واما الجيد الذكر من الناس فهو البطىء الحركة الذى يثبت فى نفسه ما يمر به من المحسوسات. وذلك هو الذى مزاج مؤخر دماغه متمسلك بالصورة الحاصلة، وهذا هو الذى تغلب على مزاج ذلك الموضع منه اليبوسة اكثر من غلبة الرطوبة، فان اليبوسة من شانها شأنها ان يعسر قبولها. فاذا قبلت الصورة، فمن شانها ان تثبت فيها وتتمسك بها زمانا طويلا بخلاف الامر فى الرطوبة. ولذلك كان الذين امزجة ادمغتهم هذه الامزجة جيدا التذكر، لان جيدة التذكر انما تكون عن بقايا رسم الصورة المنطبعة في القوة المتخيلة. واما الذين تغلب على هذا الموضع منهم الرطوبة فانهم لا يتذكرون الاشياء لقلة ثبوت الصور فى الرطوبة، ولكنهم يحفظون سريعا لسهولة قبول الرطوبة الصورة. ولهذا كان الكثير اليبس قليل الحفظ، كثير الذكر؛ كان الكثير الرطوبة، سريع الحفظ كثير النسيان عسير الذكر. والمتوسطون فى هذا المزاج تجتمع لهم جيدة الحفظ وجيدة الذكر. ولهذا كانت جيدة الذكر منسوبة الى سن الشباب بالطبع، كان النسيان يعرض لصبيان والشيوخ. اما الصبيان فلموضع الرطوبة الطبيعية واما الشيوخ فلموضع الرطوبة العرضية. وانما يوجد بعض الشيوخ جيد الذكر اذا لم يغلب على مزاجه الطبيعى هذا المزاج العرضى. وذلك ان المزاج الطبيعى للشيخ انما هو مزاج اليبس. ولذلك قد يوجد الشيخ ذاكرا ولا يوجد حافظا.
واما الصبيان فيوجدون حفاظا اكثر مما يوجدون ذاكرين. واما الشباب، فهم الذين لهم الامران معا، اعنى الحفظ والذكر. وانما يذكر المرء كثيرا مما احسه فى صباه ذكرا جيدا لانه فى صباه شديد العشق للصور التى تمر به، شديد الاستغراب لها، فيطول تشبثه بها ويجيد تحصيله اياها فيعسر ذهابها.
صفحة ٥١