وجوابه: أن هذه الأسماء لما لزمت طريقة واحدة، وهي أنها لا تستعمل إلا ظروفا خرجت بذلك عن حكم الأسماء، فلما قطعت عن الإضافة ازداد ضعفها وشبهها بالحرف فبنيت، بخلاف (كل، وبعض) فإنها تستعمل فواعل ومبتدآت ومفعولات على حسب الأسماء المعربة، فلم يكن حذف مضافها مقتضيا (¬1) لبنائها.
وقال الفارسي (¬2): لما كانا ظرفين وقطعا عن المضاف إليه في اللفظ؛ فلم يذكر معهما، وأريد بهما مع ذلك ما يراد به لو كان مذكورا، دل على شدة اتصالها به؛ لأن ما قطع عن الإضافة، ولم يذكر معه، لا يتعرف (¬3) به. وهذه بخلاف ذلك؛ فجريا لذلك مجرى بعض كلمة، فبنيا كما يبنى بعض الكلمة، وصارا [29ب] بمنزلة (الذي) وشبهه في أنهما لما كانا بعض كلمة بنيا.
قال: ونظير هذا: (يا حار) في الترخيم؛ لأنه لما كانت الراء آخر الاسم في التقدير بنيت، فكذلك (قبل)، و(بعد) في المركب نظير (يا حار) في المفرد.
قال أبو الفتح: قلت له: إنما يكون نظيره لو كان (قبل)، و(بعد) على حركتهما والمضاف إليه قائم معهما، كما أن (حار) على حركته، والحرف المحذوف قائم؛ فقال: هما نظيراه في البناء، ولا عبرة بما ذكرت؛ لأنك إذا رخمته حركت (¬4) الراء الساكنة لالتقاء الساكنين بالفتح. وحركة التقاء الساكنين حركة بناء؛ فدل ذلك على أن المعتبر أن يكون مبنيا إذا اقتلع عنه باقيه، لا أن يكون على حد ما كان عليه.
قال: ولأنهما ظرفان. والظروف يغلب فيها قلة التصرف، وتضمن معنى الحرف ولزوم طريقة واحدة هي النصب، ولأنهما ضمنا تعريف المضاف إليه مع إرادة إسقاط لفظه؛ فصارتا كأنهما المضاف إليه وصار تضمنهما (¬5) أيضا تعريف المضاف إليه [16أ]، كتضمن (خمسة عشر) معنى حرف العطف مع إسقاط لفظ الحرف، وجعل ما كانا عليه من الصيغة نائبا عن الحرف؛ فكذلك ضمن (قبل، وبعد) تعريف المضاف إليه، وصار ماهما عليه من صيغة البناء نائبا عنه، ولم يجز ذكره [30 ب] معهما، كما لم يجز ذكر حرف العطف مع (خمسة عشر).
ومنها: المنادي المفرد العلم، نحو: (يازيد) فإنه يبني على الضم مع أنه ليس فيه شىء مما ذكر.
وجوابه: أن علة بنائه: وقوعه موقع المضمر؛ لأن المنادى مخاطب، وحق المخاطب أن يؤتي له بضمير، ك (ضربت، وضربتك)، فكأنه حقه أن يقال: (يا إياك)، و(يا أنت)، فوقع (يا زيد) موقعه. وهذا معنى قولهم: بنى لتضمنه معنى حرف الخطاب؛ لأنه صار بمعنى (أنت)، فإن كل منادى مخاطب، فلما لازم محله تضمن معنى الحرف؛ ولهذا صار معرفا، ولم يقولوا: (يا الحارث)، و(يا العباس)؛ لئلا يجتمع تعريفان، نص عليه الفارسي وغيره (¬6). وأدرجه ابن الناظم (¬7) في كلامه على التضمن المعنوي.
صفحة ٥٠