بسم الله الرحمن الرحيم
[صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم] (¬1)
قال الإمام أبو عبد الله جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني (¬2) -رحمه الله [تعالى] (¬3) في خلاصته:
والاسم منه معرب ومبني ... لشبه من الحروف مدني
كالشبه الوضعي في اسمى جئتنا ... والمعنوي في (متى) وفي (هنا)
وكنيابة عن الفعل بلا ... تأثر وكافتقار أصلا (¬4)
ويقول كاتبه (¬5) العبد الفقير إلى رحمة ربه عبيد الله محمد بن عبد الله الزركشي الشافعي، لطف الله-تعالى- به:
الكلام على هذه الأبيات الثلاث في مقامات ثلاث:
المقام الأول: في انقسام الاسم إلى معرب ومبني.
الثاني: أن علة بناء الاسم تنحصر في شبه الحرف.
الثالث: أن الشبه ينقسم إلى ثلاثة أقسام (¬6):وضعي، ومعنوي، واستعمالي. وقد اعترض عليه في كل من الثلاث.
أما الأول فظاهره مع (¬7) قوله (¬8):
ومعرب الأسماء ما قد سلما من شبه الحرف كأرض وسما
أنه لا واسطة بين الإعراب والبناء (¬9). ولنا صور كثيرة لا نحكم (¬10) عليها بواحد منهما:
صفحة ٢٧
منها: الأسماء المسكنة قبل التركيب، كحروف الهجاء المسرودة المفتتح بها السور (¬11)، وأسماء العدد، كقولك: ألف، باء، تاء، ثاء، جيم. وواحد، اثنان، ثلاثة، أربعة. قال ابن عصفور (¬12): هي موقوفة لا معربة، ولا مبنية (¬1). ومنها: المحكى، كقولك: (من زيد) لمن قال: (مررت بزيد) (¬2)، ومنها: المتبع، كقراءة بعضهم (1ب): {الحمد لله} بكسر الدال (¬3) ومنها: الكسرة في المضاف إلى ياء المتكلم، نحو: (غلامي)؛ لأن حركته ليست للعامل ولا للبناء؛ إذ لا علة فيه توجب البناء؛ لأن الاسم الذي اتصلت به الياء لم يشبه الحرف، ولا تضمن معناه. ذكر ذلك ابن جني (¬4) في الخصائص (¬5)، ويحكى أنه سماه ب (الخصى) (¬6)؛ لتوسطه بين الحالين، وحكاه صاحب الإفصاح (¬7) عن الرماني (¬8) أيضا، قال: وكذلك قال في (سحر) المعدول، و(سبحان)، و(أيمن)، مما لا يختلف آخره؛ لأن حقيقة المعرب: ما اختلف آخره، وحقيقة المبني: ما كان سكون آخره؛ أو حركته لغير عامل، وتبعه على هذا قوم (¬9). وممن أثبت [1أ] الواسطة ابن مالك نفسه في التسهيل (¬10)، وذكر منه حركة النقل والإتباع والتخلص من السكونين، ونحو ذلك.
صفحة ٢٨
والجواب (¬11): أما الأسماء قبل التركيب فمختار الناظم وغيره (¬12) أنها مبنية، وقيل (¬13): معربة في الحكم لا في اللفظ؛ لأنها تتأثر بالعوامل لو دخلت عليها. وهو اختيار الزمخشري (¬14)، واحتج بسكون أعجازها مع سكون ما قبلها في نحو: (لام ميم)، ولا يبنى على السكون ما قبل آخره ساكن (¬15). وأجيب عنه بأن الكلمات غير المركبة إنما حكمها أن يوقف عليها، فإن وصلت فبنية الوقف (¬16)؛ ومن ثم شاع إظهار النون في نحو: {يس والقرآن} (¬1)، مع امتناعه [2ب] في نحو: {من واق} (¬2). والوقف يغتفر فيه اجتماع الساكنين؛ فكذا الوصل الذي نوى فيه الوقف.
وأما المحكى فهو مبني في اختيار ابن عصفور وغيره (¬3)، واختار الكوفيون أنها معربة (¬4) وأما المتبع فيمكن دخوله في المعرب، بمعنى القابل للإعراب (¬5) وقد فرقوا بين حركات الإتباع والحركات الأصلية بأن حركات الإتباع غير واجبة، ولا لازمة، وكلامه في التسهيل (¬6) في نفي إعرابها محمول على تلك الحالة، لا مطلقا.
وأما المضاف إلى ياء المتكلم فالصحيح أنه معرب لفظا في حالة الجر، تقديرا في حالة الرفع والنصب، قاله الناظم في شرح التسهيل، قال (¬7):
"لأن حرف الإعراب منه في حالتي الرفع والنصب أشغل بالكسرة المجلوبة، توطئة للياء؛ لتعذر اللفظ بغيرها، فحكم بالتقدير، كما فعل في المقصور. وأما حالة الجر فالإعراب ظاهر للاستغناء عن التقدير".
قال الشيخ أبو حيان (¬8): "ولا أعرف لابن مالك سلفا في هذا التفصيل (¬9)، نعم ما ذهب إليه في حالة الجمع، نحو: (رأيت ضاربي) أن الإعراب يظهر في حالة النصب والجر. وفي حالة الرفع يقدر إعرابه عنده، سبقه إليه ابن الحاجب (¬10) فزعم أن الإعراب يكون بالحرف المقدر (¬11)، كما يكون بالحركة المقدرة" (¬12).
قال أبو حيان: "وهذا لا تحقيق [3ب] فيه؛ لأن التقدير للشيء هو خلو المحل من المقدر. والواو في (زيدى) [انقلبت ياء واستحالت (¬13) إليها؛ فلم تنعدم. ألا ترى أنا لا نقول في (ميزان): إن الواو مقدرة، وإن كان الأصل: (موزان)، ولا نقول في (موقن): إن الياء مقدرة، وإن كان الأصل: (ميقن). ولا نقول في (قام)، و(باع) [2أ]:
صفحة ٢٩
إن الواو مقدرة في (قام) ولا الياء مقدرة في (باع)، وكذلك لا نقول في (زيدى)] (¬1): إن الواو مقدرة، بل الحرف فيه ظاهر، غاية ما فيه أنه استحال ياء. ونظيره في الأجسام استحالة الخمر خلا فإنه لم تنعدم (¬2) الذات، إنما تغير فيه الوصف، ولا نقول فيه: الذات انعدمت؛ إذ لو انعدمت لم يوجد الخل" (¬3) انتهى.
وقد نازع النيلي (¬4) ابن الحاجب في أنها على وجه التقدير في حالة الرفع، وقال: "ليت شعري كيف يقدر الحرف على الحرف؟ وكيف خص هذا بهذا الحكم؟ " (¬5).
ثم قال: "يحتمل أن يريد بتقدير الحرف: أن حرف الإعراب وإن كان في اللفظ ياء فهو في النية والتقدير واو" (¬6).
على أنه قد قيل في المضاف إلى ياء المتكلم بالبناء (¬7)، قاله الجرجاني (¬8)، والزمخشري، وابن الخشاب (¬9)، والمطرزي (¬10)، وابن الشجري (¬11)، قال في أماليه:
صفحة ٣٠
"لأنها حركة لم تحدث عن عامل، وكل حركة كذلك فهي حركة بناء، كما حكم أبو علي (¬12) في الإيضاح (¬13) في حركة التقاء الساكنين بأنها حركة بناء، في نحو: (لم يخرج القوم)، و{لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء} (¬1)، وإن كانت في كلمة معربة (¬2).
قال: "وإنما وجب بناؤه، لأنه لو أعرب لم تسلم الياء مع الضم والفتح؛ إذ الضم يقتضى قلبها إلى الواو، والفتح يقتضى قلبها ألفا. وأما قولهم في النداء [4ب]: (يا غلاما) فإنما فعلوا ذلك؛ لأنه باب تغير وتخفيف لكثرة استعماله، وجاء ذلك فيه قليلا، والأكثر: (يا غلامي).
والحاصل أن البناء يحدث عن علة لا عن عامل. والعلة التي أوجبت الكسر في: (لم يخرج القوم): التقاء الساكنين، والعلة التي أوجبت الكسر في (غلامي) ونحوه: انقلاب الياء واوا لو ضم ما قبلها وانقلابها ألفا لو فتح ما قبلها" (¬3). وأما تسمية ابن جني له بالخصى فمردودة؛ لأنه ذكر قطعا، والظاهر أنه أراد: (الخنثى) (¬4).
وأما المقام الثاني: وهو دعوى أن المقتضى لبناء الاسم: شبه الحرف فقط، فاعترضه الشيخ أبو حيان (¬5)، وقال: "لا نعلم أحدا قال به، فإن الفارسي (¬6) قال: هو شبه الحرف مع تضمن معناه، وأصحابنا (¬7) يعني ابن عصفور وغيره (¬8) ذكروا ستة أشياء: شبه الحرف، وتضمن معناه، ووقوعه موقع المبنى، ومضارعة هذا، والإضافة إلى مبنى، والخروج عن النظير" وكلاهما خارج عن كلام الناظم.
قلت (¬9): حصر علة البناء في شبه الحرف هو قول إمام النحو سيبويه (¬10)، قال ابن هشام في شرح الإيضاح (¬11): [لم يذكر سيبويه - رحمه الله - في أول كتابه في موجب البناء إلا شبه الحرف، وهو صحيح؛ لأن تضمن معنى الحرف شبيه به.
وقال ابن أبي الربيع (¬12) في شرح الإيضاح] (¬13): "وسيبويه لم يقل إلا المضارعة، ولم يذكر التضمن؛ لأن المتضمن للحرف مضارع له؛ فالمضارعة شاملة للنوعين" (¬14) انتهى.
صفحة ٣١
وكذا قال ابن العطار (¬1) في شرح الجزولية: "لم يذكر سيبويه إلا شيئا واحدا [5ب] وهو شبه الحرف، قال في باب (مجاري أواخر الكلم من العربية): وأما الفتح والضم والكسر والوقف فللأسماء غير المتمكنة المضارعة عندهم ما ليس باسم مما جاء لمعنى ليس غير، نحو: (سوف، وقد) (¬2) فمضارعة الحرف هي سبب البناء في كل اسم مبني إلا ما ذكر في بناء (أيهم) لخروجها عن نظائرها". انتهى.
وهو مذهب أبي الفتح ابن جني نصا (¬3)، قال صاحب البسيط (¬4): اختلف النحاة في علة البناء: فذهب أبو الفتح إلى أنها شبه الحرف فقط. انتهى.
وقد رأيته في كلامه في الخصائص (¬5)، وهو قول الفارسي (¬6) نفسه الذي غاير أبو حيان بينه وبين قول ابن مالك؛ لأن تضمن المعنى من جملة أفراد الشبه، كما نبه عليه شارحو الإيضاح، وممن جزم به أبو البقاء (¬7)
صفحة ٣٢
العكبري (¬8) في كتاب (التلقين)، وهو مختصر لطيف (¬9)، لكن المشهور تعدد علل البناء (¬10). قال صاحب البسيط: وهو قول أبي سعيد السيرافي (¬11) وأكثر النحاة (¬12)، إذا عرفت ذلك فقد اعترض على تعليلهم بناء الأسماء بشبه الحرف، فقيل: هذه العلة تقتضي وضع الحرف قبل وضع الاسم المبني؛ لأنه لو لم يقدم وضعه لما تحققت علة البناء في المبنى لعدم تصوره أولا قبل تصور الاسم الذي بنى لأجله؛ لأنه من أول وضعه [6ب] مبني، فلابد من نظر الواضع إليهما حتى يضعه على البناء.
وأجاب صاحب البسيط بأن تقدم وضع الحرف على الاسم المبني لأجله لا يلزم لجواز أن الواضع تصوره في الذهن ووضعه في الخارج على غير (¬1) ما تصوره في الذهن. وكلام ابن مالك في تعليل بناء أسماء (¬2) الإشارة يقتضيه أيضا، حيث قال (¬3): "إن تضمن معنى الحرف لا يشترط أن يكون ذلك المعنى وضع له حرف" [4 أ].
وأما المقام الثالث، وهو تقسيم الشبه إلى ثلاثة أقسام:
فأحدها: الشبه الوضعي، وضابطه: أن يجىء الاسم على أحرف هي أقل من أقل أوزان الاسم. وأقل أوزان الأسماء ثلاثة أحرف؛ فإذا وجد اسم على أقل من ذلك خرج إلى شبه الحرف لفظا؛ فأعطى حكمه، وهو البناء؛ ولهذا بنيت أكثر المضمرات، كالتاء، و(نا)، وحمل عليهما الباقي ك (نحن)، و(أنتم) حتى يجري الباب على سنن واحد، كذا نقل عن ابن الحاجب (¬4).
والحق أن الوضع (¬5) علة للضمائر المتصلة؛ لأنها الأصل، ولا يعدل عنها إلى المنفصل إلا عند تعذرها (¬6)، وليس في المتصل أكثر من حرفين. وأما المنفصلة (¬7) فعلة بنائها حملها على المتصلة بجامع احتياجهما إلى ما يعودان إليه، ويكون مفسرا لها؛ فهذا أولى من الإلحاق بلا مناسبة [7ب].
ومنهم (¬8) من علل بناء المضمرات باستغنائها عن الإعراب باختلاف صيغها؛ لاختلاف المعاني، واختصاص الرفع بضمائر والنصب بأخرى، وإن وقع اشتراك بين المنصوب والمجرور في بعض الصور فالعامل فارق، قال بدر الدين (¬9):
"ولعل هذا هو المعتبر عند الشيخ في بناء المضمرات؛ ولذلك لما قال:
* وكل مضمر له البنا يجب * (¬10)
عقبه بتقسيمها بحسب الإعراب، كأنه قصد بذلك إظهار علة البناء" (¬11) قلت: لكنه صرح في هذه الأبيات بأن العلة عنده فيها الوضع، والحاصل: أن العلة إما احتياجية أو استغنائية.
صفحة ٣٣
وقد اعترض عليه في هذا القسم من وجهين:
أحدهما: انفراده بذكره، قال الشيخ أبو حيان: "لم أقف على مراعاة هذا الشبه الوضعي إلا لهذا الرجل. والذي قال بشبه (¬1) الحرف، فسره بالافتقاري (¬2) "
الثاني: انتقاضه ب (أخ، وحم، وهن) فإنها معربة مع أنها ثنائية. والجواب: أما الأول فلأن عدم وجدانه لشخص لا يدل على عدم وجوده في كلام العرب. ومن وجد حجة على من لم يجد، وقال ابن مالك: "ولذا (¬3) كانت العلوم منحا إلهية" (¬4)، على أن أبا الفتح ابن جني قد راعاه فقال في الخاطريات ما نصه (¬5):
"علة بناء المكنيات: مشابهتها للحروف من وجهين: أحدهما: أن أكثرها على عدد [8ب] الحروف. والآخر: استغناؤها عن الإعراب كاستغناء الحروف عنه، ولكن علة الاستغناء مختلفة، ففي الحروف لم تكن فاعلة ولا مفعولة ولا [5أ] مضافا إليها، وفي المكنيات اختصاص كل بموضع من الإعراب". انتهى لفظه بحروفه.
على أن الشبه اللفظي معتبر في لسانهم، وتأمل زيادة (إن) بعد (ما) المصدرية في قول الشاعر (¬6):
ورج الفتى للخير ما إن رأيته على السن خيرا لا يزال يزيد
وهي إنما تزاد بعد (ما) النافية، لكن سوغ ذلك كون اللفظ واحدا، وكذلك ركبوا النكرة مع (لا) الزائدة في قوله (¬7):
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها إذن للام ذوو أحسابها عمرا
قال ابن مالك (¬8): "وهذا من التشبيه الملحوظ فيه مجرد اللفظ، وهو نظير تشبيه (ما) الموصولة ب (ما) النافية فيما سبق" (¬9) انتهى.
صفحة ٣٤
ومنه: توكيد المضارع بالنون بعد (لا) النافية، نحو: {لا يحطمنكم سليمان} (¬1) حملا لها في اللفظ على (لا) الناهية (¬2)، نحو: {ولا تحسبن الله غافلا} (¬3)، وهو كثير، ومنه ما يتعلق بهذا الباب من بناء (حذام) تشبيها له ب (نزال). كما سيأتي (¬4).
وأما الثاني فهو أن هذه الأسماء وإن كانت ثنائية في اللفظ، لكنها ثلاثية في الوضع، بدليل رجوع ذلك في التثنية، نحو: (أبوان، وأخوان، وحموان، وهنوان). والتثنية ترد الأشياء إلى أصولها؛ ولهذا قال الشاطبي (¬5) - رحمه الله - (¬6) [9ب]:
وتثنية الأسماء تكشفها .................
[الظاهر أن المراد: تكشف الألف المنقلبة عنها من الألف المنقلبة عن واو] (¬7).
فإن قيل: يرد عليه (مع) فإنها ثنائية لفظا ووضعا، مع أنها تعرب ظرفا في: (ملت (¬8) مع زيد)، وحالا في نحو: (جاءا معا).
قيل: لما كان في الأغلب من أحوالها الإضافة، وهي من خواص الأسماء بعدت عن الحروف؛ فبقيت على الأصل. والشبه المعتبر شرطه أن يكون مقربا لا مبعدا.
صفحة ٣٥
القسم الثاني: الشبه المعنوي، وضابطه: أن يتضمن الاسم معنى من معاني الحروف، وهي تنتهي إلى خمسين معنى، وذلك أن المعاني إنما تستفاد بالحروف، كالنفي والشرط والاستفهام والاستثناء، وجاءت هذه الأسماء مفيدة ما تفيده الحروف، علم أن ذلك من حيث وقوعها موقع الحروف (¬1).
ومعنى التضمن هو أن ينوي مع الكلم حرفا مخصوصا، وينتقل معنى ذلك الحرف إلى الاسم ويصير الاسم فرعا (¬2) لمعنى ذلك الحرف ومشتملا عليه، ولا يظهر ذلك الحرف معه لما (¬3) في ذلك من عدم الفائدة. وإنما ضمنوا بعض الأسماء معاني الحروف [6أ] طلبا للاختصار (¬4)، ألا ترى أنك لو لم تأت ب (من) وأردت الشرط على الأناسى، لم يفد ذلك؛ لأنك إذا (¬5) قلت: (من يقم أقم معه) استغرقت ذوي العلم، ولو جئت ب (إن) لاحتجت أن تذكر الأسماء، كقولك: (إن يقم زيد وعمرو وبكر وخالد) إلى غير ذلك، ولا [10ب] تستغرق (¬6) الجنس، وكذلك في أسماء الاستفهام.
وهذا القسم هو علة بناء أسماء الشرط والاستفهام (¬7)، وذلك لأن الأصل في الأسماء أن تدل على الأشخاص، نحو: (زيد وعمرو)، أو ما قام بالأشخاص، ك (علم، وجهل)، والأصل في الحروف أن تدل إما على المعاني المتعلقة بالنسبة، ك (هل)، أو على معنى لا يعقل [إلا من المتكلم وغيره، كتاء (أنت) فإنها دالة على الخطاب، وهو معنى لا يعقل إلا لمخاطب ومخاطب، فإذا ورد اسم دالا على أحد هذين الأمرين وجب بناؤه، فالأول ك (متى) فإنها تستعمل تارة استفهاما كالهمزة وتارة شرطا ك (إن). والثاني كأسماء الإشارة، فإنها دالة على معنى لا يعقل] (¬8) إلا بين شخصين: مشير ومشار إليه؛ فوجب بناؤها لمشابهتها لحرف الخطاب، كتاء (أنت)، وكاف (ذلك)؛ لأن الخطاب لا يعقل إلا بين شيئين (¬9)، وقد علم بذلك أن (¬10) لا فرق في ذلك المعنى الذي بني لأجله الاسم بين أن يكون قد وضع له حرف ك (متى)، أو لا يكون كأسماء الإشارة؛ فإنها بنيت لتضمنها معنى حرف الإشارة؛ إذ الإشارة معنى. والموضوع لإفادة المعاني الحروف؛ فلما أفادت هذه الأسماء الإشارة علم أنه كان القياس يقتضى أن يكون لها حرف، فلما عرى من حرف ظاهر وكان ما يدل عليه موجودا تضمنه الاسم فبني، وذلك الحرف وإن لم يكن ظاهرا في الاستعمال، لكنه مقدر في النية.
صفحة ٣٦
وهذا غير بدع في كلامهم، ألا ترى أن (مذاكير، وملاقيح) (¬11) لا واحد لها من لفظها، وإنما الظاهر منه: (مذكر وملقح)، وأنت تقدره واحدا غير ما ظهر، كأنك قلت: (مذكير وملقيح)، كذلك أيضا [11ب] تقدر حرف الإشارة وإن لم يظهر لفظا، ولكن ذكر ما يدل عليه من لفظ الاسم مع (ها) التنبيه؛ لقرب التنبيه من الإشارة، واستغنى باسم الإشارة عن وضع حرف الإشارة؛ ولذلك قيل في حدها: إنه الاسم الموضوع لمسمى وإشارة إليه، وصار هذا نظير التعجب. هذا قول الناظم، وابن جني، والسيرافي (¬1)، وقال صاحب البسيط: إنه المشهور. ورده الفارسي، وقال: "لا يبنى بتضمن الإشارة؛ لأن كل اسم يشار به إلى مسماه" (¬2). وإنما علته كعلة (أمس) الآتية (¬3).
وجعل الزمخشري في المفصل (¬4) علة بناء [7أ] المبهمات تضمنها شبه معنى الحرف، وحكى ابن برهان (¬5)، عن أبي الحسن (¬6)، عن عيسى (¬7) صاحب الجامع أنه "إنما بني المبهم لتضمنه معنى الإشارة التي تقوم مقام حرف التعريف (¬8) إلا أن حرف التعريف بالألف واللام يرجع إلى جنس أو معهود. والتعريف بالإشارة خارج عنهما؛ لأنك تقول للمخاطب: (هذا) مع الإشارة بجارحة أو ما يقوم مقامها من الكلام على غير معنى الجنس. ولا عهد بينك وبينه، وإنما هو تعريف لهذا الحاضر" (¬9).
فإن قيل: إذا قلنا بالمشهور، وهو واضح في (أولاء) (¬10) ونحوه، أما (هؤلاء) فلا يمكن دعوى التضمن فيه لظهور الحرف، وهو (ها)، فالجواب: قال الأصفهاني (¬11) [12ب]: الحرف الذي هو (ها) غير ذاك الذي تضمن معناه، وهذا الموجود زائد (¬12)، كما أن الألف واللام في (الأمس) عند من بناه زائدة، وأن الاسم بني لتضمنه معنى ألف ولام أخرى (¬13).
صفحة ٣٧
وذكر الفارسي أن حرف الاستفهام والشرط على مذهب سيبويه مقدر مع أسماء الشرط والاستفهام، وحذف للعلم به (¬1). وعلى هذا فالبناء في الاستفهام والشرط بالنظر إلى الحرف المحذوف؛ لأنه في حكم المنطوق به لا بالنظر إلى الاسم. قال صاحب البسيط: وهذا ضعيف؛ لأن تقدير (¬2) حرف الاستفهام مع الاسم المعرب لا يوجب له البناء؛ فالوجه المصير إلى تضمن معنى الحرف لتحقق علة البناء مع إفادة المعنى. انتهى.
وقد اعترض على الناظم في هذا القسم بأمور:
أحدها: انتفاضه بالظروف؛ فإنها معربة، مع أنه نص في هذه الخلاصة على أنها مضمنة معنى (في) (¬3)، وأجاب ابنه بأن التضمن المانع من الإعراب هو اللازم، وتضمن الظرف لمعنى (في) غير لازم؛ فلهذا لم يعتبر، فإنك إذا (¬4) قلت: (صمت يوم الخميس)، كان على معنى (في)، فإذا قلت: (الخميس) لم تجد فيه ذلك المعنى (¬5).
ويوافقه قول أبيه في باب الاستثناء من شرح التسهيل: "وأجاز الفراء (¬6) بناء (غير) على الفتح عند تفريغ العامل سواء كان المضاف إليه معربا أو مبنيا (¬7) وكأن حامله [13ب] على ذلك جعل سبب البناء تضمن (غير) معنى (إلا). وذلك عارض؛ فلا يجعل وحده سببا" (¬8). انتهى.
وقد سبقه إلى هذا الجواب: ابن الخشاب، وزاد (¬9) قوله: "فظهوره في بعض الأحوال كظهوره في جميعها، وفي بعض الظروف كظهوره في كلها" (¬10) انتهى [8أ].
وهو منتقض بالأسماء التي لم تستعمل إلا ظروفا؛ فإن التضمن فيها لازم، ومع ذلك ليست مبنية. وأجاب غيره بأن الاسم المضمن لمعنى الحرف إنما يبنى إذا كان مستغنيا في أصل وضعه عن الحرف، وضمن معناه للاختصار. وأما الظروف فظهور الحرف معها هو الأصل، وهي في أصل وضعها محتاجة إليه. وإنما أجيز حذفه للعلم به، ولو كان حذف حرف الجر من الاسم المتعدى إليه الفعل به يوجب بناءه لوجب أن يبنى المفعول به والمفعول له إذا حذف حرف الجر في الشعر. وأيضا فالظروف كثيرة؛ فلو بنيت لكثر البناء في الاسم، وأنه خلاف الأصل (¬11).
صفحة ٣٨
والحق: أن المراد ب (التضمن) - هنا - غير التضمن في باب الظروف، بل التضمن قسمان (¬1):
أحدهما: انتقال معنى الحرف إلى الاسم بالوضع، وهو المراد في باب البناء (¬2).
والثاني: مقارنة معنى الحرف للاسم حالة التركيب، لا بالوضع. وهو المراد في باب الظروف؛ فإن الظروف ضمنت معنى (في) حالة التركيب، لا حالة [14ب] الوضع، بدليل أنك (¬3) إذا لفظت ب (يوم الخميس) وحده، لم تجد فيه معنى (في) ألبتة، وإنما تجده إذا قلت: (صمت يوم الخميس)، بخلاف (متى)، ونحوه من المبنيات (¬4)، إلا أن تسمية الأول تضمينا ظاهر، والآخر فيه تجوز؛ ولهذا رجع ابن مالك في بقية كتبه عن (¬5) (الظرف) ب (التضمن) إلى (التقدير)، كما في (الكافية)، وإلى (المقارنة)، كما في شرحها (¬6).
وقد يقال: إذا كان المراد ب (التضمن) - هنا - تضمن حرف مخصوص، لا مطلق الحرف، كما صرح به صاحب البسيط، زال الاعتراض بالظرف.
وبعد، فهذا السؤال قديم، قال أبو الفتح في خاطرياته (¬7): "سألته عن الظروف المنصوبة فقلت: قد قلت: إن فيها معنى (في)، فلم (¬8) لم تبنها لتضمنها معنى الحرف؟ فقال: لم يدخلها معنى الحرف؛ لأنها ضمنت معناه، وترك اللفظ به، بل دخلها معنى الحرف قبل حد دخوله، والحرف ملفوظ به، بدليل إلزامهم ضمير الظرف الحرف، فدل على أن الحرف كأنه ملفوظ به مع المظهر؛ لأن ما يدخل على المظهر يدخل على مضمره، تقول: (ضربت زيدا، وضربته). قال: فقلت له: فيلزم على هذا أن يكون الظرف مجرورا، فقال: لم يجر [9أ]؛ لأن الحرف لما زال عن اللفظ عاقبه النصب، كما أنه لما زال من المفعول عاقبه النصب في قولك: (اخترت الرجال [15ب] زيدا)، وإن كان بمعنى المفعول، ولا حرف فيه بمعناه، وفيه الحرف (¬9). قال (¬10): ونظيره: قوله:
صفحة ٣٩
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ........................... (¬11) لأن (أن) كأنها مقدرة، ولكنه لما زال لفظها عاقبها الرفع، ونحو: (مررت بكل قائما) ف (كل) متعرفة بما أضيفت إليه بعد حذفه على حد تعرفها به ملفوظا به، ولكنه لما حذف من اللفظ عاقبه التنوين. قال: فالإضافة في (كل)، و(أن) في (أحضر الوغى)، والحرف في الظرف، وفي المفعول كأنها مقدرة في هذه الحال، وهي في الحقيقة يقدر اللفظ بها مع زوال التنوين من (كل) وزوال النصب من الظرف والمفعول به، فهذا تقدير للفظ بالحرف والاسم على شرط. وليس هو تقديرا مطلقا ليعترض بما مر (¬1) من التقدير". انتهى.
وههنا تنبيهات:
الأول: ما قررناه في تفسير (التضمين) هو المختار. ويقرب منه (العدل) في باب منع الصرف. قال ابن الدهان (¬2): والفرق بينهما: أن العدل هو أن تريد لفظا فتعدل عنه إلى لفظ آخر غيره (¬3). ك (عمر) من (عامر)، و(سحر)، من (السحر). والتضمين: أن يحمل اللفظ معنى غير الذي يستحقه بغير آلة ظاهرة (¬4). ولأبي علي الفارسي كلام في (الإيضاح الشعري) (¬5) في ذلك أيضا يوقف عليه منه.
التنبيه الثاني: أورد على قولهم: إن الحرف المضمن لا يجتمع مع الاسم المتضمنه [16ب] (أمس)، فإنه مبنى؛ لتضمنه معنى حرف التعريف، ويحسن ظهوره معه، قال تعالى: {كما قتلت نفسا بالأمس} (¬6) وأجيب بأن هذا الظاهر غير المضمن. وذكر بعضهم (¬7) أن الأسماء المتضمنة للحروف على ثلاثة أضرب:
أحدها: مالا يجوز إظهار الحرف معه، نحو: (متى)، و(كم). وهذا مبني لا محالة.
الثاني: ما يكون الحرف المتضمن مرادا كالمنطوق به، لكن عدل عن النطق به إلى النطق بدونه، فكأنه ملفوظ به، ولو كان ملفوظا به لم يكن مبنيا، وكذلك إذا عدل عن النطق به، ك (سحر)، فمثل هذا لا يقتضى البناء.
والثالث: ما يجوز إظهار الحرف معه، كالظروف والإضافة التي بمعنى (من) أو اللام أو (في) عند من يثبتها؛ فهذا لا يجوز بناؤه لجواز إظهار ذلك الحرف. وهذا ضابط حسن في كل ما ينوب [10أ] عن الحروف من الأسماء ما يبني منها ومالا يبنى.
صفحة ٤٠
التنبيه الثالث: ظاهر كلام النحويين أن الاسم المضمن يدل على معنى من جهة الاسمية ومن جهة الحرفية التي تضمنها (¬1)، وصرح الزمخشري في الكشاف (¬2) بخلاف ذلك؛ فقال في قوله تعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين} (¬3):
"فإن قلت: كيف دخل حرف الجر على (من) المتضمنة لمعنى الاستفهام، والاستفهام له صدر [17ب] الكلام؟ ألا ترى إلى قولك: (أعلى زيد مررت؟). [ولا تقول: (على أزيد مررت؟)] (¬4)
قلت: ليس معنى التضمن أن الاسم دل على معنيين معا: معنى الاسم ومعنى الحرف. وإنما معناه: أن الأصل: (أمن) فحذف حرف الاستفهام، واستمر الاستعمال على حذفه، كما حذف من (هل). والأصل: (أهل)، قال (¬5):
.................... أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم
فإذا أدخلت حرف الجر على (من) فقدر (¬6) الهمزة قبل حرف الجر في ضميرك، كأنك تقول: (أعلى من تنزل الشياطين؟)، كقولك: (أعلى زيد مررت؟) " انتهى.
وقال صاحب البسيط: قال أبو علي: حرف الاستفهام على مذهب سيبويه يقدر معها، وحذف للعلم به، وكذا قال في حرف الشرط (¬7).
وعلى هذا فالبناء في الاستفهام والشرط بالنظر إلى الحرف المحذوف؛ لأنه في حكم المنطوق به لا بالنظر إلى الاسم. وهذا ضعيف؛ لأنه ينفي علة بناء الاسم؛ لأن تقدير حرف الاستفهام مع الاسم المعرب لا يوجب له البناء؛ فالوجه المصير إلى تضمن معنى الحرف؛ لتحقق علة البناء مع إفادة المعنى.
الأمر الثاني: مما اعترض به على الناظم: انتفاضه بالمضاف، نحو: (غلام زيد) فإن المضاف إليه مجرور بالمضاف لا بحرف الجر المقدر على الأصح (¬8)، خلافا للزجاج (¬9)؛ إذ لو كان بحرف الجر لامتنع في الإضافة غير المحضة، فإن [18ب] حرف الجر غير مقدر فيها، فقد تعقلنا تضمن المضاف معنى حرف الجر على القول الأصح، ومع ذلك فهو معرب.
صفحة ٤١
والجواب: أن حرف الجر في التقدير داخل في المضاف إليه؛ فهو أولى بالتضمن وعلى كل تقدير لا يجوز أن يبنى واحد منهما؛ لأن الإضافة تنافي البناء.
الثالث: انتفاضه بالأسماء المثناة، فإنها متضمنة للواو العاطفة مع أنها معربة؛ ومن ثم ذهب الزجاج إلى أنها مبنية (¬1)، فقولك: (الرجلان) بمثابة (رجل ورجل)، فحذفوا العاطف والمعطوف، وأقاموا حرف التثنية مقامهما [11أ] اختصارا. وصح ذلك لاتفاق الذاتين في التسمية بلفظ واحد؛ ولهذا رجعوا إلى الفك عند الضرورة؛ كقوله: (¬2)
كأن بين فكها والفك
أراد: (بين فكيها)؛ فقاده تصحيح الوزن إلى العطف.
وجوابه: ما رد به على الزجاج من أن المتضمن للحرف لا يجوز ظهوره معه، ك (أين، وكيف). وهذه تظهر معها الواو؛ فلا تكون متضمنة (¬3) له.
الرابع: انتقاضه ب (أي)؛ فإنها تأتي شرطية واستفهامية، ومع ذلك فهي تعرب. وأجيب بأن شرط الشبه الحرفي: ألا يعارضه ما يرجع به إلى أصله؛ ولهذا قال (مدنى). وهذه وإن أشبهت الحرف في ذلك لكن عارضها ما يبعده عنه، وهي ملازمتها للإضافة. وهي من خصائص [19ب] الأسماء.
وفيه نظر؛ لأن (إذ، ولدن)، كقوله تعالى: {من لدن حكيم عليم} (¬4) ونحوهما ، مبنيان مع ملازمتهما للإضافة. وإنما الجواب: أن العلة مركبة من الإضافة وأمر آخر، وهو كونها بمعنى (كل) مع النكرة، و(بعض) مع المعرفة، و(كل، وبعض) معربان (¬5). وأجاب ابن إياز (¬6) في قواعد المطارحة (¬7) بأن (إذ) بناؤها لازم، و(كم)، وإحدى لغات (لدن)، وهو (لد) موضوعتان وضع الحروف، ولا يلزم من معارضة الإضافة البناء العارض معارضتها البناء اللازم.
صفحة ٤٢
فإن قيل: ف (أيهم) من قوله تعالى: {لننزعن من كل شيعة أيهم} (¬8) مضافة، وبناؤها عارض، ومع ذلك فلم تعارض الإضافة عروض البناء عند سيبويه (¬1).
وأجاب (¬2): لأجل ذلك فر ابن السراج (¬3)، فقال: إنه على الحكاية (¬4)، وبه قال الخليل (¬5). نعم ههنا سببان: أحدهما: كونها موصولة. والآخر: حذف صدر صلتها. والإضافة تعارض مقتضى البناء الواحد لا المقتضيين.
وأشار ابن مالك في شرح التسهيل في باب الموصول إلى فرق لطيف (¬6)، وذلك أنه لم يأخذ كون (أي) مقام (تا، وحا) في مشابهة الحرف، لكن أخذ بمعنى لطيف (¬7) وهو أن إضافتها قد خالفت بها أخواتها من
أسماء الشرط والاستفهام؛ فخرجت عن النظائر بإضافتها؛ فخرجت عنها بإعرابها (¬8) [20ب].
وبهذا يجاب عن مسألة (لدن) ونحوها؛ لأن (لدن) لم تخالف الظروف في ذلك؛ لأن كثيرا منها مضاف، ثم إنه لم يأخذ معنى (الكلية، والبعضية) في الموصولة؛ لأنها لا تضاف إلا لمعرفة؛ فاعلمه فإنه حسن.
وقال ابن الحاجب في أماليه (¬9): "إنما بنيت (لدن) مع الإضافة، ولم تبن (قبل وبعد) إلا عند الاقتطاع (¬10)؛ لأن من جملة لغات (لدن): (لد)، وهي تشبه الحرف في الوضع على حرفين؛ فبنيت كما بنيت (مذ) الاسمية، و(عن) الاسمية، و(كم)، و(من)، بخلاف (قبل، وبعد). وإن كانت (لدن) بمعنى (عند)؛ لأن هذه لم توضع وضع الحروف. والأحكام لا تثبت بالعلل، وإنما التعليل للواقع. وهذا تعليل مناسب".
صفحة ٤٣
وأجاب بعضهم (¬1) عن (لدن) بأن المبني إذا كان مستحقا للبناء في حال الإضافة لا تكون الإضافة مانعة له من البناء. ونظيره: (كم رجل)، و(خمس عشرك)؛ لأنها إنما بنيت في حال التنكير. والإضافة بمنزلة التنكير في مواضع منها النداء.
وفرق الأخفش بين التنكير والإضافة فيعرب في الإضافة، ويبنى في التنكير من قبل أن في الأسماء مالا ينصرف حالة التنكير، وليس منها مالا يمنع من الصرف في حالة الإضافة؛ فالإضافة أقوى من التنوين في رد الشيء إلى [21ب] أصله.
وههنا (¬2) سؤال، وهو ما علة بناء (أي) إذا أضيفت وحذف صدر صلتها؟ فإنهم نصوا على أنها إنما خرجت عن نظائرها فأعربت لأجل الإضافة. وهي موجودة في حالة وجوب بنائها؛ ومن ثم أبطل ابن جني في الخصائص اعتذارهم عن إعرابها بلزوم الإضافة. وقال: (¬3) "الإضافة لا تنافي البناء، بل لو جعلها جاعل (¬4) سببا للبناء لكان أعذر ممن يجعلها نافية له (¬5) ألا ترى أن المضاف بعض الاسم، وبعض الاسم [صوت، والصوت] (¬6) واجب بناؤه. وقد قالوا: (كم رجل قد رأيت) ف (كم) مبنية وهي مضافة، وقالوا أيضا: (لأضربن أيهم أفضل)، وهي مبنية عند سيبويه (¬7). انتهى.
وجواب هذا: أن الحذف للمصدر (¬8) منها إنما هو لتنزيل المضاف إليه منزلته، فكأنها لم تضف لا لفظا ولا نية. والمقتضى للإعراب المعارض لشبه الحرف هو الإضافة (¬9).
تنبيه: قد ظهر أن البناء لا يمنع من الإضافة في صور، منها: أنهم اختلفوا في المجرور ب (كم) الخبرية هل هو بالإضافة أو بحرف الجر المقدر؟ فعند الجمهور كما قاله العكبري في شرح الإيضاح (¬10): إنه بالإضافة. قالوا: والبناء لا يمنع من الإضافة كما في (لدن).
الخامس: أنهم أعربوا (هذين)، و(هاتين) [22ب]، مع تضمنهما معنى حرف الإشارة. وأجيب بأنهما مثنيان. والتثنية من خواص الأسماء؛ فبعدت عن مشابهة الحرف (¬11).
صفحة ٤٤
وفي هذا نظر؛ لأن اسم الإشارة لازم للتعريف، والتثنية إذا دخلت على اسم نكرته (¬1)، ولهذا قال المحققون: إنها ليست تثنية حقيقة، بل على صورة التثنية (¬2) [12أ].
القسم الثالث: الشبه الاستعمالي. وحقيقته: أن يلزم الاسم طريقة من طرائق الحروف (¬3). وله صور، منها: أن ينوب عن الفعل ولا يتأثر بالعوامل؛ فإن شأن الحرف كذلك، وذلك كأسماء الأفعال، نحو: (نزال، وهيهات)؛ فإنها نابت عن (انزل، وبعد)، ولا تقع (¬4) معمولة لعامل أصلا؛ فأشبهت نحو: (ليت، ولعل، وهل)، فإنها نابت عن (أتمنى، وأترجى، وأستفهم )، ولا تقع معمولة لعامل، فبنيت لذلك (¬5).
وخرج بذلك شيئان: المصادر، نحو: (ضربا زيدا)، والأوصاف في نحو: (جاء الضارب زيدا)، و(أقائم الزيدان؟)؛ فإنها وإن نابت (¬6) عن الفعل، لكنها متأثرة بالعوامل؛ فلم يستحكم الشبه (¬7).
وعلل في شرح الكافية (¬8) بناء أسماء الأفعال بغير هذا، وهو أنها ملازمة للإسناد إلى الفاعل، فهي أبدا عاملة، ولا يعمل فيها شيء، فأشبهت في استعمالها الحروف العاملة، ك (إن) وأخواتها. وشرح ابنه (¬9) كلامه [23ب] في الخلاصة بهذا. وهو غير مناسب للنظم إلا بتمحل.
وبالجملة فإنما تصح هذه العلة إذا قلنا: إن أسماء الأفعال لا موضع لها من الإعراب، وهو قول الأخفش وغيره (¬10)، فإن قلنا بالصحيح وهو مذهب سيبويه (¬11) والجمهور: إنها منصوبة بأفعال مضمرة، كما في قولك: (ضربا زيدا)، فقولك: (صه) معناه: (سكوتا) بنى لكونه أقيم مقام (اسكت)، أو مبتدآت والضمير الذي فيها مرفوع على أنه فاعل سد مسد الخبر؛ لاستقلال الكلام به عما فيها من معنى الفعل والفاعل، كما استقل به في: (أقائم الزيدان؟)؛ فلا يصح تعليله بشيء من ذلك.
وهذا الأخير هو الذي رجحه ابن الحاجب (¬12)، وضعف القول بأنه لا محل لها بأن الأسماء تستحق الإعراب بالتركيب، سواء وقعت موقع ما له إعراب أو ما لا إعراب له؛ ولذلك أجمعوا على أن سائر المبنيات إذا وقعت مركبة فإنها معربة (¬13) محلا وإن كانت واقعة موقع ما لا إعراب له؛ فكذلك يجب ههنا.
صفحة ٤٥
ونقل ابن الحاج (¬1) في شرح الإيضاح عن البصريين (¬2) أن علة بناء أسماء الأفعال: وقوعها موقع الفعل، و(نزال) واقع موقع (انزل)، قال: وذهب الكوفيون وابن جني (¬3) إلى أن العلة في بنائها تضمنها معنى لام الأمر؛ لأن (نزال) واقع موقع [24ب] قولك: (انزل). انتهى.
وأردت من هذا كله قول ابن جني: إنها بنيت لتضمنها معنى لام الأمر. وقال الشلوبين (¬4): الذي يظهر لي أنه لا يحتاج إلى تعليل هذا النوع؛ لأنها لم توضع إلا مواضع (¬5) الأفعال، وليس فيها موجب الإعراب أصلا؛ إذ المعاني الموجبة للإعراب من الفاعلية والمفعولية والإضافة لا تصح فيها؛ فلم [يكن] (¬6) للإعراب [13أ] فيه مدخل أصلا (¬7).
ومنها (¬8): أن يكون مفتقرا افتقارا أصليا إلى جملة، وذلك كالموصولات؛ فإنك تقول: (جاء زيد) فيتم الكلام، وتقول: (جاء الذي) فلا يتم حتى تقول: (قام أبوه)، أو نحوه، لا ينفك من ذلك (¬9).
والافتقار العارض أو إلى المفرد لا يؤثر؛ فالأول: (اضرب رجلا آمنا)، ف (رجلا) - هنا - مفتقر إلى ما بعده، لكنه لا بطريق الأصالة، ألا ترى أنك تقول: (جاءني [رجل] (¬10))، فلا يفتقر إلى شيء أصلا. والثاني، نحو: (سبحان الله) (¬11).
صفحة ٤٦