دعوت التي لو أن نفسي تطيعني ... لفارقتها في حبها فقضيت
برت نبلها للصيد لبنى عشية ... ورشت بأخرى مثلها وبريت
فلما رمتني أقصدتني بلبلها ... وأخطأتهم بالسهم حين رميت
وفارقت لبنى ضلة فكأنني ... قرنت إلى العيوق ثم هويت
فيا ليت إني مت قبل فراقها ... وهل يرجعن قول المفرط ليت
فوطن لنفسي منك هلكًا فإنني ... كأنك بي قد يا ذريح قضيت
ورأيت الأبيات في كتاب لا أعرف جامعه وفيها يقول:
فيا ليت إني مت قبل فراقها ... وهل ينفعن بعد التفرق ليت
فإن يك تهيامي بلبنى غواية ... فقد يا ذريح بن الحباب غويت
فوطن البيت، ولما اشتد شوقه وزاد غرامه أفضى به الحال إلى مرض ألزمه الوساد واختلال العقل واشتغال البال، فلام الناس أباه على سوء فعله فجزع وندمع وجعل يتلطف به، فأرسل له طبيبًا وقينات يسألون عن حاله ويلهونه، فلما أطالو عليه أنشد:
عند قيس من حب لبنى ولبنى ... داء قيس والحب صعب شديد
فإذا عادني العوائد يومًا ... قالت العين لا أرى من أريد
ليت لبنى تعودني ثم أقضي ... أنها لا تعود فيمن يعود
ويح قيس لقد تضمن منها ... داء خبل فالقلب منه عميد
فقال له الطبيب مذ كم هذه العلة بك ومذ كم وجدت بهذه المرأة ما وجدت فقال:
تعلق روحي روحها قبل خلقنا ... وليس إذا متنا بمنفصم العقد
فزاد كما زدنا وأصبح ناميًا ... وليس إذا متنا بمنصم المهد
ولكنه باق على كل حادث ... وزائرتي في ظلمة القبر واللحد
فقال إنما يسليك عنها تذكر ما فيها من المساوي والمعايب وما تعافه النفس فقال:
إذا عبتها شبهتها البدر طالعًا ... وحسبك من عيب لها شبه البدر
لقد فضلت لبنى على الناس مثل ما ... على ألف شهر فضلت ليلة القدر
إذا ما شئت شبرًا من الأرض أرجفت ... من البهر حتى ما تزيد على شبر
لها كفل يرتج منها إذا مشت ... ومتن كغصن البان منضمر الخصر
وأن أباه دخل وهو يخاطب الطبيب بذلك فجعل يؤنبه ويلومه، فلما لم يفد ذلك عرض عليه التزويج وأنشد:
لقد خفت أن لا تقنع النفس بعدها ... بشيء من الدنيا وإن كان مقنعا
وازجر عنها النفس إن حيل دونها ... وتأبى إليها النفس إلا تطلعا
فلما أيس منه استشار قومه في دائه فاتفقت آراؤهم على أن يأمروه بتصفح احياء العرب فلعل أن تقع عينه على امرأة تستميل عقله فاقسموا عليه أن يفعل ففعل وأنه اتفق أن نزل بحي من فزارة فرأى جارية قد حسرت عن وجهها برقع خز وهي كالبدر حسنًا وبهجة فسأل عن اسمها فقالت لبنى فسقط مغشيًا عليه فارتاعت منه ونضحت وجهه بالماء وقالت إن لم تكن قيسًا فمجنون.
فلما أفاق استنسبته فإذا هو قيس فأقسمت عليه أن ينال من طعامها، فتناول قليلًا وركب فجاء أخوها على أثره فأعلمته القصة فركب حتى استرده وأقسم عليه أن يقيم عنده شهرًا، فقال شفقت علي وأجاب فكان الفزاري يعجب به ويعرض عليه الصهارة حتى لامته العرب وقالوا نخشى أن يصير فعلك سنة فيقول دعوني في مثل هذا الفتى يرغب الكرام وقيس يقول له إن فيكم الكفاية ولكني في شغل لا ينتفع بي معه فألح عليه حتى عقد له على أخته ودخل بها فأقام معها أيامًا لا تهش نفسه إليها ولا يكلمها ثم استأذن في الخروج إلى أهله فأذنوا له فخرج إلى المدينة وكان له بها صديق فأعمله أن لبنى قد بلغها تزويجه فغمت لذلك وقالت إنه لغدار وإني طالما خطبت فأبيت والآن أجيب هذا وإن أبا لفنى قد اشتكى قيسًا إلى معاوية وإنه يشبب بابنته فكتب إلى مروان بهدر دمه وأمره أن يزوج ابنته بخالد بن خلدة الغطفاني وهو كندي حليف قريش فجعل النساء ليلة زفافها يغنينها:
لبينى زوجها أصبح ... لا حر يوازيه
له فضل على الناس ... وقد باتت تناجيه
وقيس ميت حقًا ... صريع في بواكيه
فلا يبعده الله ... وبعدًا لنواعيه
1 / 39