وأما أنه يمسك الأيدي عن فعل الخير فلأن من اعتاد الترف حتى أخذ بمجامع قلبه كان أعظم قصده من جمع المال إنفاقه فيما يلذه من مأكول، أو يتزين به من نحو ملبوس أو مفروش.
لذلك كان الغالب على المترفين المسرفين قبض أيديهم حيث يبسط غيرهم يده؛ إسعادا لذوي الحاجات من الفقراء والمنكوبين، أو إجابة لما تدعو إليه المروءة والمكارم.
ومن هنا نستبين أن للإسراف سيئة أخرى هي قطع صلة التعاطف والتوادد بين كثير من أفراد الأمة.
ولهذا تجد من الموسرين المترفين من ينفق الأموال الطائلة في سبيل لذاته وشياطينه، وإذا سئل بذل القليل في مشروع جليل أعرض ونأى بجانبه.
هذا وللإسراف في الترف أثر كبير في إهمال النصيحة والدعوة إلى الحق؛ ذلك أن من اعتاد التقلب في الزينة، وألفت نفسه العيش الناعم_يغلب عليه الحرص على هذا الحال؛ فيتجنب المواقف التي يمكن أن تكون سببا لفوات بعض النعيم.
وللإسراف أثر في الصحة؛ فقد دلت المشاهدات على أن المسرف في نحو المأكل والمشرب لا يتمتع بالصحة التي يتمتع بها المقتصدون فيما يأكلون ويشربون.
والإسراف في الترف يقل معه النبوغ في العلم؛ ذلك أن النفس المحفوفة بالرفاهية من كل جانب يضعف طموحها إلى اللذات العقلية؛ لأنها في لذة قد تشغلها أن تطلب لذة كلذة العلوم طلبا يبلغ بها مرتبة العبقرية.
ومن الجلي أن مرتبة العبقرية لا تدرك إلا باحتمال مصاعب، واقتحام أخطار، والمسرف في الترف ضعيف العزيمة لا يثبت أمام المكاره والشدائد.
هذه بعض مضار الإسراف؛ فحق الأمة التي تريد النهوض من كبوتها أن تقلع عن الإسراف في الرفاهية، وتضع مكان الإسراف بذلا في وجوه البر والإصلاح.
فمما تشكو منه الأمة إطلاق الأيدي بإنفاق المال في غير جدوى، وتدبير المال على غير حكمة وحسن تقدير.
صفحة ٣٦