وحده لا شريك له وهو الكريم الوهاب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله والأصحاب.
أما بعد:
فإن التوبة وظيفة العمر، وبداية العبد ونهايته، وأول منازل
العبودية، وأوسطها، وآخرها.
وحاجتنا إلى التوبة ماسة، بل إن ضرورتنا إليها ملحة؛ فنحن نذنب كثيرا، ونفرط في جنب الله ليلا ونهارا؛ فنحتاج إلى ما يصقل القلوب، وينقيها من رين الذنوب.
ثم إن كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون؛ فالعبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية.
ولقد جرت سنة الله أنه كلما دعت الحاجة إلى أمر ما_يسره الله، وأعان عليه بلطفه وجوده وكرمه.
ولقد يسر الله أمر التوبة، وفتح أبوابها لمن أرادها؛ فهو_عز وجل_يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.
وباب التوبة مفتوح للكفار، والمشركين، والمرتدين، والمنافقين، والظالمين، والعصاة، والمقصرين.
والناظر في باب التوبة بادىء الرأي قد يظن أنه محصور في عدة أمور، فلا يتعداها ولا يتجاوزها.
والحقيقة أن الحديث عن التوبة ذو شجون، والكلام عليها متشعب طويل؛ فللتوبة فضائل وأسرار، ولها مسائل وأحكام، وهناك أخطاء تقع في مفهومها، وهناك أسباب تعين عليها.
ثم إن الحديث عن التوبة يشمل كافة الناس، ويخاطب جميع الطبقات، ويحتاج إليه في جميع مراحل العمر.
ومع عظم شأن التوبة، وشدة الضرورة إليها_إلا أن هناك تقصيرا في شأنها، وخللا كبيرا في مفهومها، وغفلة مستحكمة عن المبادرة إليها.
وفيما يلي من صفحات بيان لشيء من ذلك، أما عنوان هذا الكتاب فهو:
=التوبة وظيفة العمر+(1)
أما خطته فجاءت بعد المقدمة مشتملة على تمهيد، وبابين، وخاتمة، وذلك كما يلي:
تمهيد، وتحته:
_ تعريف التوبة.
_ من أي شيء تكون التوبة؟
_ تقسيم الذنوب.
_ باب التوبة مفتوح.
الباب الأول: فضائل التوبة وأحكامها
وتحته أربعة فصول:
صفحة ١
الفصل الأول: فضائل التوبة وأسرارها.
الفصل الثاني: أخطاء في باب التوبة.
الفصل الثالث: مسائل في التوبة.
الفصل الرابع: كيفية التوبة من بعض الذنوب.
الباب الثاني: الطريق إلى التوبة
وتحته ثلاثة فصول:
الفصل الأول: أمور تعين على التوبة.
الفصل الثاني: التوبة طريق السعادة.
وتحته مبحثان:
المبحث الأول: الوقوف على سر السعادة.
المبحث الثاني: من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه.
الفصل الثالث: نماذج من أحوال العصاة، ونماذج من أحوال التائبين.
وتحته مبحثان:
المبحث الأول: نماذج من أحوال العصاة.
المبحث الثاني: نماذج من أحوال التائبين.
خلاصة البحث: وتشتمل على ملخص لأهم ما ورد في الكتاب.
الخاتمة: وتحتوي على دعاء، وأمل، ورجاء.
هذا ما تيسر جمعه في هذا الباب؛ فعسى أن يكون معينا على الإقبال على التوبة، والله المستعان وعليه التكلان.
وأخيرا أسأل الله_بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى_أن يجزي خير الجزاء كل من أعان على إخراج هذا الكتاب تصحيحا، ومشورة، وتسديدا، وغير ذلك، فجزاهم الله خيرا، وجعل ذلك في ميزان حسناتهم يوم يلقونه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
محمد بن إبراهيم الحمد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام
محمد بن سعود الإسلامية _ فرع القصيم
الزلفي 1/8/1420ه
ص.ب: 460
www.toislam.net
تمهيد وتحته:
* تعريف التوبة
* من أي شيء تكون التوبة؟
* تقسيم الذنوب.
* باب التوبة مفتوح.
تمهيد
أولا_تعريف التوبة في اللغة: التوبة مصدر الفعل تاب، وأصل هذه المادة: التاء، والواو، والباء =توب+.
وهي تدور حول معاني الرجوع، والعودة، والإنابة، والندم.
قال ابن فارس×في مادة =توب+: =التاء، والواو، والباء كلمة واحدة تدل على الرجوع+.
يقال: تاب من ذنبه: أي رجع عنه، يتوب إلى الله توبة، ومتابا فهو تائب.
والتوب: التوبة، قال الله_تعالى_: [قابل التوب] غافر: 3+(2).
صفحة ٢
وقال ابن منظور×: =وتاب إلى الله يتوب توبا، وتوبة، ومتابا: أناب، ورجع عن المعصية إلى الطاعة+(3).
والتوبة تكون من الله على العبد، ومن العبد إلى الله؛ فإذا كانت من الله عديت بعلى، وإذا كانت من العبد إلى الله عديت بإلى.
قال الله_تعالى_: [إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما] النساء:17.
وقال_عز وجل_: [وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون] النور:31.
وقال: [ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا] الفرقان: 71.
قال ابن منظور×: =وتاب الله عليه: وفقه(4) لها، ورجل تواب: تائب إلى الله، والله تواب: يتوب على عبده+(5).
وقال: =وقال أبو منصور: أصل تاب: عاد إلى الله، ورجع، وأناب، وتاب الله عليه: أي عاد عليه بالمغفرة+(6).
ثانيا_تعريف التوبة في الشرع: عرفت التوبة إلى الله في الشرع بعدة تعريفات، والمدلول الشرعي للتوبة قريب من المدلول اللغوي، فمما عرفت به التوبة في الشرع مايلي:
1_ قال أبو حامد الغزالي×: =قيل في حد التوبة أنه ذوبان الحشا لما سبق من الخطأ+(7).
ثم علق على هذا الحد فقال: =فإن هذا يعرض لمجرد الألم ولذلك قيل:
2_ =هو نار في القلب تلتهب، وصدع في الكبد لا ينشعب+(8).
3_ وقال: =وباعتبار معنى الترك قيل في حد التوبة: إنه خلع لباس الجفاء، ونشر بساط الوفاء+(9).
4_ وقال: ومن معانيها(10): =ترك المعاصي في الحال، والعزم على تركها في الاستقبال، وتدارك ما سبق من التقصير في سابق الأحوال+(11).
5_ وقال ابن القيم×في تعريف التوبة: =فحقيقة التوبة هي الندم على ما سلف منه في الماضي، والإقلاع عنه في الحال، والعزم على ألا يعاوده في المستقبل+(12).
صفحة ٣
6_ وقال_أيضا_: =حقيقة التوبة الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يحب، وترك ما يكره؛ فهي رجوع من مكروه إلى محبوب؛ فالرجوع إلى المحبوب جزء مسماها، والرجوع عن المكروه الجزء الآخر+(13).
7_ وقال: =التوبة هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهرا وباطنا إلى ما يحبه ظاهرا وباطنا+(14).
8_ وقال ابن حجر×: =والتوبة ترك الذنب على أحد الأوجه.
وفي الشرع: ترك الذنب؛ لقبحه، والندم على فعله، والعزم على عدم العود، ورد المظلمة إن كانت، أو طلب البراءة من صاحبها، وهي أبلغ وجوه الاعتذار+(15).
9_ ويمكن أن تعرف التوبة بأنها: ترك الذنب علما بقبحه، وندما على فعله، وعزما على ألا يعود إليه إذا قدر، وتداركا لما يمكن تداركه من الأعمال، وأداء لما ضيع من الفرائض؛ إخلاصا لله، ورجاء لثوابه، وخوفا من عقابه، وأن يكون ذلك قبل الغرغرة، وقبل طلوع الشمس من مغربها.
ومن خلال ما سبق يتبين لنا أن التوبة لابد أن يجتمع فيها الأمور التالية:
1_ الإقلاع عن الذنب.
2_ الندم على ما فات، والحد الأدنى من ذلك وجود أصل الندم، وأما قوة الندم وضعفه فبحسب قوة التوبة، وضعفها.
3_ العلم بقبح الذنب.
4_ العزم على ألا يعود.
5_ تدارك ما يمكن تداركه من رد المظالم ونحو ذلك
6_ أن تكون خالصة لله_عز وجل_قال_تعالى_: [وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين] البينة: 5.
7_ أن تكون قبل الغرغرة، لما جاء عن ابن عمر_رضي الله عنهما_عن النبي"قال: =إن الله_تعالى_يقبل توبة العبد ما لم يغرغر+(16).
قال الشيخ حافظ الحكمي×:
وتقبل التوبة قبل الغرغره
كما أتى في الشرعة المطهرة(17)
والغرغرة هي حشرجة الروح في الصدر، والمراد بذلك الاحتضار عندما يرى الملائكة، ويبدأ به السياق في الموت.
8_ أن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها لما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة÷قال: قال النبي": =من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه+(18).
صفحة ٤
التوبة تكون من الذنوب صغيرها وكبيرها، ولا بد للتائب من معرفة ما يتاب منه ولو على سبيل الإجمال.
قال الغزالي×: =اعلم أن التوبة ترك الذنب، ولا يمكن ترك شيء إلا بعد معرفته.
وإذا كانت التوبة واجبة كان ما لا يتوصل إليها إلا به واجبا؛ فمعرفة الذنوب_إذا_واجبة، والذنب عبارة عن كل ما هو مخالف لأمر الله_تعالى_في ترك أو فعل.
وتفصيل ذلك يستدعي شرح التكليفات من أولها إلى آخرها، وليس ذلك من غرضنا، ولكننا نشير إلى مجامعها، وروابط أقسامها، والله الموفق للصواب برحمته+(19).
ثم شرع×في بيان أقسام الذنوب(20).
وعقد ابن القيم×في مدارج السالكين فصلا قال فيه: =فصل في أجناس ما يتاب منه+.
ثم قال: =ولا يستحق العبد اسم =التائب+ حتى يتخلص منها.
وهي اثنا عشر جنسا مذكورة في كتاب الله_عز وجل_هي أجناس المحرمات:
الكفر، والشرك، والنفاق، والفسوق، والعصيان، والإثم، والعدوان، والفحشاء، والمنكر، والبغي، والقول على الله بغير علم، واتباع غير سبيل المؤمنين.
فهذه الاثنا عشر عليها مدار كل ما حرم الله، وإليها انتهاء العالم بأسرهم إلا أتباع الرسل_صلوات الله وسلامه عليهم_.
وقد يكون في الرجل أكثرها وأقلها، أو واحدة منها، وقد يعلم ذلك، وقد لا يعلم.
فالتوبة النصوح: هي بالتخلص منها، والتحصن من مواقعتها، وإنما يمكن التخلص منها لمن عرفها.
ونحن نذكرها، ونذكر ما اجتمعت فيه وما افترقت؛ لنتبين حدودها وحقائقها، والله الموفق لما وراء ذلك كما وفق له، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذا الفصل من أنفع فصول الكتاب، والعبد أحوج شيء إليه+(21).
ثم شرع×في بيان ذلك(22).
ومما يمكن أن تتضح به أصول الذنوب وأفرادها أن تذكر تلك الأصول وما يندرج تحتها من أفراد، وهذا ما سيتضح في المبحث التالي_إن شاء الله تعالى_.
هناك تقسيمات نافعة، تعرف من خلالها أصول الذنوب، وما يمكن أن يدخل تحتها من آحاد الذنوب وأفرادها.
صفحة ٥
قال ابن القيم×: =ولما كانت الذنوب متفاوتة في درجاتها ومفاسدها_تفاوتت عقوباتها في الدنيا والآخرة بحسب تفاوتها.
ونحن نذكر فيها_بعون الله_وحسن توفيقه فصلا وجيزا جامعا فنقول:
أصلها نوعان: ترك مأمور، وفعل محظور.
وهما الذنبان اللذان ابتلى الله_سبحانه_بهما أبوي الجن والإنس.
وكلاهما ينقسم باعتبار محله إلى ظاهر على الجوارح، وباطن في القلوب.
وباعتبار متعلقه إلى حق الله، وحق خلقه، وإن كان كل حق لخلقه فهو متضمن لحقه، لكن سمي حقا للخلق لأنه يجب بمطالبتهم، ويسقط بإسقاطهم+(23).
ثم شرع×بتقسيم هذه الذنوب إلى قسمة أخرى فقال:
=ثم هذه الذنوب تنقسم إلى أربعة أقسام: ملكية، وشيطانية، وسبعية، وبهيمية، ولا تخرج عن ذلك+(24).
هذا وقد سبق ابن القيم في هذا التقسيم أبو حامد الغزالي، حيث قال×: =اعلم أن للإنسان أوصافا وأخلاقا كثيرة على ما عرف شرحه في كتاب عجائب القلب وغوائله، لكن تنحصر مثارات الذنوب في أربع صفات: صفات ربوبية، وصفات شيطانية، وصفات بهيمية، وصفات سبعية+(25).
وفيما يلي تفصيل يسير لتلك الأصول التي ترجع إليها الذنوب(26).
1_ الذنوب الملكية أو الربوبية: وهي أن يتعاطى الإنسان ما لا يصلح له من صفات الربوبية، كالعظمة، والكبرياء، والفخر، والجبروت، والعلو في الأرض، ومحبة استعباد الخلق، ونحو ذلك.
ومن هذه الذنوب يتشعب جملة من الكبائر غفل عنها أكثر الخلق، ولم يعدوها ذنوبا ، وهي المهلكات، العظيمة التي هي كالأمهات لأكثر المعاصي.
ويدخل في هذه الذنوب، الشرك بالله، والقول على الله بغير علم.
2_ الذنوب الشيطانية: وهي ما كان في صاحبها شبه من الشيطان، ويدخل تحت ذلك الحسد، والبغي، والغش، والغل، والخداع، والمكر، والأمر بالفساد، وتحسين المعاصي، والنهي عن الطاعات وتهجينها، والابتداع في الدين، والدعوة إلى البدع والضلال.
وهذا النوع يلي الأول في المفسدة، وإن كانت مفسدته دونه.
صفحة ٦
3_ الذنوب السبعية: ومنها يتشعب الغضب، وسفك الدماء، والحقد، والتوثب على الضعفاء والعاجزين، والقتل.
4_ الذنوب البهيمية: ومنها يتشعب الشره، والكلب، والحرص على قضاء شهوة الفرج والبطن، ومنها يتولد الزنى واللواط، والسرقة، وأكل أموال اليتامى، والبخل، والشح، والجبن، والهلع، والجزع، وجمع الحطام لأجل الشهوات، وغير ذلك.
وهذا القسم أكثر ذنوب الخلق؛ لعجزهم عن الذنوب السبعية والملكية.
ومنه يدخلون إلى سائر الأقسام؛ فهو يجرهم إليها بالزمام، فيدخلون منه إلى الذنوب السبعية، ثم إلى الشيطانية، ثم إلى منازعة الربوبية، والشرك في الوحدانية.
= تقسيم آخر للذنوب+:
ويمكن أن تقسم الذنوب إلى قسمة أخرى، وهي أن يقال: إن الذنوب تنقسم إلى كبائر، وصغائر.
قال الغزالي×: =اعلم أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، وقد كثر اختلاف الناس فيها؛ فقال قائلون: لا صغيرة ولا كبيرة، بل كل مخالفة لله فهي كبيرة.
وهذا ضعيف؛ إذ قال_تعالى_: [إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما] النساء: 31، وقال_تعالى_: [الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم] النجم: 32.
وقال": =الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة يكفرن ما بينهن إن اجتنبت الكبائر =وفي لفظ آخر: =كفارات لما بينهن إلا الكبائر+(27).
وقد قال"فيما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص_رضي الله عنهما: =الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس+(28)(29).
وقال ابن القيم×: =وقد دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين بعدهم والأئمة على أن من الذنوب كبائر وصغائر+(30).
صفحة ٧
وقال×: =والذين لم يقسموها إلى كبائر وصغائر قالوا: الذنوب كلها_بالنسبة إلى الجراءة على الله سبحانه ومعصيته ومخالفة أمره_كبائر؛ فالنظر إلى من عصي أمره، وانتهك محارمه يوجب أن تكون الذنوب كلها كبائر، وهي مستوية في هذه المفسدة+(31).
وقال بعد أن ساق بعض ما أورده من قال إن الذنوب كلها كبائر: =فالشرك أظلم الظلم، والتوحيد أعدل العدل؛ فما كان أشد منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر، وتفاوتها في درجاتها بحسب منافاتها له، وما كان أشد موافقة لهذا المقصود فهو أوجب الواجبات، وأفرض الطاعات؛ فتأمل هذا الأصل حق التأمل، واعتبر تفاصيله تعرف به حكمة أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين فيما فرضه على عباده، وحرمه عليهم، وتفاوت مراتب الطاعات والمعاصي+(32).
وبعد أن تبين أن الذنوب منها كبائر، وصغائر يحسن الوقوف عند ماهية الصغائر والكبائر؛ حيث اختلف في تحديد الكبائر وحصرها؛ فقيل في ذلك أقوال منها(33):
1_ قال عبدالله بن مسعود÷: هي أربع.
2_ وقال عبدالله بن عمر_رضي الله عنهما_: هي سبع.
3_ وقال عبدالله بن عمرو بن العاص_رضي الله عنهما_: هي تسع.
4_ وكان ابن عباس_رضي الله عنهما_إذا بلغه قول ابن عمر: الكبائر سبع يقول: هن إلى سبعين أقرب منها إلى سبع.
5_ وقال آخر: هي إحدى عشرة.
6_ وقال أبو طالب المكي: جمعتها من أقوال الصحابة فوجدتها أربعة في القلب وهي: الإشراك بالله، والإصرار على المعصية، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله.
وأربعة في اللسان، وهي: شهادة الزور، وقذف المحصنات، واليمين الغموس، والسحر(34).
وثلاثة في البطن: شرب الخمر، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا.
واثنين في الفرج: الزنا، واللواط.
واثنين في اليدين وهما القتل والسرقة.
وواحدا في الرجلين وهو الفرار من الزحف.
وواحدا يتعلق بجميع الجسد وهو عقوق الوالدين.
هذه أقوال الذين حصروها بعدد، وأما الذين لم يحصروها بعدد فمنهم من قال:
صفحة ٨
1_ ما اقترن بالنهي عنه وعيد من لعن، أو غضب، أو عقوبة_فهو كبيرة، وما لم يقترن به شيء فهو صغيرة.
2_ وقيل: كل ما ترتب عليه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة_فهو كبيرة، وما لم يرتب عليه لا هذا ولا هذا فهو صغيرة (35).
3_ وقيل: كل ما اتفقت الشرائع على تحريمه فهو من الكبائر، وما كان تحريمه في شريعة دون شريعة فهو صغيرة.
4_ وقيل: كل ما لعن الله ورسوله فاعله فهو كبيرة.
5_ وقيل: هي كل ما ذكر من أول سورة النساء إلى قوله: [إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم] النساء: 31.
والمقصود من خلال ما مضى من ذكر أصول الذنوب، وتقسيماتها_هو الوقوف على معرفة الذنوب ولو على سبيل الإجمال؛ كي يجتنبها الإنسان، ويتوب منها إن كان واقعا فيها.
لقد فتح الله_بجوده وكرمه_باب التوبة؛ حيث أمر بها، وحض عليها، ووعد بقبولها، سواء كانت من الكفار أو المشركين، أو المنافقين أو المرتدين، أو الطغاة، أو الملاحدة، أو الظالمين، أو العصاة المقصرين.
ومن خلال ما يلي يتبين لنا شيء من فضل الله_عز وجل_في فتح باب التوبة.
1_ أن الله_عز وجل_أمر بالتوبة: قال_تعالى_: [وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون] الزمر: 54.
قال ابن كثير×في تفسير هذه الآية: =أي ارجعوا إلى الله، واستسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون أي بادروا بالتوبة والعمل الصالح قبل حلول النقمة+(36).
2_ أن الله وعد بقبول التوبة مهما عظمت الذنوب: قال_تعالى_: [وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات] الشورى: 25.
وقال: [ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما] النساء: 110.
صفحة ٩
وقال_عز وجل_في حق المنافقين: [إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (145) إلا الذين تابوا وأصلحوا] النساء: 145_146.
وقال في شأن النصارى: [لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم]المائدة: 73.
ثم قال_جلت قدرته_محرضا لهم على التوبة: [أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم] المائدة: 74.
وقال_تعالى_في حق أصحاب الأخدود الذين خدوا الأخاديد لتعذيب المؤمنين وتحريقهم بالنار: [إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق] البروج: 10.
قال الحسن البصري×: =انظروا إلى هذا الكرم والجود؛ قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة+(37).
3_ أن الله حذر من القنوط من رحمته: قال_تعالى_: [قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم] الزمر: 53.
قال ابن كثير×: =قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس_رضي الله عنهما_في هذه الآية: قال: قد دعا الله_تعالى_إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو الله، ومن زعم أن المسيح هو ابن الله، ومن زعم أن عزيرا ابن الله، ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أن يد الله مغلولة، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة، يقول الله_تعالى_لهؤلاء: [أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم]المائدة:74.
صفحة ١٠
ثم دعا إلى التوبة من هو أعظم قولا من هؤلاء؛ من قال: =أنا ربكم الأعلى+ النازعات: 24، وقال: [ما علمت لكم من إله غيري] القصص: 38.
قال ابن عباس_رضي الله تعالى عنهما_: =من آيس عباد الله من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله_عز وجل_+(38).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية×، في الآية السابقة_آية الزمر_: =المقصود بها النهي عن القنوط من رحمة الله_تعالى_وإن عظمت الذنوب وكثرت، فلا يحل لأحد أن يقنط من رحمة الله، ولا أن يقنط الناس من رحمته؛ لذا قال بعض السلف: وإن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله، ولا يجرؤهم على معاصي الله.
والقنوط يكون بأن يعتقد أن الله لا يغفر له إما لكونه إذا تاب لا يقبل توبته ويغفر ذنوبه، وإما بأن يقول: نفسه لا تطاوعه على التوبة بل هو مغلوب معها، والشيطان قد استحوذ عليه؛ فهو ييأس من توبة نفسه وإن كان يعلم أنه إذا تاب غفر الله له، وهذا يغري كثيرا من الناس+(39).
4_ أن الله يبسط يده بالليل؛ ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار؛ ليتوب مسيء الليل: قال النبي": =إن الله_عز وجل_يبسط يده بالليل؛ ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار؛ ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها+(40).
5_ أن الله رتب الثواب الجزيل على التوبة: ووعد من تاب بالخير الكثير، وهذا ما سيتبين في المبحث الآتي_إن شاء الله تعالى_.
الباب الأول
فضائل التوبة وأحكامها
وتحته أربعة فصول:
الفصل الأول: فضائل التوبة وأسرارها .
الفصل الثاني: أخطاء في باب التوبة.
الفصل الثالث: مسائل في التوبة.
الفصل الرابع: كيفية التوبة من بعض الذنوب.
الباب الأول
فضائل التوبة وأحكامها
الفصل الأول
للتوبة فضائل جمة، وأسرار بديعة، وفوائد متعددة، فمن ذلك مايلي(41):
1_ التوبة سبب للفلاح: قال_تعالى_: [وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون] النور: 31.
صفحة ١١
قال أبو السعود×: =تفوزون بذلك بسعادة الدارين+(42).
وقال ابن كثير×: =أي افعلوا ما آمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة؛ فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهيا عنه+(43).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية×: =فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا يتلذذ، ولا يسر، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن_إلا بعبادة ربه، وحبه، والإنابة إليه.
ولو حصل له كل ما يتلذذ به من المخلوقات لم يطمئن، ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده، ومحبوبه، ومطلوبه.
وبذلك يحصل له الفرح، والسرور، واللذة، والنعمة، والسكون، والطمأنينة+(44).
2_ بالتوبة تكفر السيئات: فإذا تاب العبد توبة نصوحا كفر الله بها جميع ذنوبه وخطاياه.
قال_تعالى_: [قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم] الزمر: 53.
وقال: [يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار] التحريم: 8.
3_ بالتوبة تبدل السيئات حسنات: فإذا حسنت التوبة بدل الله سيئات صاحبها حسنات، وذلك فضل من الله، وتكرم.
قال_تعالى_: [إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما] الفرقان: 70.
قال ابن القيم×في هذه الآية: =وهذا من أعظم البشارة للتائبين إذا اقترن بتوبتهم إيمان وعمل صالح، وهو حقيقة التوبة.
صفحة ١٢
قال ابن عباس_رضي الله عنهما_: =ما رأيت النبي"فرح بشيء قط فرحه بهذه الآية لما أنزلت، وفرحه بنزول: [إنا فتحنا لك فتحا مبينا (1) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ] الفتح: 1_2(45).
قال ابن القيم×: =واختلفوا في صفة هذا التبديل، وهل هو في الدنيا أو في الآخرة؟ على قولين: فقال ابن عباس وأصحابه هو تبديلهم بقبائح أعمالهم محاسنها، فبدلهم بالشرك إيمانا، وبالزنا عفة وإحصانا، وبالكذب صدقا، وبالخيانة أمانة+.
فعلى هذا معنى الآية: أن صفاتهم القبيحة، وأعمالهم السيئة بدلوا عوضها صفات جميلة، وأعمالا صالحة، كما يبدل المريض بالمرض صحة، والمبتلى ببلائه عافية.
وقال سعيد بن المسيب وغيره من التابعين: =هو تبديل الله سيئاتهم التي عملوها بحسنات يوم القيامة، فيعطيهم مكان كل سيئة حسنة+(46).
ثم قال ابن القيم×بعد أن تكلم على القولين السابقين: =إذا علم هذا فزوال موجب الذنب وأثره تارة يكون بالتوبة النصوح وهي أقوى الأسباب، وتارة يكون باستيفاء الحق منه وتطهيره في النار؛ فإذا تطهر بالنار وزال أثر الوسخ والخبث عنه أعطي مكان كل سيئة حسنة، فإذا تطهر بالتوبة النصوح وزال عنه بها أثر وسخ الذنوب وخبثها كان أولى بأن يعطى مكان كل سيئة حسنة؛ لأن إزالة التوبة لهذا الوسخ والخبث أعظم من إزالة النار، وأحب إلى الله.
وإزالة النار بدل منها، وهي الأصل؛ فهي أولى بالتبديل مما بعد الدخول+.
وقال: =التائب قد بدل كل سيئة بندمه عليها حسنة؛ إذ هو توبة تلك السيئة، والندم توبة، والتوبة من كل ذنب حسنة؛ فصار كل ذنب عمله زائلا بالتوبة التي حلت محله وهي حسنة؛ فصار له مكان كل سيئة حسنة بهذا الاعتبار؛ فتأمله؛ فإنه من ألطف الوجوه.
وعلى هذا فقد تكون هذه الحسنة مساوية في القدر لتلك السيئة، وهذا من أسرار التوبة ولطائفها+(47).
صفحة ١٣
4_ التوبة سبب للمتاع الحسن: قال_تعالى_: [وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله] هود: 3.
5_ التوبة سبب لنزول الأمطار، وزيادة القوة، والإمداد بالأموال والبنين: قال_تعالى_على لسان هود_عليه السلام_: [ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين]هود: 52.
وقال_عز وجل_على لسان نوح_عليه السلام_ [فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا] نوح: 10_12.
6_ أن الله يحب التوبة والتوابين: فعبودية التوبة من أحب العبوديات إلى الله وأكرمها؛ فإنه_سبحانه_يحب التوابين، قال_تعالى_: [إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين] البقرة: 222.
قال ابن القيم×: =ولو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه؛ فلمحبته لتوبة عبده ابتلاه بالذنب الذي يوجب وقوع محبوبه من التوبة وزيادة محبته لعبده؛ فإن للتائبين عنده محبة خاصة+(48).
7_ أن الله يفرح بتوبة التائبين: فللتوبة عنده_عز وجل_منزلة ليست لغيرها من الطاعات؛ ولهذا يفرح_سبحانه_بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرح يقدر كما مثله النبي"بفرح الواجد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض الدوية المهلكة بعدما فقدها وأيس من أسباب الحياة.
قال": =لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلا وبه مهلكة، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله.
صفحة ١٤
قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده+(49).
قال ابن القيم×تعليقا على هذا الحديث: =ولم يجىء هذا الفرح في شيء من الطاعات سوى التوبة، ومعلوم أن لهذا الفرح تأثيرا عظيما في حال التائب وقلبه، ومزيده لا يعبر عنه.
وهو من أسرار تقدير الذنوب على العباد؛ فإن العبد ينال بالتوبة درجة المحبوبية، فيصير حبيبا لله؛ فإن الله يحب التوابين، ويحب العبد المفتن التواب+(50).
8_ التوبة توجب للتائب آثارا عجيبة من المقامات التي لا تحصل بدون التوبة: فتوجب له المحبة، والرقة، واللطف، وشكر الله، وحمده، والرضا عنه؛ فرتب له على ذلك أنواع من النعم لا يهتدي العبد لتفاصيلها، بل لا يزال يتقلب في بركتها وآثارها ما لم ينقضها أو يفسدها.
9_ حصول الذل والانكسار لله: ففي التوبة من الذل، والانكسار، والخضوع، والتذلل لله ما هو أحب إلى الله من كثير من الأعمال الظاهرة_وإن زادت في القدر والكمية على عبودية التوبة_فالذل والانكسار روح العبودية، ولبها.
وحصول ذلك للتائب أكمل له من غيره؛ فإنه قد شارك من لم يذنب في ذل الفقر والعبودية والمحبة، وامتاز عنه بانكسار قلبه.
وقد جاء في الأثر الإسرائيلي: =يا رب أين أجدك؟
قال: عند المنكسرة قلوبهم من أجلي+(51).
ولأجل هذا كان =أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد+(52).
لأنه مقام ذل وانكسار بين يدي ربه.
ولعل هذا هو السر في استجابة دعوة المظلوم، والمسافر، والصائم؛ للكسرة في قلب كل واحد منهم؛ فإن لوعة المظلوم تحدث عنده كسرة في قلبه، وكذلك المسافر في غربته يجد كسرة في قلبه، وكذلك الصوم، فإنه يكسر سورة النفس السبعية الحيوانية.
10_ أن الذنب قد يكون أنفع للعبد إذا اقترنت به التوبة من كثير من الطاعات: ذلك أن لله على القلوب أنواعا من العبودية، من الخوف، والخشية، والإشفاق، والوجل وتوابعها من المحبة، والإنابة، وابتغاء الوسيلة.
صفحة ١٥
وهذه العبوديات لها أسباب تهيجها وتبعث عليها، وكلما قيض الرب_تعالى_لعبده من الأسباب الباعثة على ذلك، المهيجة له_فهو من أسباب رحمته، ورب ذنب قد هاج لصاحبه من الخوف والإشفاق، والوجل، والإنابة، والمحبة_ما لا يهيجه كثير من الطاعات، وكم من ذنب كان سببا لاستقامة العبد، وفراره إلى الله، وبعده عن طريق الغي.
قال ابن القيم×: =وهذا معنى قول بعض السلف: قد يعمل العبد الذنب فيدخل به الجنة، ويعمل الطاعة فيدخل بها النار.
قالوا: وكيف ذلك؟
قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه إن قام، وإن قعد، وإن مشى ذكر ذنبه؛ فيحدث له انكسارا، وتوبة، واستغفارا، وندما؛ فيكون ذلك سبب نجاته.
ويعمل الحسنة، فلا تزال نصب عينيه إن قام، وإن قعد، وإن مشى، كلما ذكرها أورثته عجبا، وكبرا، ومنة، فتكون سبب هلاكه.
فيكون الذنب موجبا لترتب طاعات، وحسنات، ومعاملات قلبية من خوف الله، والحياء منه، والإطراق بين يديه منكسا رأسه خجلا، باكيا، نادما، مستقيلا ربه.
وكل واحد من هذه الآثار أنفع للعبد من طاعة توجب له صولة، وكبرا وازدراء للناس، ورؤيتهم بعين الاحتقار.
ولا ريب أن هذا المذنب خير عند الله، وأقرب إلى النجاة والفوز من هذا المعجب بطاعته، الصائل بها، المان بها وبحاله على الله وعلى عباده، وإن قال بلسانه خلاف ذلك؛ فالله شهيد على ما في قلبه، ويكاد يعادي الخلق إذا لم يعظموه، ويخضعوا له، ويجد في قلبه بغضة لمن لم يفعل به ذلك.
ولو فتش نفسه حق التفتيش لرأى فيها ذلك كامنا؛ ولهذا تراه عاتبا على من لم يعظمه، ويعرف له حقه، متطلبا لعيبه في قالب حمية لله، وغضب له.
وإذا قام بمن يعظمه، ويحترمه، ويخضع له من الذنوب أضعاف ما قام بهذا_فتح له باب المعاذير والرجاء، وأغمض عنه عينيه وسمعه، وكف لسانه وقلبه، وقال: باب العصمة عن غير الأنبياء مسدود، وربما ظن أن ذنوب من يعظمه تكفر بإجلاله وتعظيمه وإكرامه إياه.
صفحة ١٦
فإذا أراد الله بهذا العبد خيرا ألقاه في ذنب يكسره به، ويعرفه قدره، ويكفي به عباده شره، وينكس به رأسه، ويستخرج به داء العجب، والكبر، والمنة عليه، وعلى عباده؛ فيكون هذا الذنب أنفع له من طاعات كثيرة، ويكون بمنزلة شرب الدواء؛ ليستخرج به الداء العضال+(53).
وهذا سر بديع من أسرار التوبة.
11_ أن الله يحب أن يتفضل على عباده: ويتم نعمه عليهم، ويريهم مواقع بره وكرمه؛ فلذلك ينوعه عليهم أعظم الأنواع في سائر الوجوه الظاهرة والباطنة.
ومن أعظم ذلك أن يحسن إلى من أساء، ويعفو عمن ظلم، ويغفر لمن أذنب، ويتوب على من تاب إليه، ويقبل عذر من اعتذر إليه.
وقد ندب عباده إلى هذه الشيم الفاضلة والأفعال الحميدة، وهو_عز وجل_أولى بها منهم وأحق.
وهذا سر من أسرار التوبة، وتقدير الذنوب والمعاصي.
هذا ولو شاء ألا يعصى في الأرض طرفة عين لم يعص، ولكن اقتضت مشيئته ما هو مقتضى حكمته.
12_ أن يعرف العبد حاجته إلى حفظ الله ومعونته وصيانته: وأنه كالوليد في حاجته إلى من يحفظه؛ فإنه إن لم يحفظه مولاه، ويصونه، ويعينه فهو هالك ولا بد.
13_ أن يعرف العبد حقيقة نفسه: وأنها الظالمة الجهول، وأن ما صدر منها من شر فقد صدر من أهله ومعدنه؛ إذ الجهل والظلم منبع الشر كله، وأن كل ما فيها من خير، وعلم، وهدى، وإنابة وتقوى_فهو من ربها الذي زكاها، وأعطاها إياه.
فإذا ابتلي العبد بالذنب عرف نفسه، ونقصها؛ فرتب له على ذلك حكم ومصالح عديدة، منها أن يأنف نقصها، ويجتهد في كمالها، ومنها أن يعلم فقرها إلى من يتولاها، ويحفظها.
14_ تعريف العبد بكرم الله وستره، وسعة حلمه: وأنه لو شاء لعاجله على الذنب، ولهتك ستره بين العباد؛ فلم يطب له عيش معهم أبدا.
ولكنه_عز وجل_جلله بستره، وغشاه بحلمه، وقيض له من يحفظه_وهو في حالته هذه_بل كان شاهدا عليه وهو يبارزه بالمعاصي والآثام، ومع ذلك يحرسه بعينه التي لا تنام.
صفحة ١٧
15_ تعريف العبد بكرم الله في قبول التوبة: فلا سبيل إلى النجاة إلا بعفو الله، وكرمه، ومغفرته؛ فهو الذي جاد عليه بأن وفقه للتوبة، وألهمه إياها ثم قبلها منه، فتاب عليه أولا وآخرا.
16_ أن يعامل العبد بني جنسه بما يحب أن يعامله الله به: فيعامل بني جنسه في زلاتهم، وإساءاتهم بما يحب أن يعامله الله به في إساءاته وزلاته، وذنوبه؛ فإن الجزاء من جنس العمل؛ فمن عفى عفى الله عنه، ومن استقصى استقصى الله عليه وهكذا...
17_ إقامة المعاذير للخلق: فإذا أذنب العبد أقام المعاذير للخلق، واتسعت رحمته لهم، واستراح من الضيق والحصر وأكل بعضه بعضا ، واستراح العصاة من دعائه عليهم، وقنوطه من هدايتهم؛ فإنه إذا أذنب رأى نفسه واحدا منهم؛ فهو يسأل الله لهم المغفرة، ويرجو لهم ما يرجوه لنفسه، ويخاف عليهم ما يخافه على نفسه.
ومع هذا فيقيم أمر الله فيهم؛ طاعة لله، ورحمة بهم، وإحسانا إليهم؛ إذ هو عين مصلحتهم لا غلظة، ولا فظاظة.
18_ معرفة نعمة معافاة الله: فإن من تربى في العافية لا يعلم ما يقاسيه المبتلى، ولا يعرف مقدار العافية؛ فلو عرف أهل الطاعة أنهم هم المنعم عليهم في الحقيقة لعلموا أن لله عليهم من الشكر أضعاف ما على غيرهم وإن توسدوا التراب، ومضغوا الحصى؛ فهم أهل النعمة المطلقة، وأن من خلى الله بينه وبين معاصيه فقد سقط من عينه، وهان عليه.
فإذا طالبت العبد نفسه بما تطالبه من الحظوظ والأقسام، وأرته أنه في بلية وضائقة، تداركه الله برحمته، وابتلاه ببعض الذنوب، فرأى ما كان فيه من المعافاة والنعمة، وأنه لا نسبة لما كان فيه من النعم إلى ما طلبته نفسه من الحظوظ؛ فحينئذ يكون أكثر أمانيه وآماله العود إلى حاله، وأن يمتعه الله بعافيته.
صفحة ١٨
19_ التحرز والتيقظ من العدو: فإذا تاب العبد، وأدرك ما هو فيه من الخطأ، وندم على ما كان منه من التفريط_أوجب له ذلك تمام التحرز، والتيقظ؛ فيعلم من أين يدخل عليه اللصوص، والقطاع؟ ويعرف مكامنهم، ومن أين يخرجون عليه؟ ومتى يخرجون؟ فهو قد استعد لهم، وتأهب، وعرف بماذا يستدفع شرهم وكيدهم؛ فلو أنه مر عليهم على غرة وطمأنينة لم يأمن أن يظفروا به، ويجتاحوه جملة.
20_ التوبة سبيل لإغاظة الشيطان ومراغمته: فالقلب يذهل عن عدوه؛ فإذا أصابه منه مكروه استجمعت له قوته، وطلب بثأره إن كان قلبه حرا كريما، كالرجل الشجاع إذا جرح فإنه لا يقوم له شيء، بل تراه بعدها هائجا، طالبا، مقداما.
والقلب المهين كالرجل الضعيف المهين؛ إذا جرح ولى هاربا، والجراحات في أكتافه.
وكذلك الأسد إذا جرح فإنه لا يطاق؛ فلا خير فيمن لا مروءة له، لا يطلب أخذ ثأره من أعدى عدو له؛ فما شيء أشفى للقلب من أخذه بثأره من عدوه، ولا عدو أعدى له من الشيطان؛ فإن كان له قلب من قلوب الرجال المتسابقين في حلبة المجد جد في أخذ الثأر، وغاظ عدوه كل الغيظ وأضناه، حتى يقول الشيطان يا ليتني لم أوقعه فيما أوقعته فيه؛ فيندم الشيطان على إيقاعه في الذنب كندامة فاعله على ارتكابه، لكن شتان ما بين الندمين.
وقد جاء عن بعض السلف أنه قال: =إن المؤمن لينضي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره+(54).
والله_عز وجل_يحب من عبده مراغمة عدوه وغيظه.
وهذه العبودية من أسرار التوبة؛ فيحصل من العبد مراغمة العدو بالتوبة، والتدارك، وحصول محبوب الله من التوبة وما يتبعها من زيادة الأعمال_ما يوجب جعل مكان السيئة حسنة، بل حسنات.
21_ معرفة الشر؛ حذر الوقوع فيه: فالذي يقع في الذنب يصير كالطبيب ينتفع به المرضى في علاجهم ودوائهم؛ فالطبيب الذي عرف المرض مباشرة، وعرف دواءه وعلاجه_أحذق وأخبر من الطبيب الذي عرف الداء وصفا فحسب.
صفحة ١٩
هذا في أمراض الأبدان، وكذلك أمراض القلوب وأدواؤها.
ولذلك كان الصحابة_رضي الله عنهم_أعرف الأمة بالإسلام، وتفاصيله، وأبوابه، وطرقه، وأشد الناس رغبة فيه، ومحبة له، وجهادا لأعدائه؛ لعلمهم بضده.
فإذا عرف العبد الضدين، وعلم مباينة الطرفين، وعرف أسباب الهلاك على التفصيل_كان أحرى أن تدوم له النعمة، ما لم يؤثر أسباب زوالها، وفي مثل هذا قال القائل:
عرفت الشر لا للشر
ر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشر
من الناس يقع فيه
وهذه حال المؤمن يكون فطنا، حاذقا، أعرف الناس بالشر، وأبعدهم عنه، فإذا تكلم في الشر وأسبابه ظننته من شر الناس، فإذا خالطته، وعرفت طويته رأيته من أبر الناس.
والمقصود أن من بلي بالآفات صار أعرف الناس بطرقها، وأمكنه أن يسدها على نفسه، وعلى من استنصحه، ومن لم يستنصحه.
22_ ابتلاء العبد بالإعراض عنه: فالله_عز وجل_يذيق عبده ألم الحجاب عنه، وزوال ذلك الأنس به، والقرب منه؛ ليمتحن عبده، فإن أقام العبد على الرضا والحال، ولم يجد نفسه تطالبه بحالها الأول مع الله، بل اطمأنت، وسكنت إلى غيره_علم أنه لا يصلح، فوضعه في مرتبته التي تليق به.
وإن استغاث استغاثة الملهوف، وتقلق تقلق المكروب، ودعاه دعاء المضطر، وعلم أنه قد فاتته حياته حقا، فهو يهتف بربه أن يرد عليه ما لا حياة له بدونه_علم أنه موضع لما أهل له، فرد عليه أحوج ما هو محتاج إليه، فعظمت به فرحته، وكملت به لذته، وتمت به نعمته، واتصل به سروره، وعلم حينئذ مقداره، فعض عليه بالنواجذ، وثنى عليه بالخناصر؛ فالعبد إذا بلي بعد الأنس بالوحشة، وبعد القرب بنار البعاد_اشتاقت نفسه إلى لذة تلك المعاملة، فحنت، وأنت، وتصدعت، وتعرضت لنفحات من ليس لها عنه عوض أبدا، ولا سيما إذا تذكر بره، ولطفه، وحنانه، وقربه.
صفحة ٢٠