فقيل له إن أم منظور المشار إليها في هذا البيت موجودة فاستحضرها واستحكاها عن سبب قول جميل هذا البيت فقالت كنت ماشطة لبثينة وإني زينتها يومًا فأقبل على بعير مارًا فرآها بمؤخر عينيه فأنشد البيت فأمرها مصعب أن تصنع بعائشة كذلك وصنع هو كجميل وله فيها من الأشعار ما لا يحصى ما بين وصف ونسيب وذكر حكاية إلى غير ذلك فمن مستجادها اللامية التي أنشدها لعمر بن أبي ربيعة وكان من أجل معاصريه في الشعر لقيه يومًا فتفاخر واستنشده جميل فأنشد:
ألم تسأل الأطلال والمتربعا ... ببطن خليات دوارس بلقعا
أتانا رسول من ثلاث كواعب ... ورائقة تستجمع الحسن أجمعا
فلما توقفنا وسلمت أقبلت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
تبالهن بالعرفان لما عرفنني ... وقلن امرؤ باغ أضل وأوضعا
وقرّبن أسباب الهوى لمتيم ... يقيس ذراعًا كلما قسن أصبعا
فقلت لمطريهنّ بالحسن إنما ... ضررت فهل تستطيع نفعًا فتنفعا
فأنشده جميل أثر هذه القصيد قصيدته المشهورة التي أولها:
لقد فرح الواشون أن صرمت حبلى ... بثينة أو أبدت لنا جانب البخل
يقولون مهلًا يا جميل وإنني ... لاقسم مالي عن بثينة من مهل
أحلمًا فقبل اليوم كان أوانه ... وأخشى فقبل اليوم أوعدت بالقتل
ومنها:
إذا ما تناشدنا الذي كان بيننا ... جرى الدمع من عيني بثينة بالكحل
كلانا بكى أو كاد يبكي صبابة ... إلى ألفه فاستعجلت عبرة قبلي
فيا ويح نفسي حسب نفسي الذي بها ... ويا ويح أهلي ما أصيب به أهلي
خليليّ فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلًا بكى من حب قاتله قبلي
ومنها بيتان أنشدهما وقد مر به رجل فأضافه فريدًا فجعل يأكل ويبث وجدًا به على ابنة عمه حتى أتى عليه وهما:
ويعجبني من جعفر أنّ جعفرًا ... يلح على قرصي ويبكي على جمل
فلو كنت عذريّ العلاقة لم تكن ... بطينًا وأنساك الهوى كثرة الأكل
ولما أنشد جميل هذه القصيدة قال لعمر يا أبا الخطاب هل لك في هذا الرومي شيء قال نعم وأنشد:
جرى ناصح بالودّ بيني وبينها ... فقربني يوم الخضاب إلى قتلي
وطارت بوجد من فؤادي ونازعت ... قرينتها حبل الصفاء إلى حبلي
فما أنس ما الأشياء لا أنس موقفي ... وموقفها يومًا بقارعة النخل
فلما تواقفنا عرفت الذي بها ... كمثل الذي بي حذوك النعل بالنعل
ومنها:
فسلمت واستأنست خيفة أن يرى ... عدوّي بكائي أو يرى كاشح فعلي
فقالت وأرخت جانب الستر إنما ... معي فتحدّث غير ذي رقبة أهلي
فقلت لها ما بي لهم من ترقب ... ولكنّ سري ليس يحمله مثلي
وقيل أن جميلًا لم ينشده في هذه المرة شيئًا بل قال له امض بنا إلى بثينة فقال له قد حجر علي فقال داني على أبياتها ففعل ومضى عمر فاجتمع بها ثم عاد ثانية وتلاقيا فأنشد جميل رائيته وهي:
خليليّ عوجا اليوم حتى تسلما ... على عذبة الأنياب طيبة النشر
فإنكما إن عجتما لي ساعة ... شكرتكما حتى أغيب في قبري
وإنكما إن لم تعوجا فإنني ... سأصرف وجدي فأذنا اليوم بالهجر
وما لي لا أبكي وفي الأيك نائح ... وقد فارقتني شختة الكشح والخصر
أيبكي حمام الأيك من فقد ألفه ... واصبر ما لي عن بثينة من صبر
يقولون مسحور يجنّ بذكرها ... فأقسم ما بي من جنون ولا سحر
واقسم لا أنساك ما ذرّ شارق ... وما هب آل في معلمة قفر
وما لاح نجم في السماء معلق ... وما أورق الأغصان من ورق السدر
لقد شغفت نفسي بثين بذكركم ... كما شغف المجنون يا بثن بالخمر
ذكرت مقامي ليلة البان قابضًا ... على كف حوراء المدامع كالبدر
1 / 29