تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
تصانيف
مقدمة وتمهيد
1 - الكندي
2 - الفارابي
3 - ابن سينا
4 - الغزالي
5 - ابن باجه
6 - ابن طفيل
7 - ابن رشد
8 - ابن خلدون
9 - إخوان الصفاء
صفحة غير معروفة
10 - ابن الهيثم
11 - محيي الدين ابن العربي
12 - ابن مسكويه
مقدمة وتمهيد
1 - الكندي
2 - الفارابي
3 - ابن سينا
4 - الغزالي
5 - ابن باجه
6 - ابن طفيل
صفحة غير معروفة
7 - ابن رشد
8 - ابن خلدون
9 - إخوان الصفاء
10 - ابن الهيثم
11 - محيي الدين ابن العربي
12 - ابن مسكويه
تاريخ فلاسفة الإسلام
تاريخ فلاسفة الإسلام
دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
تأليف
صفحة غير معروفة
محمد لطفي جمعة
مقدمة وتمهيد
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله وبعد ...
ترجع فكرة تأليف هذا الكتاب إلى نحو عشرين عاما مضت، منذ كنت أتلقى العلم في مدرسة ليون الجامعة، وفي تلك المدينة الجميلة المطمئنة، دونت أوائل تلك الفصول، وقد صحبتني الأماني و«الكراسات» في سائر أسفاري بين ليون وجنيف ولندن وفيرنزة (فلورنسا)، ومرت علينا معا فترة الحرب العصيبة وأنا في صحبة هؤلاء الفلاسفة الاثنى عشر، ننهض تارة ونرجو رؤية النور والضياء، وطورا نرقد في مثار النقع نسمع صدى صوت المدافع في الفضاء، إلى أن شاءت الأقدار أن يلبس هؤلاء الحكماء المتقدمون ثياب الظهور في عالم الوجود المادي، فلم أشأ أن أطيل حبسهم، فأسلمت بيدي تلك الأوراق، التي أصبحت في نظري «معتقة صفراء» دقيقة الجسم، ضخمة البخار، وهكذا برز إلى عالم البعث والنشور اثنا عشر فيلسوفا من المشارقة والمغاربة، وقد تدثر كل بالقباء أو المرقعة أو المسوح أو الدراعة أو الجبة التي تليق به لدى مثوله بين أيدي قراء هذا الزمان.
فإلى الأمام أيها السادة الحكماء! ولا تعتبوا على هذا الضعيف، الذي ألجأكم إلى الخروج من كهف الماضي السحيق، ودعاكم إلى الظهور بعد الخفاء في عالم الهدوء والسكون إلى عالم الجلبة والضوضاء، فإن معظم أهل هذا الزمان لم يشرفوا بمعرفتكم، وسوف تقع أسماؤكم وألقابكم وكناكم من أسماعهم وقع الشيء الجديد الغريب، وسوف يجادلون في حقيقة وجودكم، وفي قيمة أفكاركم، وينكرون عليكم آراءكم التي بيضتم سواد ليالي أعماركم في تصورها وتحويرها، وتهذيبها وتحريرها، وسوف يمر البعض بكم متعجبا من هؤلاء الفلاسفة المتقدمين الذين عاشوا وتأملوا وفسروا الكون، وعللوا الحوادث قبل كانت، ونيتشه، وشوبنهور، وسبنسر، وستوارت ميل، وأوجست كونت، ورينان، ولن يخطر ببال هؤلاء القراء المتعجبين أنه لولاكم، أيها الفلاسفة الأعزة! من الكندي إلى ابن رشد، لم يكن لفيلسوف أوروبي حديث أن يظهر في عالم الوجود، وإنكم أنتم الذين حفظتم تلك الشعلة المقدسة التي خلفها سقراط وأفلاطون وأرسطو، في مغاور الماضي السحيق، وزدتموها نارا حتى أسلمتموها مضيئة وهاجة إلى فلاسفة أوروبا المحدثين، وكنتم لتلك الشعلة الإلهية كراما حافظين.
على أن أقداركم لم تخف على علماء أوروبا وكتابها ومؤرخيها؛ فقد عني مئات من مؤلفي تلك القارة السعيدة بالبحث عن آثاركم، وتدوين أخباركم، ونشر أفكاركم التي هي من أغلى وأثمن الحلقات في سلسلة التفكير الإنساني، فحرصوا على مخطوطاتكم وبالغوا في رفع قيمتها، وفي السعي لاقتنائها، ولم يضنوا بالمال والعمر والعلم في سبيل إحياء ذكركم، فاستفادوا من وراء بحثهم وتنقيبهم وربحت تجارتهم! ولكن الذي أنكركم أو، على القليل، شك في وجودكم العقلي، وحط من أقداركم هم أحفادكم وأخلافكم، وورثة حكمتكم وأخلق الناس بالمحافظة على ذكراكم وتمجيد أعمالكم، وهم الذين يقرءون ويكتبون ويفكرون بتلك اللغة العربية التي دونتم بها كتبكم الخالدة في بغداد ودمشق ومصر والمغرب، والأندلس، ويسأل هؤلاء الورثة الذين لا يستحقون تلك التركة الثمينة:
هل لنا حقا أجداد في الفكر والعقل؟
وهل لهؤلاء الأجداد قيمة في ميدان العلم الحديث؟ وأين كتبهم؟
وما مكانتهم بين ظهراني الفلاسفة الذين نقرأ تراجمهم ونرى صورهم، ونعثر بشذور من أقوالهم في الكتب والمجلات والصحف؟
ولأجل الإجابة على هذه الأسئلة الثلاثة ألفت هذا الكتاب؛ للتدليل على فضل هؤلاء المتقدمين، ولتعيين مكانتهم على حقيقتها بين فلاسفة العالم، ليعلم المرتاب والمتردد والمقلد أن تلك المدنية العظيمة التي ظهرت في الوجود منذ أربعة عشر قرنا، لم تكن مدنية حرب وطعن ومادة، بل كانت مدنية عقل وعلم وفكر عميق، وأن تلك المدنية التي نشأت في قلب الصحراء ونشرت أجنحتها إلى أقاصي الصين شرقا وأقاصي أوروبا وأفريقيا غربا، لم تكن مدنية السيف والمدفع بل كانت مدنية القلم والقرطاس والكتاب، وأن عقيدة هؤلاء الفلاسفة لم تمنعهم من الدرس والبحث والتنقيب عن الحقيقة.
صفحة غير معروفة
بل إن تلك العقيدة نفسها هي التي استحثتهم على السير في جميع دروب الفكر البشري، فكانت الحقيقة ضالة كل منهم ينفق العمر والمال والفكر في اقتفاء أثرها، ويلتقطها أنى وجدها، وإن هؤلاء الأقوياء من أصحاب التيجان والعروش بذلوا أنفس وأعز ما كان لديهم من المال والجاه والنفوذ في إيجاد الفلسفة في بلاد الشرق العربي والغرب الإسلامي، وإن من حث على العلم هو تلك العقيدة التي ظهرت في الصحراء على لسان (محمد) وأول من شجع على نشر الحكمة هم هؤلاء الخلفاء والملوك من الغزاة، والمجاهدين من ذوي قرباه وخلفائه وصحابته والتابعين.
وأجدر الناس بتفهم هذا القول هم الفريق الذي ظهر في الزمن الأخير بمظهر تحقير الفكر الشرقي الإسلامي، والحط من أقدار رجاله المتميزين، والطعن على علومهم وآدابهم وحكمتهم، والانتقاص من آثارهم التي كانوا بها يهتدون؛ فهذا الفريق من الخلق يعمل على هدم آثار السلف الصالح في العقل والفكر بمعول التعصب الذميم والمنفعة المادية، وإلا فكيف يستبيح أديب أو أريب أو عالم أن يقلل من قيمة أسلافه في الثقافة الإنسانية؟ وهل استباح كاتب أوروبي، من الذين يدعي هؤلاء الناس تقليدهم، لنفسه الحط من قدر أسلافه في العلم والفلسفة لمجرد قدمهم ومضي الأجيال الطويلة على اختفائهم من عالم الوجود المادي؟
بل الأمر على النقيض؛ إذ نرى النوابغ من الكتاب والمؤلفين يعملون أبدا على إحياء سير الأقدمين والإشادة بذكرهم، ونشر كتبهم وتزيينها وشرحها وتفسيرها، ومحاولة رد معظم الفضل في الحياة العقلية الحديثة إليهم، ولا يوجد فيلسوف أوروبي لم يكن له «مثل أعلى» من هؤلاء الحكماء الأقدمين يحذو حذوه وينسج على منواله، ويستضيء بنوره، وهم دائما دائبون على إحياء أعياد موالدهم، وتخليد ذكر أيامهم الكبرى بظهور مؤلفاتهم وعرفان جميلهم وفضلهم على الإنسانية.
ومن هؤلاء القوم فريق يدعي أنهم مجددون ويذمون كل قديم لمجرد قدمه، ويتهوسون بعبادة كل جديد لمجرد جدته، على أنهم لو عقلوا لعلموا أن من لا قديم له لا جديد له، وأن الشرف والنبل يرجعان إلى عراقة الأصل، وأن أفخم البنيان يشاد حتما على أمتن أساس، فكيف يكون لهم عماد دون أن يتصلوا بآثار الأجداد والأمة التي لا ماضي لها ليس لها حاضر ولا مستقبل؟
على أننا لا نعتبر «الإسلام» في تسمية هذا الكتاب الضئيل دينا أو عقيدة حسب، بل نعتبره مدنية كاملة شاملة، حافلة بكل معاني الحياة العقلية والثقافة الأدبية، وعلى هذا القياس الصحيح يكون الفلاسفة الإسرائيليون والمسيحيون بل أحرار الفكر ممن نشئوا وترعرعوا في كنف المدنية الإسلامية حكماء إسلاميين بحكم الفكر الوسط والثروة العقلية المشتركة، وعلى هذه الخطة الحكيمة سار الخلفاء العباسيون والأمويون والفاطميون في المشرق والمغرب، فقربوا الكتاب والمفكرين والأدباء من غير المسلمين ودونوا لهم الدواوين، وقلدوهم أسمى مناصب الدولة، وهؤلاء الخلفاء العظماء شرحوا صدورهم وفتحوا قصورهم للفلاسفة من أهل سائر الأديان، بينما كان أباطرة وملوك وأمراء غيرهم في ممالك أخرى يصلبون ويعذبون ويشنقون ويحرقون رجالا ثبتت لهم العبقرية في الفكر والزعامة في العلم فيما تلا من الأيام.
وسوف يجد القارئ بين دفتي هذا الكتاب فصلا مسهبا في الصوفية بمناسبة ترجمة الشيخ «محيي الدين ابن العربي» الذي قد يتردد بعض المؤلفين في وضعه في صف الفلاسفة، على أنهم لا يترددون في عد الغزالي فيلسوفا لمجرد كتابته في الفلسفة، بغض الطرف عن الغاية التي كان يقصد إليها، على أن ابن العربي أحق بوصف الفيلسوف من الغزالي؛ لأن التصوف نوع من الفلسفة إذ هو يرسم خطة للحياة الإنسانية، وصاحبه يبحث عن الحقيقة ويسعى في حل لغز الحياة وتفهم أسمى أسرار الكون، ولا تخرج الفلسفة في أكمل معانيها عن حدود هذه الغايات، فضلا عن أن ابن العربي تفرغ لمباحثه وأخلص فيها ودقق وحقق، وأمعن وتعمق، ووقف حياته ووجوده على غرض واحد لم يتعده، وقد بلغ فيه درجة من أسمى الدرجات، بل إن الكتاب الوحيد الذي اشتهر به سيدنا حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي - وهو «إحياء العلوم» - يعد في نظر الكثيرين من الأخصائيين في الدرجة الثانية بالنسبة لكتاب «الفتوحات المكية» تأليف ابن العربي، وقد كانت لمحيي الدين شخصية مدركة متميزة، سادت تاريخ التصوف الإسلامي الحديث؛ لأنه المحيي غير مدافع، والشيخ الأكبر دون منازع عند أهل السنة من العرب والترك، وعند أهل الإمامة من الفرس.
ولما كان العرب واليهود فرعين لدوحة واحدة هي الدوحة السامية، والشعبان متفقين أصلا ومدنية وتاريخا، ويكاد اللسانان العربي والعبراني يتحدان، ولولا ما امتازت به اللغة العربية من ظهور لهجة قريش وقدرتها على الحياة كانت مناحي الفكر لديهما متحدة.
بيد أن الفرق بين الشريعتين الموسوية والمحمدية، قد ظهر ظهورا جليا في قابلية كل منهما في البحث الفلسفي، وقد ظهر في كل عهد من العهود نوابغ إسرائيليون يعدون في مقدمة الشعوب التي ينتمون إليها وطنا لا عقيدة، وفي عصرنا هذا عبقريون، منهم أحياء ومنهم من قضى نحبه، أمثال: «كارل ماركس» و«أينشتين» و«برجسون» وعشرات لهم في عالم الفكر البشري ذكر باق.
وقد حصر حكماء بني إسرائيل همهم في العصور الأولى لظهور ملتهم في التهديد والوعيد وتعليم الحكمة الربانية، وقالوا بوحدانية الله ووحدة خلقه ووحدة سائر الكائنات، فكان بحثهم قاصرا على الذات، ولم يتعد إلى الصفات التي يعتبرها فلاسفة الإسلام مظاهر للذات، ولم يتجه نظر أحد من هؤلاء الحكماء إلى البحث في علم النفس البشرية وحقيقتها، فكأن فلسفتهم كانت عبارة عن الاعتقاد المطلق بالله بدون بحث علمي أو طريقة فلسفية، مع أن مصادر العلوم الربانية والنفسانية كانت متوافرة لديهم في كتب الهنود والإغريق.
لم يعرف فلاسفة اليهود علم المنطق، ولم يسلكوا سبيل البراهين والأدلة والحجج، أو أنهم عرفوه ولم يلجئوا إليه واكتفوا في تأييد آرائهم بالإسناد إلى الوحي.
صفحة غير معروفة
أما عن نظرية الخير والشر في الحكمة الإسرائيلية، فقد قال فلاسفة اليهود: «إن الله سبحانه هو خير محض، ولا يصدر عنه إلا الخير.» وأثبتوا ذلك أو حاولوا إثباته بما ورد في الكتاب المقدس. أما الشر فقالوا: «إنه من صنع البشر، وإنه ثمرة لتغلب المادة على العقل أو انتصار مبدأ المادة على مبدأ العقل.» وقد نسبوا الشر للإنسان خشية أن يؤدي بهم الكلام فيه إلى الخروج، وقد أدت بهم نسبة صدور الشر إلى الإنسان إلى القول بأنه حر في إرادته وتصرفاته، ويجب عليه أن يجعل أعماله منطبقة على مبدأ الخير الأسمى؛ لئلا يقهره المبدأ المادي فيصير أسيرا للشر، وهذا هو مبدأ حرية الإرادة المعروف لعهدنا هذا باسم
Libre Arbitre
أو مبدأ الخيار في الحياة، باعتبار الإنسان مخيرا لا مسيرا أن مبدأ الخيار في الحياة لم يظهر في الفلسفة الحديثة إلا بعد تطاحن أجيال في العقائد والأفكار، ولكن اليهود لم يكلفوا أنفسهم مشقة البحث، بل استندوا إلى نصوص من الكتاب المقدس (التوراة)، حيث جاء بقول صريح على لسان الله في مخاطبة الإنسان:
انظر! قد جعلت اليوم قدامك الحياة والخير، والموت والشر.
ومعظم هذه الحال راجع إلى مزاج النفس «السامية»، التي صدق (رينان) كثيرا في وصفها في عرض كلامه في كتابه الممتع في «تاريخ اللغات السامية».
والمشاهد عند حكماء اليهود، الذين لا يمكن أن نطلق عليهم اسم الفلاسفة، أنهم كانوا إذا اقتربوا من النظريات الفلسفية المحضة يرجعونها إلى دائرة الدين، ويجعلون الحكم فيها وعليها فوق مدارك العقل البشري.
ونجد هذه الحال ممثلة أجلى تمثيل في سفر أيوب، من أسفار «العهد القديم»؛ إذ اجتمع الحكماء، وأخذوا يبحثون في مسألة العناية الإلهية والقضاء والقدر، فظهر الله في عاصفة لأيوب وأظهر له قصر المدارك البشرية عن الوقوف على أسرار الطبيعة، ورفع الستار عن وجه الحقيقة، واكتناه حكمة القضاء، ووجوب خضوع الإنسان بعد إقراره بعجزه لله والتسليم بإرادته؛ مما يؤدي بتوجيه القضايا الفلسفية نحو جهات الاعتقاد.
بيد أن امتزاج اليهود بأهل بابل والفرس والكلدان ساعد على تأثر الحكمة الإسرائيلية بأفكار وعقائد هؤلاء الغزاة الذين هم من جنس (آري).
فإن الفرس يقولون بوحدانية الله، ويبغضون الوثنية كما ورد في كتابهم (الزندافستا). على أن الفرس، وإن كانوا من جنس آري، فإن آسيويتهم (نسبتهم إلى آسيا) تغلبت على آريتهم، فلم يبلغوا من الفلسفة شأوا يستفيض منه نور على عقول حكماء بني إسرائيل، فبقيت كتب هؤلاء بعد تقربهم وامتزاجهم بالفرس خالية من المباحث النظرية وما وراء الطبيعة خلوها من ذلك من قبل.
وما زال اليهود على ذلك الجمود الفلسفي والاكتفاء بالبقاء في دائرة الدين إلى أن تغلب اليونان على سوريا، وانتشرت فيها فلسفتهم وآدابهم، فأدركت اليهود الغيرة من علو كعب فاتحي بلادهم في المباحث التي لم يطرقوها، على أنهم لم يجرءوا على البحث الحر الصريح القوي، بل عادوا إلى الكتب المقدسة يشرحونها، معتمدين في ذلك على بعض مبادئ الأفلاطونية المستحدثة التي كانت مزهرة في الإسكندرية، فلم يتعدوا أفكار فيثاغورس وأفلاطون.
صفحة غير معروفة
وقد أدخل بعض حكمائهم في روعهم أن لعقائد بني إسرائيل أثرا في تكوين آراء أكابر الفلاسفة اليونان أمثال فيثاغورس وأفلاطون وأرسطوطاليس؛ لأنهم في زعمهم مروا في أسفارهم على بلاد بني إسرائيل وأخذوا العلم والحكمة عن حكمائهم.
وكان بين طوائف اليهود طائفة تشبه الصوفية عند المسلمين، وهم الذين نبغوا من الفريسيين، وكان مذهبهم القول بالمبادئ والآداب والفعل بها، كالزهد والعفة والتقشف والتقوى، ونبغت طائفة أخرى، وهي الصدوقية، لكنها شطت وجمحت، فأنكر ذووها خلود النفس، وتدخل العناية الإلهية في أعمال البشر، معتمدين في هذا الإنكار على أنه ينافي نظرية الاختيار الإنساني.
ونشأت من فرقة الصدوقية فئة اسمها الأسينية (من المواساة والطب)، وقد جعلوا فلسفتهم نوعا من الاشتراكية، وعاشوا بمقتضى مبادئهم، كتبادل الحب بين الأفراد، وبغض الملاذ، والتغلب على هوى النفس، واحتقار الغنى، ولا يزال في أرض فلسطين إلى الآن وقبل ظهور «الصهيونية» بمظهرها الأخير في ظلال نظرية «الوطن القومي»؛ مستعمرات إسرائيلية تسير على مبدأ تلك الفرقة، بعد أن عفت آثارها، وانقطعت أخبارها إلا من الكتب.
وقد قاسى اليهود من الظلم والاضطهاد في عهد الرومان والقرون الأول من العصر الديني الأوروبي؛ ما أضعفهم وأطفأ شعلة ذكائهم، فانصرفوا إلى المجادلات الدينية والمجاهدة في سبيل البقاء في أقطار العالم، بعد أن ذهبت دولتهم وتشتت شملهم وفقدوا عاصمة ملكهم؛ لذا تجد (المشنة) و(التلمود) خاليين من الأبحاث الفلسفية أو الكلام فيما وراء الطبيعة.
وما زال اليهود كذلك من الجهة العقلية حتى نزحوا إلى بلاد العرب قبل الإسلام، فطابت لهم الإقامة في الجزيرة العربية في عهد الجاهلية، وتوافرت بينهم وبين تلك القبائل أسباب الألفة لما بين اليهود والعرب من روابط الجنس السامي، واللغتين العربية والعبرانية اللتين هما من فصيلة واحدة. •••
ولما ظهر الإسلام لم تكن وطأته ثقيلة على اليهود فانتعشوا، وانصرف فريق منهم إلى الاشتغال بالعلم والأدب، ثم علا نجمهم في صدر الإسلام؛ إذ أصبح كثير من نابغيهم موضع ثقة الخلفاء وعنايتهم، أمثال سعيد بن يعقوب الفيومي وصموئيل بن حفني.
وكان سعيد بن يعقوب الفيومي المذكور، ويعرفه اليهود باسم سعدية بن يوسف المصري، رئيس مدرسة (سورا) القريبة من بغداد، وهو أول من ألف من اليهود كتابا باللغة العربية ونشره في موضوع العقائد والعقليات، ومحور هذا الكتاب - الذي يعد فتحا جديدا لليهود، كما يعد دستورا لفرقة الربابنة وأصحاب التلمود - وجوب اتباع أحكام العقل في العقائد وجواز فحص القضايا الدينية؛ لأن العقل الصحيح خليق بأن يرشد صاحبه إلى الحقائق التي ينقلها الوحي إلى أصحاب النبوة، وأن تعليل الوحي هو الرغبة في وصول الإنسان بسرعة إلى إدراك الحقائق العليا، التي لو ترك البحث فيها للعقل وحده لاحتاج في الوصول إليها وإدراكها عناء عظيما وزمنا طويلا.
ونحن نعد سعيد بن يعقوب هذا من فلاسفة الدنيا بحق، ولكنه لم يعش حتى يدرك ازدهار الفلسفة العربية في بلاد الأندلس، التي كان من أثرها في يهود إسبانيا أنفسهم، أنهم ثاروا على مدرسة (سورا) وأرادوا أن يستبدلوا بها مدرسة جديدة يجعلونها في قرطبة؛ وطن ابن رشد، ويلقنون فيها، على أيدي رجال من خيار علمائهم، العلوم والفلسفة وفنون الأدب، التي أهملها يهود الشرق.
فقامت تلك المدرسة في قرطبة فعلا، وأمها الطلاب من كل فج عميق، ونبغ منها بعض الأساتذة الذين ألفوا في فلسفة المشائين اليونانية، ولا تزال بعض كتبهم في مكاتب أوروبا، ولخليفة عبد الرحمن الثالث معظم الفضل في نفع هذه المدرسة وتعظيم شأنها.
ومن فطاحل من نبغ في هذه المدرسة، وقد ورد اسمه مرارا في هذا الكتاب، وفي كتاب الأستاذ الإسرائيلي «منك» الحكيم موسى بن ميمون المعروف عند كتاب الإفرنج بميمونيد، وهو من أهل القرن الحادي عشر للمسيح، ويرجع الفضل في تثقيفه وتهذيبه إلى حكماء العرب، بل إنه نسج على منوالهم في رغبته في الجمع بين فلسفة أرسطوطاليس والشريعة الموسوية مع إخضاع النظر لأحكام العقل والمنطق، وقد اضطهد المسيحيون الإسبان هذا الحكيم الإسرائيلي فيمن اضطهدوا من اليهود بعد زوال دولة العرب، فلجأ إلى مصر في عهد السلطان المجاهد فخر الإسلام صلاح الدين الأيوبي، فعرف قدره وقربه وجعله طبيبه الخاص، ولا غرابة فإن هذا الحكيم كان يسمى موسى الثاني أو أفلاطون اليهود.
صفحة غير معروفة
لقد اعتبر كثير من علماء المشرقيات دين الإسلام مدنية ذات يقظة ونهضة ووثوب، بدأت بظهور الإسلام ونمت في ظل فتوحه واستكملت قوتها بعد أن شملت كثيرا من شعوب الشرق والغرب؛ هذا لأن الكتاب المنزل على أفصح العرب لم يكن كتاب دين حسب، بل إنه كان مصدرا ومرجعا لنحو ثلاثمائة علم في الشرع، واللغة، والتاريخ والأدب، والطبيعة، والفلك، والفلسفة، وغيرها. ومعظم تلك العلوم نشأ من القرآن نفسه واستنبطه العلماء من نصوصه، وكثير منها تولد خدمة للقرآن ويسمي هذا النوع من العلوم «وسائط» أو «وسائل».
وقد كان لذلك الكتاب أثر شديد في أصحابه، وقد شمل شريعة، وقانونا، وأنظمة سياسية واجتماعية ومدنية، وشيء من هذا لم يوجد في كتاب سواه، بل إن غيره من الكتب ينطوي على تعاليم لمصلحة الحياة الآخرة.
وكثير جدا من نصوص الكتاب المنزل على أفصح العرب يحث أصحابه على طلب العلم والنظر والتأمل والتفكير في خلق السماوات والأرض، وأنظمة الكواكب والأجرام العلوية، واختلاف الليل والنهار، وتغير الرياح، وعجائب البحار، ومعجزة خلق الإنسان وتطوره وتميزه بالعقل والإدراك، وتفضيله على سائر الكائنات، وتسخير الجماد والنبات والحيوان لخدمته فيما ينفعه ويرقي شئونه في سائر ناحيات الحياة المادية والأدبية، عدا عما ورد في هذا الكتاب من حوادث التاريخ وأخبار الأمم البائدة والباقية، فكان من المحتم أن تتفتح أذهان تلك الأمم التي انتحلت هذه العقيدة، واهتدت بهدي كتابها.
وفي معترك تلك الحياة الغنية بالفكر والعلم والتأمل وتنازع البقاء بين القديم والجديد؛ ولدت الفلسفة الإسلامية، فكان الفرق بين اليونان والعرب أن اليونان تفلسفوا في وثنيتهم، فلما دانوا بدين منزل - هو المسيحية السمحاء - زالت فلسفتهم وانقرض حكماؤهم؛ لشدة المعارضة بين عقيدتهم الجديدة والفلسفة، أما العرب فقد كانوا في جاهليتهم ووثنيتهم أبعد الناس من الفلسفة مع معاصريهم لليونان من أقدم الأزمنة، فلما جاءهم الكتاب المنزل على أفصح العرب أخرجهم من ظلمات الجاهلية والوثنية ومن دياجير الجمود الفكري أيضا، وحثهم على الدرس والبحث والنظر، ومهد لهم سبيل الفلسفة.
وانقضى القرن الأول وثلث القرن الثاني من صدر الإسلام في الاستعداد والتجهيز إلى أن جاء العصر العباسي الأول، الذي يعد العصر الذهبي للإسلام، وقد دام مائة عام من 132ه إلى 232ه، وفي هذا العصر الذهبي بلغت دولة الإسلام قمة مجدها في المدنية والغنى والسيادة، وفي تلك المائة نشأ معظم العلوم الإسلامية، ونقلت العلوم الأجنبية إلى اللغة العربية، وكانت بغداد في ذلك العهد أشبه بباريس في عهد لويس الرابع عشر، فكانت قصور الخلفاء آهلة بالعلماء والأطباء والأدباء والشعراء، وكانت سيادة العباسيين على العالم الإسلامي شاملة سائر الأقطار، وكانت أوروبا في ذلك الوقت - وهو النصف الأخير من القرن السابع والنصف الأول من القرن الثامن - في غيابة الجهل والوحشية؛ حتى أن مؤرخي أوروبا أنفسهم يسمون هذا العصر وما سبقه وما لحقه بالقرون المظلمة
The Dark Ages .
على أن نهضة الإسلام لم تكن قاصرة على الأمم التي اعتنقت هذا الدين، بل كانت النهضة شاملة للشرق كله، كأن المبعث هز أركان ذلك الجزء من الكرة الأرضية، فهب من سباته الذي مضت عليه الأجيال المتراكمة، وأخذ ينفض عن نفسه غبار خمول الأجيال السابقة، فنهض الفرس والترك والتتار والهنود، حتى أهل الصين واليابان فإنهم هبوا للإصلاح الأدبي في أثناء ذلك العصر العباسي أو بعده بقليل، فكانت حركة الإسلام كهزات الزلازل تسير في مناطق معينة وتنتقل في دوائر محدودة، ولا يزال مؤرخو الآداب الصينية يذكرون نهضة فحول شعرائهم في القرنين التاسع والعاشر للمسيح، في عهد إمبراطورهم ابن السماء «تنغ»، واشتغل اليابانيون في ذلك العصر أيضا بتهذيب اللغة اليابانية وتنظيم الآداب الاجتماعية، وظهرت فيهم عبقرية الفنون، فكان منهم الشعراء والأدباء والمصورون والمثالون.
وهكذا ما فتئ المشرقان الأقصى والأدنى يتأثران بحركة النهضة التي تظهر في أحدهما فيكون لها صدى في الآخر، وما صدق على القرن التاسع المسيحي، صدق أيضا على نهضة القرن التاسع عشر في الشرقين الأقصى والأدنى.
ومن مميزات هذا العصر العباسي اشتغال الخلفاء والأمراء بالعلم والأدب، وأخبار المنصور والرشيد والمأمون وأقاربهم ووزرائهم وشعرائهم تملأ كتب الأدب والتاريخ العربي، فكان من حياتهم أعظم دافع لاشتغال الرعية بطلب العلم والنبوغ فيه.
ومن مفاخر هذا العهد إطلاق الفكر من قيود التقليد، حتى تعددت البدع وتفرقت الفرق وكثرت النحل، وكان أكثر الخلفاء تسامحا في الدين، المأمون الذي بلغ به تسامحه أنه انتصر للمعتزلة في القول بخلق القرآن. وكانت الأفكار، من حيث الدين، مطلقة الحرية لا يكره الرجل على معتقد أو مذهب، وقد اجتمع ستة إخوة «لأبي جعد»: اثنان منهما يتشيعان، واثنان مرجئان، واثنان خارجيان، وكلهم تحت سقف واحد.
صفحة غير معروفة
أما الخلفاء الذين اهتموا بنقل العلوم الأجنبية أو الدخيلة من اليونانية والفارسية والسريانية والهندية فهم: المنصور وكان اهتمامه بالفلك والطب، والرشيد ونقل في أيامه كتاب «المجسطي» في الرياضيات، ثم المأمون وهو الذي اهتم بنقل الفلسفة والمنطق بصفة خاصة وسائر العلوم بصفة عامة، وقد بلغت الكتب التي نقلت في ذلك العصر مئات، أكثرها من اليونانية منها:
8 في الفلسفة والأدب لأفلاطون.
19 في الفلسفة والمنطق لأرسطو.
10 في الطب لأبقراط.
48 في الطب لجالينوس.
20 (وأكثرها في الرياضيات والفلك) لإقليدس وأرخميدس وبطليموس وغيرهم.
20 من الفارسية في التاريخ والأدب.
30 من اللغة السنسكريتية في الرياضيات والطب والفلك والأدب.
20 عن السريانية والنبطية، في الفلاحة والزراعة والسحر والطلاسم.
20 عن اللاتينية والعبرانية في مختلف العلوم والآداب والفنون.
صفحة غير معروفة
أما الذين نقلوا تلك العلوم من اللغات الأجنبية إلى العربية فهم: (1)
آل بختيشوع من أولاد جرجيوس بن بختيشوع السرياني النيسطوري، طبيب الخليفة المنصور. (2)
آل حنين، سلالة حنين بن إسحاق العبادي شيخ المترجمين، وهو من نصارى الحيرة. (3)
حبيش الأعسم الدمشقي ابن أخت حنين. (4)
قسطا بن لوقا البعلبكي من نصارى الشام. (5)
آل ماسرجويه اليهودي السرياني. (6)
آل ثابت الحراني من الصائبة. (7)
أبو بشر متى بن يونس. (8)
يحيى بن عدي. (9)
اسطفان بن باسيلي. (10)
صفحة غير معروفة
موسى بن خالد.
وهؤلاء نقلوا العلوم من اليونانية والسريانية إلى العربية.
أما نقلة العلم من الفارسية إلى العربية فهم: (1)
ابن المقفع. (2)
آل نوبخت، وكبيرهم نوبخت وابنه الفضل. (3)
موسى ويوسف ولدا خالد. (4)
علي بن زياد التميمي. (5)
الحسن بن سهل. (6)
البلاذري أحمد بن يحيى. (7)
إسحاق بن يزيد.
صفحة غير معروفة
ومن الذين نقلوا عن اللغة السنسكريتية: (1)
منكه الهندي. (2)
ابن دهن الهندي.
ومن الذين نقلوا من اللغة النبطية: (1)
ابن وحشية، نقل كتبا كثيرة أهمها كتاب «الفلاحة النبطية».
وظاهر مما تقدم أن المسلمين في عصرهم الذهبي نقلوا إلى لسانهم معظم ما كان شائعا من العلم والفلسفة والطب والفلك والرياضيات والآداب، واتخذوا عن كل أمة أحسن ما لديها، ولكنهم اختاروا من اليونان فلسفتهم، وتركوا آدابهم وفنونهم، لأسباب يطول شرحها، ووفيناها حقها من البحث في كتابنا «الشهاب الراصد» ص160 وما بعدها، عند الكلام على المقارنة بين العرب واليونان والرومان.
وقد كانت تلك المؤلفات التي نقلت إلى اللغة العربية هي النواة التي نبتت ونمت، ثم أزهرت وأثمرت وأتت بأطيب الفوائد للمسلمين وغيرهم ممن اندمجوا في مدنيتهم خلال الأربعة عشر قرنا منذ ظهر الإسلام إلى الآن.
كان العصر العباسي الأول عصر الغرس وبذر البزور، فجاء العصر الثاني للحصاد وجني الثمار، ويجدر بنا أن نرد الفضل إلى ذويه ونعترف بسرور وعن طيب خاطر بأن الذين اشتغلوا بنقل العلم والفلسفة في العصر العباسي الأول كان معظمهم من أدباء أهل الكتاب من غير المسلمين، فلما تم النقل تقدم المسلمون إلى العمل، فكان أسبقهم يعقوب بن إسحق الكندي، الذي بدأنا بترجمته في مفتتح هذا السفر الضئيل، وهو من أبناء القرن الثالث الهجري.
ومن عجيب الاتفاق أن هذا العصر العباسي الثاني كان زمنه مائة سنة كسابقه، تبدأ بآخر الثلث الأول من القرن الثالث الهجري، وتنتهي بانتهاء الثلث الأول من القرن الرابع الهجري. ثم بدأ العصر العباسي الثالث (334-474ه) وهو عصر ابن سينا وإخوان الصفا والغزالي.
وفي العصر العباسي الرابع انتقلت تلك العلوم الدخيلة إلى بلاد الأندلس، وذلك بعد ظهور رسائل إخوان الصفا بمائة عام، وكان الفضل في ذلك لأبي الحكم عمرو بن عبد الرحمن الكرماني القرطبي، الذي رحل من الأندلس إلى المشرق في طلب العلم وعاد إلى بلاده حاملا نسخة من تلك الرسائل، فتعلق الأندلسيون بالفلسفة وأحبوها، واستغرقوا في درسها وقاسى بعضهم الشدائد في سبيلها، كما هو مفصل في كلامنا على ابن رشد، وفي تلك البلاد ظهر ابن باجه، وابن طفيل، وابن رشد، وابن خلدون، وغيرهم من الفلاسفة والحكماء والأطباء والرياضيين والفلكيين والكيميائيين ممن ملأت شهرتهم الخافقين.
صفحة غير معروفة
وبانقضاء دولة الإسلام في الأندلس قضي على الفلسفة أيضا، ولم تقم لها بعد في ممالك الإسلام قائمة، إلى أن ظهر محمد جمال الدين الحسيني الأفغاني المتوفى في آخر القرن الماضي.
ومما هو جدير بالذكر أن ظهور الفلسفة ونموها كان تابعا لقوة الدين الإسلامي وشدة بأسه وسعة انتشاره، فلما ضعفت العقائد الدنية ضعفت المباحث العقلية التي كانت تستدعيها تلك العقائد، فكأن دين الإسلام بضد غيره من الأديان، كان يغذي الفلسفة ويقويها ويشد أزرها، وقد لاحظ الأستاذ «رينان» في بعض مؤلفاته هذه الظاهرة العجيبة، وهي هبوط الفلسفة في أوروبا كلما قويت شوكة الدين، وانتعاش الفلسفة بعد ذلك عقيب تدهور العقائد الدينية في أوروبا.
فإن الفلسفة الأوروبية الحديثة لم تر نور الشمس إلا في القرن السابع عشر، ومن بعد أن تحللت قيود المسيحية السمحاء، واندثرت معالم المظالم التي كانت تتحفز للقضاء على كل مفكر حر، وما حدث في إسبانيا عن يد محاكم التفتيش، وفي إيطاليا ضد «جاليله» وأمثاله، بل في سويسرا البروتستانتية؛ حيث أمر «كالفن» الشهير بإحراق وإعدام العالم «ميشيل سرفيه» بعد طول التعذيب والسجن، وكانت جريمته في نظر «كالفن» أنه سبق «هارفي» الإنجليزي إلى اكتشاف الدورة الدموية في جسم الإنسان.
فظن «كالفن» أن في ذلك ما يخالف الدين، فنكل به ما شاء فسامحه (!؟) ولم يجد أبناء الأجيال الحاضرة وسيلة للتكفير عن ذنب إمامهم الورع «كالفن » سوى نصب تمثال من المرمر في قرية (أنماس) على أبواب جنيف، يمثل ذلك العالم الطبيعي «مشيل سرفيه» مقيدا بسلاسل السجن ومتدثرا بثياب بالية وقد دب في كيانه البدني دبيب النحول والهزال، بعد أن أصبح فريسة لليأس والألم ولذعات القمل!
لقد كانت الفلسفة من قديم الزمان مقيدة بالنظم التي وضعها المعلم الأول «أرسطو» وهي: المنطق، والأخلاق، والإلهيات. وما زالت كذلك إلى أن ظهر «ديكارت»، فشاد بناء الفلسفة الحديثة على قاعدة البحث بطريق افتراض الشك للوصول إلى اليقين، ثم توسع في تطبيق تلك القاعدة «هيوم» الإنجليزي و«كانت» الألماني و«سبينوزا» الهولندي.
ومنذ القرن التاسع عشر ظهرت تيارات جديدة للفلسفة في ألمانيا، بدأها «شوبنهور» متأثرا بأفكار أستاذه وصديق أسرته «جوته»، وانتهت «بفردريك نيتشه» الذي خرج بالفلسفة عن الدروب المطروقة وتغلغل بها في سبل حديثة الاكتشاف للفكر البشري، وتلاه في فرنسا «برجسون» صاحب المذهب الافتطاري
Intuition ، ولا تزال الفلسفة الأوروبية الحديثة واقفة عند هذا الحد إلى أن يأتي لها من يأخذ بيدها ويفسح لها مجالا جديدا، بعد أن ينتشلها من وهدة السقوط الذي أدركها في العشرين سنة الأخيرة؛ إذ عدت عليها عوادي المذاهب المادية، واستغرقت شهوات البشر، من طموح إلى السيادة وطمع في السعادة، جميع قوى الإنسان وسدت عليه مسالك الفكر الصحيح، وأنشبت أظفارها بمواهب العقل السليم.
فلا عجب إذا ألحت بنا الحاجة ونحن في القرن الرابع عشر الهجري، وهو شبيه بقرن نهضة إحياء العلوم والآداب بأوروبا بعد انقشاع ظلمات القرون الوسطى، إلى نشر «تاريخ فلاسفة الإسلام» وشرح مبادئهم، لعل في هذا التحريك إيقاظا وإنعاشا بعد الرقاد الطويل الذي استولى على المفكرين في الإسلام من عهد ابن رشد إلى وقتنا هذا.
محمد لطفي جمعة
الفصل الأول
صفحة غير معروفة
الكندي
أبو يوسف يعقوب بن إسحق الكندي، فيلسوف العرب، وأحد أبناء ملوكها، فرع الدوحة الكندية، وسليل أمراء الجزيرة العربية، كان أبوه إسحق بن الصباح أميرا على الكوفة لعهد ثلاثة من خلفاء العباسيين: المهدي والهادي والرشيد، وتنتهي سلسلة أجداده لدى يعرب بن قحطان، وبينهم الأشعث بن قيس من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان قبل ذلك ملكا على كندة كما كان أبوه. ومن أجداد الكندي معدي كرب وكان ملكا في حضرموت كأبيه. ومعظم أجداد الكندي ملوك بالمشعر واليمامة والبحرين.
لم يذكر مؤرخو العرب تاريخ ميلاد الكندي ووفاته بالدقة، ولم يذهبوا إلى أكثر من أنه من أهل القرن الثالث للهجرة، ولكن عالمين غربيين حققا ذلك، فذكر فلوجل أن الكندي عاش في النصف الأول من القرن العاشر للميلاد، ومات بعد عام 861م. وذكر العلامة ناجي الإيطالي - أحد أساتذة الفلسفة بروما، المتوفى في أواخر القرن التاسع عشر وكان ممن عنوا بتاريخ الفلسفة العربية، ونشر كتبا للكندي باللاتينية - أن وفاته كانت عام 258 هجرية؛ أي 873 مسيحية، وثبت أنه كان حيا يرزق عام 198 هجرية فكأنه عمر نحو سبعين عاما.
قال سليمان بن حسان (وهو ابن جلجل الأندلسي) إن الكندي كان بصريا، وكانت له بالبصرة ضيعة نزل بها، ثم انتقل إلى بغداد، وتخرج في مدارسها بعد مدارس البصرة، وكان عالما بالطب والفلسفة وعلم الحساب والمنطق وتأليف اللحون والهندسة وطبائع الأعداد وعلم النجوم، وقيل إنه كان يملك جانبا من علوم الإغريق والفرس، ويعرف حكمة الهنود، وكان كذلك ملما بإحدى اللغتين الأجنبيتين الذائعتين لذاك العهد، وهما اليونانية والسريانية، لأجل هذا ندبه المأمون فيمن ندب من الحكماء إلى ترجمة مؤلفات أرسطو وغيره من فلاسفة اليونان.
وقال سليمان بن حسان إنه لم يكن في الإسلام فيلسوف غيره! ولعله يقصد بذلك إلى أنه أول فلاسفة الإسلام. ثم إن الكندي احتذى في تآليفه حذو أرسطو، وفسر من كتب الفلسفة الكثير، وأوضح منها المشكل، ولخص المستصعب وبسط العويص، وهذا لعلو كعبه في الترجمة؛ فقد ذكر شاذان في المذكرات عن أبي معشر، المشهور عند المصريين بكتاب في التنجيم: «إن حذاق التراجمة في الإسلام أربعة، بينهم يعقوب بن إسحق الكندي.»
بيد أن بعض معاصريه نقموا عليه إما حسدا وإما غير ذلك، ومنهم القاضي أبوالقاسم صاعد بن أحمد القرطبي، قال في «كتاب طبقات الأمم» عند الكلام على كتب الكندي في المنطق إنها «نفقت عند الناس نفاقا عاما، وقلما ينتفع بها في العلوم؛ لأنها خالية من صناعة التحليل التي لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل في كل مطلوب إلا بها. وأما صناعة التركيب، وهي التي قصد يعقوب في كتبه هذه إليها، فلا ينتفع بها إلا من كانت عنده مقدمات عتيدة فحينئذ يمكن التركيب، ومقدمات كل مطلوب لا توجد إلا بصناعة التحليل، ولا أدري ما حمل يعقوب على الإضراب عن هذه الصناعة الجليلة، هل جهل مقدارها أو ضن على الناس بكشفها؟ وأي هذين كان فهو نقص فيه، وله بعد هذا رسائل كثيرة في علوم جمة، فيها آثار فاسدة ومذاهب بعيدة عن الحقيقة». ا.ه.
وتحامل القاضي القرطبي ظاهر على أن هذا لم يكن رأي علماء الإفرنج في الكندي، فقد عده غليوم كردانو الإيطالي المتوفى سنة 1576، بين الاثني عشر عبقريا الذين ذكر أنهم أهل الطراز الأول في الذكاء والعلم، لم يخرج للناس سواهم منذ بداية العالم إلى نهاية القرن السادس عشر للمسيح. وقال روجر باكون، وهو قس إنجليزي من أهل القرن الثالث عشر للمسيح، ومن مشاهير القرون الوسطى: «إن الكندي والحسن بن الهيثم في الصف الأول مع بطليموس لاشتهاره بما دونه في علم المرئيات، وقد نقل بعض رسائله في هذا الباب جيرار دي كريمونا.»
على أن مؤلفات الكندي الفلسفية، وشروحه لحكمة أرسطو، وهي أول ما دونه العرب في هذا، نادرة الذكر في كتبهم التي وقعت لنا. ونذكر بين مؤلفاته كتابا في قصد أرسطوطاليس في المعقولات، وآخر في ترتيب مصنفات أرسطو. وذكر له ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء رسالة «في كمية كتب أرسطو، وما يحتاج إليه في تحصيل علم الفلسفة، مما لا غنى في ذلك عنه، وفي ترتيبها وأغراضه فيها»، وكتاب في قصد أرسطوطاليس في المقولات، والموضوعة لها رسالته الكبرى في مقياسه العلمي. ومن كتب أرسطو كتاب أتلوجيا، وهو «قول على الربوبية»، تفسير فارفوريوس الصوري، ونقله إلى العربية عبد المسيح بن عبد الله ناعمة الحمصي، وأصلحه لأحمد بن المعتصم بالله أبو يوسف يعقوب بن إسحق الكندي، وطبع ببرلين عام 1882.
أسفلنا أن الكندي في طليعة من شرحوا أرسطو، ولكن ابن سينا خلفه وتفوق عليه. وذكر ابن جلجل أنه لم يكن بين فلاسفة الإسلام (كتب هذا بعد وفاة الفارابي) من اقتفى آثار أرسطو بأدق مما اقتفاه الكندي.
صفحة غير معروفة
أما تآليف الكندي فتكاد تشمل سائر العلوم، فقد دون كتبا في الفلسفة وعلم السياسة والأخلاق، والأرثماطيقي وعلم الكريات والموسيقى، والفلك والجغرافيا والهندسة ونظام الكون والتنجيم، والطب والنفسانيات والأبعاديات والمساكن ألف فيه رسالته الكبرى، ورسالة في الربع المسكون وعلم المعادن، وفيه رسالة في أنواع الجواهر والأشباه، ورسالة في نعت الحجارة والجواهر ومعادنها وجيدها ورديئها وأثمانها، ورسالة في تلويح الزجاج، وأخرى في أنواع الحديد والسيوف وجيدها ومواضع انتسابها. وألف في الكيميا رسالة في العطر وأنواعه، ورسالة في كيمياء العطر. وأخرى في التنبيه على خدع الكيمائيين، ورسالة في الطبيعة، ورسالة في الأجرام الغائصة في الماء، ورسالة في الأجرام الهابطة، ورسالة في عمل المرايا المحرقة. وله كتب خطية في مكاتب أوروبا ذكرها بروكلمان في فهرسته.
بيد أن الناظر في مؤلفات الكندي يرى أنها لم تخرج عن حد العقليات. وأخبرنا العلامة سنتلانا، أستاذ تاريخ الفلسفة بالجامعة المصرية في عام 1911: «إن البينوناجي الذي سلف ذكره نشر في عام 1897 خمس رسائل فلسفية للكندي، أولاها في ماهية العقل، ونشرت ترجمتها باللاتينية.»
وليس بين مؤلفات الكندي شيء في الدين، بل إنه اشتهر برأي خاص في «واجب الوجود»، خالفه فيه المتشددون من أهل عصره، وأخذوا عليه رأيه المذكور الذي أودعه رسالة التوحيد. وقد روى عبد اللطيف البغدادي، أحد أطباء العرب، ومؤلف «كتاب أخبار مصر»، وهو من أهل القرن الثاني عشر ومن الفقهاء المتعصبين؛ أنه كتب رسالة ضمنها بحثا في حقيقة واجب الوجود وما ينبغي نحو ذاته العلية، وأن غايته من تدوينها نقض ما دونه الكندي من قبل في «رسالة التوحيد». وروى كاتب «مقالة الكندي» في دائرة المعارف البريطانية «أنه كان أول الثائرين على الإسلام»؛ يقصد المبتدعين. ولكن في هذا مغالاة، فقد سبقه كثير من المعتزلة، كواصل بن عطاء في أوائل القرن الثانين وعمرو بن عبيد، والنظام تلميذ ابن الهيثم، والجاحظ تلميذه، وكلهم سابقوه. على أن خصوم الكندي لم يأخذوا عليه إلا قوله «بوحدة واجب الوجود وبساطة ذاته العلية»، وإن هذا القول أرسطي محض، ومعناه أن القائلين به لا يعترفون لواجب الوجود بصفة مطلقة، والصفات المطلقة هي المميزة عن الذات، وكان أرسطو حقيقة ينكر الصفات ويقول بأنها والذات شيء واحد، وهذا القصد من قولهم ببساطة واجب الوجود.
على أن المعتزلة والسنيين متفقون في جوهر هذه المسألة. فإن المعتزلة تقول: «إن الله عليم بذاته خبير بذاته قادر بذاته»؛ أي يعلم ويقدر دون الاحتياج إلى صفة. أما الصفاتية، وهم جمهور المسلمين، فيقولون بأن الله عليم بالعلم؛ أي بصفة العالم، وقادر بالقدرة؛ أي بصفة اسمه القادر. وإن هذه الصفات ليست منفصلة عن الذات؛ لأنها لو انفصلت لعادوا إلى رأي المعتزلة، وقد يشركون. وحجة المعتزلة فيما سبق بيانه أن القول بالصفات يثبت ثلاثة عشر قديما (الصفات المشهورة ثلاث عشرة: خمس سلبية وواحدة نفسية وسبع معان). على أن المعتزلة إذا سئلوا قالوا إن الله قادر، فهم متفقون وجمهور المسلمين في الجوهر كما أسفلنا.
أول أعداء الكندي من معاصريه أبو معشر. روى ابن النديم البغدادي الكاتب المعروف بابن أبي يعقوب في كتاب الفهرست «أن أبا معشر، وهو جعفر بن محمد البلخي، من أصحاب الحديث أولا، وكان منزله في الجانب الغربي بباب خراسان ببغداد، وكان يضاغن الكندي ويغري به العامة، ويشنع عليه لأخذه بعلوم الفلاسفة، فلما رأى الكندي منه ذلك أراد أن يقطع عن نفسه شره بما ينفع أبا معشر ولا يضره، فدس عليه من حسن له النظر في علم الحساب والهندسة فاشتغل بهما، ولكنه لم يوفق فيهما فعدل عنهما إلى علم أحكام النجوم، فانقطع شره عن الكندي بنظره في هذا العلم، وقد تعلم علم أحكام النجوم بعد سبع وأربعين سنة من عمره»، وأمسى من تلاميذ الفيلسوف بعد أن كان ألد أعدائه!
روى أبو جعفر ابن يوسف في كتابه «حسن العقبى»، عن أبي كامل شجاع بن الحاسب «أنه كان لعهد المتوكل أخوان شريران: محمد وأحمد ابنا موسى بن شاكر، وكان هذان الشقيان يكيدان لكل من ذكر بالتقدم في علم أو معرفة، فلما ذاع فضل الكندي غاظهما ذلك، وأرادوا الوقيعة به لدى المتوكل، وكان للكندي نصير في بلاط الخليفة، وهو سند بن علي، فباعداه عن المتوكل وأشخصاه إلى مدينة السلام، فلما خلا لهما الجو دبرا على الكندي مكيدة، فضربه المتوكل، ووجها إلى داره فأخذا كتبه بأسرها وأفرداها في خزانة سميت «الكندية».»
وقد ردت له هذه الكتب بخبر غريب، وهو أن الشقيقين الشقيين كانا يعملان للانفراد بالمتوكل وإبعاد أهل الفضل عنه، والحصول على ما يستطيعان من المال، فكشف أمرهما في حفر النهر المعروف بالجعفري؛ فإنهما أسندا حفره إلى مهندس معرفته أوفى من توفيقه، فغلط في فوهة النهر، وأتلفا جملة من مال المتوكل، فأقسم أن يصلبهما على شاطئه إن كان ما بلغه عن الغلط حقا، فتوسلا إلى سند بن علي الذي ما تركا شيئا من سوء القول إلا ذكراه عند المتوكل به، فقال لهما سند بشمم أهل الفضل: «إنكما لتعلمان ما بيني وبين الكندي من العداوة والمباعدة، ولكن الحق أولى ما أتبعه، والله لا ذكرتكما عند المتوكل بصالحة حتى تردا عليه كتبه!» فتقدم محمد بن موسى في حمل الكتب إليه وأخذ خطة باستيفائها، فوردت رقعة الكندي بتسلمها عن آخرها، وقال سند للمتوكل إنهما ما غلطا لينقذهما من العقاب. ومات المتوكل بعد ذلك بشهرين قبل أن يظهر غلط الحفر في النهر.
اعتاد مترجمو الحكماء رواية بعض أقوالهم في الحكمة العامة للاستدلال على آرائهم، ويغلب أن يكون المنقول من الحكم الذائعة على ألسنة الأدباء ذكرت للإسهاب، أو دست على الرواة؛ فقد قرأت حكما نسبت لسقراط، وقرأتها بعينها منسوبة لكونفوشيوس ولقمان وغيرهما، ومثل هذا كثير، ولا أظن أنه يؤخذ به في تقدير المنسوب إليه أو في الحكم عليه.
والأقوال المروية عن الكندي تنقسم، من حيث شكلها، قسمين: نثرا وشعرا. والنثر في ثلاثة أمور: الأول نصيحة للطبيب، والثاني في الحث على التواضع، والثالث في التحذير من الأقارب ، ورويت عن سبعة أبيات من الشعر، رواها العسكري في كتاب الحكم والأمثال وهي:
أناف الذنابي على الأرؤس
صفحة غير معروفة
فغمض جفونك أو نكس
وضائل سوادك واقبض يديك
وفي عقر بيتك فاستجلس
وعند مليكك فابغ العلو
وبالوحدة اليوم فاستأنس
فإن الغنى في قلوب الرجال
وإن التعزز بالأنفس
وكائن ترى من أخي عسرة
غني وذي ثروة مفلس
ومن قائم شخصه ميت
صفحة غير معروفة
على أنه بعد لم يرمس
فإن تطعم النفس ما تشتهي
تقيك جميع الذي تحتسي
وعندي أن هذه الأبيات تدل على حالة نفسية حزينة، تدني هذا الفيلسوف العربي القديم من شوبنهور. ولا غرابة إذا كان الحزن ميزة الحكماء؛ فهو كما قال زيلر في كتابه عن تاريخ فلاسفة اليونان «علامة الأمم المفكرة».
قال في وصيته: «ليتق الله تعالى المتطبب ولا يخاطر فليس عن الأنفس عوض!» وقال: «كما يحب أن يقال إنه كان سبب عافية العليل وبرئه، كذلك فليحذر أن يقال إنه كان سبب تلفه وموته.» وكان رحمه الله طبيبا ونصحه صالح لكل زمان! «العاقل يظن أن فوق علمه علما فهو أبدا يتواضع لتلك الزيادة، والجاهل يظن أنه قد تناهي فتمقته النفوس لذلك» نقلا عن كتاب المقدمات لابن بختويه.
قال الكندي يوصي ولده: «يا بني، الأب رب والأخ فخ والعم غم والخال وبال والولد كمد والأقارب عقارب.»
وهذا من وصيته لابنه أيضا «قول «لا» يصرف البلا، وقول «نعم» يزيل النعم، وسماع الغناء برسام حاد؛ لأن الإنسان يسمع فيطرب وينفق فيسرف فيفتقر فيغم فيعتل فيموت.» «الدينار محموم فإن صرفته مات! والدرهم محبوس فإن أخرجته فر! والناس سخرة فخذ شيئهم واحفظ شيئك! ولا تقبل من قال اليمين الفاجرة فإنها تدع الديار بلاقع!» (1) إيضاح عن الكندي
1
لا يوجد أدب لغة أغزر مادة من الأدب العربي، ولا أبعد عنه مدى ولا أعمق غورا ولا أشهى ثمرا وأكثر نفعا، ولكنه لسوء حظ عشاقه وهواته والمشتغلين به محدود الفائدة لطلابه، وقد يتعجب القارئ لهذا التناقض ولكن تلك الدهشة تزول إذا علم أن المؤلف أو الباحث قد يصرف أياما في التنقيب عن مبحث يريده وقد يقرأ مائة صفحة قبل أن يعثر بسطرين لهما مساس بمبحثه، فقد منح الله كتاب العرب وأدباءهم من سعة الاطلاع وحب الاستطراد والتعلق بأسباب الإسهاب والتطويل، ما يجعل بعضهم ينتهي من مؤلفه قبل أن يصل إلى بداية الموضوع الذي ندب نفسه لدرسه، أو الكتابة فيه، ولم يسلم من فضلاء الأدباء إلا العدد القليل ممن صحت عقولهم وعزائمهم وتمكنوا من كبح جماح نفوسهم لدى استهواء الاستطراد مثل الجاحظ على أن أمثال الجاحظ قليلون. أما سواهم فيجعلون كتب التاريخ موسوعات لفنون الأدب وعلم النبات والحيوان والطب والتنجيم، ويندر أن لا يفردوا في كل فصل من فصولها بابا للنحو والصرف والبيان!
ومما يعجب له أن الكتاب الذين قطعوا أنفسهم لتدوين تراجم العظماء والفلاسفة والشعراء، لم يعنوا قط بوصف معايشهم وأخلاقهم وأطوارهم وأحوالهم النفسية كما فعل اليونان وكما يفعل الأوروبيون في هذا الزمان. وقد يكتفي بعضهم بذكر مؤلفاتهم، وسنتي ميلادهم ووفاتهم وقد لا يذكر ذلك على التحقيق إلا في بعض الأحوال دون غيرها. ومن غرائب هذا الباب أن لا يذكر مؤرخو حياة المتنبي إلا أنه مدح سيف الدولة وهجا كافورا وقتل بمكان قفر، ولا يوجد في سيرته خاصة إلا رسالة ضئيلة طبعت على هامش شرح العكبري لديوان هذا الفحل، وهو شرح مطول في جزأين ضخمين يبدأ في تفسير كل بيت من أبياته بالإعراب والتحليل والصرف والنحو والغريب من الألفاظ.
صفحة غير معروفة
ومما ذكره المؤرخون عن ابن تيمية، وهو أعظم أئمة المجتهدين المصلحين أمثال مارتين لوثيروس وكالفين في الغرب، «أنه مات من قطعة هريسة ازدردها» ...
وغنى عن البيان بعد ما تقدم أن من يريد أن يكتب صفحة صحيحة عن عظيم عربي يعرض نفسه لأنواع المشاق والمتاعب. ويحسن بي ذكر ما قاله لي العلامة سانتيلانا أستاذ تاريخ المذاهب الفلسفية في الجامعة المصرية عامة 1911، عند الكلام على تراجم فلاسفة الإسلام، من أنه قد يقرأ الكتاب ذا الصفحات العديدة دون أن يتمكن من تدوين سطر واحد. وروى لي الأستاذ إدوار لامبير أستاذ الحقوق بمدرسة ليون الجامعة، أن جولد زيهر أحد علماء المشرقيات النمسويين قضى أكثر من عشر سنين في تأليف كتابه «في السنة المحمدية»؛ وذلك لتشتت المواد وصعوبة الوصول إلى ما كان يريد جمعه من الأخبار والروايات والأسانيد.
2
لا يمكن تصوير الكندي تصويرا معنويا أو خلقيا ينطبق على الحقيقة انطباقا تاما؛ لأنه لم يترك كتابا ولا رسالة في ترجمة حاله، ولأن المؤرخين لم يذكروا عنه إلا أمورا مبتذلة، ولكن بعض مؤلفاته وبعض أقواله وحال العصر الذي عاش فيه قد تساعد في مجموعها الباحث المدقق، في الوصول إلى الوقوف على ما يقرب من الحقيقة من شئونه.
فمما يذكر عنه وله شأن في هذا المعنى أن الكندي عمر طويلا، ويصح القول بأنه ساير القرن التاسع المسيحي، وهو من أهل المائة الثالثة الهجرية. والفضل في تحقيق ذلك راجع إلى عالمين غربيين هما فلوجل وناجي. أما مؤرخو العرب، وفي مقدمتهم المسعودي، فلم يذكروا عن ميلاده ووفاته شيئا بالتحقيق أو ما يشابهه؛ لأن الكندي توفي بعيدا عن بلاط المتوكل، وقد ردته هذه العزلة إلى الخمول الذي يشمل سائر الأحياء في الأرستقراطيات الشرقية التي لا يظهر فيها إلا كل من له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بولي الأمر في زمنه.
ويستنتج من أقوال هذين العالمين الغربيين فيما سبق أن الكندي عاش نحو سبعين عاما، وهذا يدل على اعتداله في عيشته واستقامته في أمور حياته الدنيوية، وعلى قوة بنيته الأصلية.
ويؤخذ من أخباره أنه نشأ وترعرع في كنف الخلفاء العباسيين، فقد كان أبوه أميرا على الكوفة لعهد ثلاثة من خلفاء العباسيين، فلما نبت يعقوب لجأ إلى قصور الخلفاء، وقد عاش الكندي كأبيه في ظل ثلاثة من الخلفاء العباسيين، وهم المأمون والمعتصم والمتوكل، وأولهم أعظمهم، وقد مرح الكندي في كنفه ونال من حظوته ما ناله أمثاله العلماء، وكان المأمون أوسع الخلفاء العباسيين صدرا للحكماء وأرحبهم جانبا وأقلهم تشددا وتعصبا.
وقد ندب فيمن ندبوا لنقل العلوم من اليونانية والسريانية إلى العربية، وكان كذلك ينتاب الخلفاء في التطبيب ويخدمهم في التوقيعات الفلكية دون التنجيم، فإنه كان يبغضه وينفر الناس منه، وله مع ابن معشر الشهير حديث طويل أتينا عليه قبلا، وقد عاش أبو يوسف معظم أيامه عيشة هنية في ظلال دواوين الحكومة العباسية لعهد المأمون والمعتصم فتفرغ لدرس فلسفة أرسطو، وأخذ في شرحها والتعليق عليها. فصححت تلك الفلسفة الإغريقية نظره في الأشياء وشحذت من ذهنه ووسعت دائرة معارفه وفكره، وكانت المائة الثالثة الهجرية حافلة بفضلاء المعتزلة وأكابر علماء الكلام والمجتهدين وأحرار الفكر، وقد رماهم بعض المغالين بالإلحاد أمثال النظام والجاحظ وواصل بن عطاء وغيرهم ممن حفل بذكرهم كتابا «الملل والنحل» و«الفرق بين الفرق» للشهرستاني والبغدادي وغيرهما، ولم يكن للكندي بد من الاحتكاك بهم والأخذ عنهم والاستنارة بأفكارهم، فأدخل في كتبه ما شاء العقل الراجح والبصيرة المنورة، مما أخذه عليه الجهال والنوكى فوشوا به عند المتوكل، وكان المتوكل متسرعا فنقم على الكندي ولم يرع خدمته له ولأسلافه من قبل ونكبه في حقوقه وكتبه.
3
بيد أن الكندي على عظم علمهن واتساع نطاق معارفه، وغزارة مادته، وتعدد تواليفه وتصانيفه، وسبقه سواه من العرب إلى درس أرسطو وترجمة كتبه؛ لم يكن عبقريا بالمعنى الصحيح على الرغم مما ذكره غليوم كردانو؛ لأنه لم يكن له مبدأ فلسفي خاص به، بل كان مصنفا يعمم العلم وينشره بشرح أمهات الكتب والتعليق عليها وإدخال مذهب أتباع فيثاغورس وأرسطو في كتبه. فكان إذن عالما ذا مواهب جمة لم تبلغ به سمت الذكاء الإنساني، ولم تنزل به إلى مستوى العلماء المتوسطين، وكانت له في الطب والرياضيات عصمة عن الخرافات والتدجيل.
صفحة غير معروفة
فمن فضائله أنه نهى عن الاشتغال بالكيمياء للحصول على الذهب، وذم ذلك وبين أنه عبث وتضييع للعمر والعقل والمال، وقد سبق ابن سينا في هذا السبيل، وكان أشرف مبدأ وأسمى غرضا لأن ابن سينا ختم كتبه بالكيمياء فاغتر بها غيره، ومنهم عبد اللطيف البغدادي الذي لم يبق لابن سينا كرامة؛ لأنه غرر به واستهواه بكتبه للاشتغال «بالصنعة». وعبد اللطيف أحد أطباء العرب ومؤرخيهم، ساح في أواخر المائة السادسة للهجرة، وألف رسالة في الرد على الكندي في بعض مسائل التوحيد، مع أن الكندي كان أصدق إيمانا وأكبر فضلة وأكثر قناعة وتعففا من ذاك «التيس الملتحي»، الذي وصم الإسلام والمسلمين بإحراق مكتبة الإسكندرية. (راجع كتابه مختصر تاريخ مصر طبع أكسفورد عام 1800 صفحة 114). وقد ثبت كذبه ونفى علماء الإفرنج هذه الوصمة عن العرب والإسلام.
ومما يذكر عن الكندي أنه كان بخيلا إلى درجة الشح، وله في ذلك أقوال مأثورة رواها عنه ابن أبي أصيبعة، وهو مؤرخ مشهور برواية حكم ونبذ مسجوعة عن كل حكيم ترجمه، أما البخل أو التشدد في نفقة المال فسجية معظم الأدباء والعلماء في الشرق والغرب، ولهم في ذلك أخبار ونوادر. وقد ذكر ذلك نزبيت الإنجليزي مؤلف كتاب «العبقرية والجنون»، وقال إن بخل العلماء من الأمراض النفسية اللاصقة بالنبوغ. أما عن انقطاع الكندي عن الناس وانزوائه وزهده فقد تكون من عواقب نكبته التي أصابه بها المتوكل ومما قاساه من الاضطهاد في محنته. (2) بيان مؤلفات الكندي الموجودة إلى الآن في عالم الآداب مخطوطة أو مطبوعة
ذكر صاحب الفهرست كتب الكندي فإذا هي كما يأتي:
فلسفة
22 كتابا
حساب
11 كتابا
نجوم
19 كتابا
هندسة
صفحة غير معروفة
23 كتابا
فلك
16 كتابا
طب
22 كتابا
جدل
17 كتابا
سياسة
12 كتابا
أحداث
صفحة غير معروفة