تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
تصانيف
ويظهر أن كتاب «الملة الفاضلة» هو بعينه كتاب السيرة الفاضلة، وقد قال الفارابي فيه إن نفوس الدهريين والمنافقين والأشرار التي تفقه معنى الخير الأعلى ولا تحاول بلوغ شأوه تبقى بعد الموت محيطة بما ينقصها لترتقي لدرجة الكمال، ثم لا تستطيع أن تكمل ولا أن تهلك بل تبقى معلقة بين بين وهي تقاسي في ذلك الأمرين، أما النفوس الجاهلة التي لم يصل علمها في الحياة الدنيا إلى معرفة الخير الأسمى فإنها تعود إلى العدم المطلق (نقله إسحق بن لطيف وابن فلكيرة).
يقول ابن طفيل: ثم إن أبا نصر الفارابي ذكر في شرحه لكتاب الأخلاق لأرسطو أن أرقى ما يصل إليه الإنسان هو في هذه الدنيا، وأن الخير الأسمى هو أيضا في هذه الدنيا، وأن كل ما يقال بوجوده بعد هذه الحياة ليس إلا ترهات أشبه بخرافات العجائز.
وقد أشار ابن رشد إلى تلك الفقرة الأخيرة في آخر كتابه في علاقة العقل المادي بالعقل الفعال، إذ ذكر أيضا أن الإنسان لا يتأتى له كمال أرقى من الكمال الذي يستطيع بلوغه بالنظر في العلوم العقلية. وهذا بيان قول ابن رشد فيما يتعلق بهذه القضية، فإنه بعد أن ذكر ما تعترض به طائفة من الفلاسفة على إمكان اتحاد عقولنا بالعقول المفارقة قال: وهذه الاعتراضات التي دعت أبا نصر في شرحه لأخلاق أرسطو إلى القول بأن الإنسان لا يستطيع الوصول إلى درجة أرقى من التي يصل إليها بالنظر في العلوم العقلية، ثم أضاف إلى ذكر تلك الاستحالة قوله بأن وصول الإنسان إلى حالة الجوهر الفرد المجرد عن المادة ليس إلا من ترهات العجائز. لأن ما يولد ثم يموت ليس من صفاته الخلود. هذا آخر قول ابن رشد (ابن رشد لرينان) وقد ألحقت هذه النبذة بالفارابي أعظم ضرر، وأدت إلى تكفيره في نظر بعض المتشددين من أهل عصره ومن جاء بعده، واتهموه بالقول بالتناسخ وهي تهمة مفتعلة مبتدعة سببها سوء فهم قوله في المدينة الفاضلة ص95 طبع مصر «وإذا مضت طائفة فبطلت أبدانها وخلصت أنفسها وسعدت، فخلفهم ناس آخرون في مرتبتهم بعدهم قاموا مقامهم وفعلوا أفعالهم» هذا؛ لأن الفارابي في مجموع الحكم أنكر التناسخ إنكارا باتا، وما كان ليقول به لأنه لا ينطبق على سلسلة أفكاره ولا يتفق مع آراء أستاذه أرسطو، إنما هو بدعة أفلاطونية استفادها الحكيم اليوناني من المصريين القدماء وكررها في كتبه. (13) الفارابي والخلود
ولا ريب عندنا في أن الفارابي ينكر بتاتا خلود النفس المفردة كما تقول به الأديان، ويقول إن النفس البشرية لا تتلقى ولا تعي من العقل الفعال إلا صور الموجودات وهي الصور التي تخلق وتعدم؛ لأن النفس لا تستطيع أن تتلقى المعقولات المجردة النقية لئلا ينسب إليها التناقض لجمعها بين النقيضين. وهذا رأي ابن رشد في بيان ما تسرب إلى أبي نصر من الشكوك، وحق لنا أن نذكر أن هذه الشكوك بعينها هي التي تسربت إلى ابن رشد ونسبت إليه وعرف بها وكفروه وسبوه وعذبوه في قرطبة بسببها.
بين يدينا غير كتاب «المدينة الفاضلة» كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس، قال الفارابي في مقدمته:
لما رأيت أكثر أهل زماننا قد تحاضوا وتنازعوا في حدوث العالم وقدمه، وادعوا أن بين الحكيمين المقدمين المبرزين اختلافا في إثبات المبدع الأول، وفي وجود الأسباب منه، وفي أمر النفس والتعقل وفي المجازات على الأفعال خيرها وشرها، وفي كثير من الأمور المدنية والخلقية والمنطقية؛ أردت في مقالتي هذه أن أشرع في الجمع بين رأييهما (يقصد أفلاطون وأرسطو) ثم أخذ الفارابي على طريقة أفلاطون المستحدثة (نيوبلاتونيزم) يوفق بين الحكيمين. وليس في استطاعته نقض إلهيات أرسطو ولا التحول عن عقيدته الإسلامية. على أن الممعن في هذه الرسالة يرى أن مقصد الفارابي كان دينيا محضا ولم يكن يقصد إلى فحص رأيي الحكيمين ونقدهما على الطريقة المنطقية، ولكنه يقصد إلى تفسير العالم تفسيرا فلسفيا لا يناقض الدين الإسلامي. فأغفل الفروق الفلسفية بين الحكيمين وهي لم تكن لتخفى عليه، وادعى أن الخلاف بينهما ظاهر من حيث الألفاظ وطريقة النظر. أما تعليمهما الفلسفي فواحدو التوفيق بينهما والانتفاع بآرائهما أفضل من التفاوت، ولكن هذه الرسالة لم تصل به للغاية التي كان يرمي إليها، ونصيبها في نظرنا نصيب رسالة «تهافت الفلاسفة» التي كتبها الغزالي لمثل هذا الغرض، ثم نقضها في كتابه النادر المسمى «المضنون به على غير أهله».
وقد نشر هذا الكتاب باللاتينية في باريس عام 1638، وفيه تقسيم العقول حسب ما ذكره أرسطو ووحدة العقل والعقل والمعقول ووحدة العقول الفعالة ومنها العقل الإلهي الفعال دائما. وقد ذكر أبو نصر في هذا الكتاب أن للفظ العقل ست معان:
الأول:
المعنى المبتذل في قول الجمهور في إنسان أنه عاقل.
الثاني:
صفحة غير معروفة