمعت الرحيل بعد العدة جاء وقد قوض فسطاطها فسأل الجارية عن أمرهم فقالت سل لبنى فأتى إليها فمنعه أهلها وأخبروه أنها غداة غد ترحل إلى أهلها فسقط مغشيًا عليه، فلما أفاق وأنشد:
وإني لمفن دمع عيني بالبكى ... حذار الذي قد كان أو هو كائن
وقالوا غدًا أو بعد ذاك بليلة ... فراق حبيب لم يبن وهو بائن
وما كنت أخشى أن تكون منيتي ... بكفيك إلا أن ما حان حائن
وقال أيضًا:
يقولون لبنى فتنة كنت قبلها ... بخير فلا تندم عليها وطلق
فطاوعت أعدائي وعاصيت ناصحي ... وأقررت عين الشامت المتملق
وددت وبيت الله أني عصيتم ... وحملت في رضوانها كل موثق
وكلفت خوص البحر والبحر زاخر ... أبيت على اثباج موج مفرق
كأني أرى الناس المحبين بعدها ... عصارة ماء الحنظل المتفلق
فتنكر عيني بعدها كل منظر ... ويكره سمعي بعدها كل منطق
وسقط غراب بحيث ينظره فنعق حين رحيلها فأنشد:
لقد نادى الغراب ببين لبنى ... فطار القلب من حذر الغراب
وقال غدًا تباعد دار لبنى ... وتنأى بعد ود واقتراب
فقلت تعست ويحك من غراب ... وكان الدهر سعيك في تباب
وتبعها حين ارتحلت ينظر إليها، فلما غابت رجع يقبل أثر بعيرها، فليم على ذلك فأنشد:
وما أحببت أرضكم ولكن ... أقبل أثر من وطىء الترابا
لقد لاقيت من كلف بلبنى ... بلاء ما أسيغ له الشرابا
إذا نادى المنادي باسم لبنى ... عييت فلا أطيق له جوابا
ولما أجنه الليل أوى إلى مضجعه فلم يطق قرار فجعل يتململ ويتمرغ في موضعه ويقول:
بت والهم يا لبينى ضجيعي ... وجرت مذ نأيت عني دموعي
وتنفست إذ ذكرتك حتى ... زالت اليوم عن فؤادي ضلوعي
يا لبينى فدتك نفسي وأهلي ... هل لدهر مضى لنا من رجوع
وقال أيضًا:
قد قلت للقلب لا لبناك فاعترف ... قضلت لبانة ما قضيت فانصرف
قد كنت أحلف جهدي لا أفارقها ... أُف لكثرة زيف القيل والحلف
حتى تكنفني الواشون فافتلتت ... لا تأمنن أبدًا من غش مكتنف
هيهات هيهات قد أمست مجاورة ... أهل العقيق وأمسينا على سرف
حيّ يمانون والبطحاء منزلها ... هذا لعمرك شكل غير مؤتلف
وأرسلت إليه يومًا أمه بنات يعبن لبنى عنده ويلهينه بالتعرض إلى وصلهن فأنشد:
يقر لعيني قربها ويزيدني ... بها عجبًا من كان عندي يعيبها
وكم قائل قد قال تب فعصيته ... وتلك لعمري توبة لا أتوبها
فيا نفس صبر الست والله فاعلمي ... بأول نفس غاب عنها حبيبها
فلم ينصرفن ودمن على ما كن فيه فنادى يا لبنى فقلن ما لك قال خدرت رجلي وكان من المعلوم عند العرب أنه إذا خدرت رجل الرجل وذكر لها أحب الناس إليها سكنت ثم قال:
إذا خدرت رجلي تذكرت من لها ... فناديت لبنى باسمها ودعوت
1 / 38