تلخيص كتاب الحس والمحسوس للفقيه القاضى ابو الوليد بن رشد المقالة الاولى
صفحة ١
ولما تكلم فى كتاب الحيوان في اعضاء الحيوان وما يعرض لها، وتكلم بعد هذا فى كتاب النفس فى النفس وفى اجزائها الكلية، شرع هاهنا فى التكلم فى القوى الجزئية منها، وتميز العام منها لجميع الحيوان من الخاص. وبالجملة فهو يفحص هاهنا عن القوى التى توجد للحيوان من جهة ما هو متنفس. ولما كانت هذه القوى صنفين، صنف ينسب لجسد الحيوان من اجل وجود النفس له مثل الحس والحركة، وصنف ينسب للنفس من اجل الجسد. وهذه هى اجناس: منها النوم واليقظة؛ ومنها الشباب والهرم؛ ومنها الموت والحياة؛ ومنها دخول النفس وخروجه؛ ومنها الصحة والمرض؛ ومنها طول العمر وقصره؛ وكان قد تكلم فى الصنف الاول منها فى كتاب النفس كلاما كليا، ابتدأ هاهنا فتكلم فيها كلاما جزئيأ، اعنى انه يذكر فصولها العامة لجميع الحيوان والخاصة بنوع نوع، ويوفى القول فى ما بقى عليه من اسباب تلك القوى. مثال ذلك انه تكلم في كتاب النفس فى القوة المحركة الحيون فى المكان، ما هى وكيف تحركا، وبقى عليه هاهنا ان يقول ما هى الاعضاء والآلات التى بها تتم هذه الحركة.
ثم انه بعد ذلك يذكر الصنف الثانى من هذه القوى، وهذا الصنف هو ضرورى فى جود الحيوان. وذلك ان كل قوة منها تشمل قوى كثيرة من قوى النفس، وهى كالجنس لها. ولذلك كانت اكثر ضرورية من الصنف الاول، مثل النوم واليقظة، فان النوم سكون جميع الحواس، واليقظة هي حركاتها. وكذلك الموت ولحياة، والشباب والهرم، والصحة والمرض.
والذى يلفى لارسطو فى بلادنا هذه من القول فى هذه الاشياء التى وعد فى صدر هذا الكتاب بالتكلم فيها، انما هو ثلاث مقالات فقط. المقالة الاولى يتكلم فيها فى القوى الجزئية التى فى الحواس والمحسوسات، وبهذا الجزء لقب هذا الكتاب. والمقالة الثانية يتكلم فيها فى الذكر والفكر والنوم واليقظة والرؤيا.
صفحة ٢
والمقالة الثالثة فى طول العمر وقصره.
فنتكلم نحن اولا في هذه المقالات الموجودة له على عادتنا ، وإن انسأ الله فى العمر فسنتكلم فى تلك الامور الاخر.
صفحة ٣
فلنبدأ بالقول فى الحس والمحسوس. والكلام بالجملة فى ذلك منحصر فى اربعة اقسام: منها معرفة ماهية هذه القوى وماهية جزء جزء منها؛ ومنها معرفة الآلات التى بها يتم فعل هذه القوى؛ ومنها معرفة مدركات هذه القوى وهى المحسوسات؛ ومنها معرفة كيفية ادراك هذه القوى هذه المحسوسات. وهذه كلها قد تكلم فيها فى كتاب النفس بكلام كلى. وهو هاهنا يروم ان يستوفى الكلام فى الامور الجزئية الموجودة، والخواص التى تختص بها هذه القوى فى انفسها وفى حيوان حيوان، والخواص التى تعم. ويعرف ما بقى عليه من طبيعة المحسوسات، فان هذا لم يتكلم فيه فى كتاب النفس الا بقول فى غاية الكلية.
فنقول ان القوى الحسية بالجملة، منها ما هى ضرورية فى وجود الحيوان، ومنها ما هى موجودة فى الحيوان لمكان الافضل. وهذه ايضا كلها تختلف فى الحيوان بالقوة والضعف. فاما التى وجدت فى الحيوان من اجل الضرورة، فهى حاسة اللمس وحاسة الذوق؛ واما التى وجدت من اجل الافضل، فحاسة السمع وحاسة البصر وحاسة الشم. وانما كانت حاستا الذوق واللمس ضروريتين فى بقاء الحيوان لان بها تميز الاشياء التى ترد بدنه من خارج الى داخل. وذلك ان بحاسة الذوق يميز الطعم الملائم من غير الملائم. وبحاسة اللمس يميز الامور التى تفسد بدنه من خارج والتى تحفظه وتناسبه. واما الحواس الاخر فليس فعلها تمييز ما شانه شأنه ان يرد البدن من خارج الى داخل، ولذلك لم تكن ضرورية فى وجود الحيوان.
صفحة ٤
وهذه القوى يشملها كلها انها لا يتم فعلها الا بآلة. ويخص قوتى اللمس والذوق انهما لا يحتاجان فى فعلهما الى متوسط، ويخص الثلاث الباقية انها تحتاج الى المتوسط.
صفحة ٥
فاما آلة القوة المبصرة فهى العين. ويخص هذه الآلة ان الغالب على تركيبها انما هو الماء، الذى هو الجسم الصقيل الشفاف. وانما كانت آلتها بهذه الصفة ليرتسم فيها صور محسوساتها، كما ترتسم الصورة فى المرآة. ولذلك كان الجزء الجليدى منها فى غاية الصفاء والبياض . وضرورة هذه الآلة فى ادراك هذه القوة بين بنفسه. وانما تفعل هذه الآلة فعلها اذا كانت على مزاجها الطبيعى دون ان يرد عليه شىء يكدرها ويحركها. ولذلك من هاج غضبه واحمرت عيناه وصعدت الحرارة الى راسه رأسه ، فسد نظره. وربما راى رأى الشىء الواحد شيئان لمكان الحركة التى تعرض للروح الباصر فى حال الغضب. وذلك ان الجزء القابل لصورة من العين المتحركة يوجب ان يرى الصورة صورتين. وذلك انه اذا انتقل ذلك الجزء وخلفه جزء اخر، ارتسمت الصورة فى الجزء الثانى، واثرها بعد لم يمتح من الجزء الاول. فتظهر الصورة الواحدة هنالك صورتين. مثل ما تظهر صورة الشمس الواقعة على الماء الجارى صورتين.
صفحة ٦
ولكون هذه الآلة اعنى العين انما تفعل فعلها اذا كانت على اعتدال من مزاجها، عرض لها، اذا بردت عن الاشياء التى من خارج بردا خارجا عن المعتاد، ان يضعف نظرها. ولذلك تظلم العين فى المواضع التى فيها ثلج كثير او ماء كثير. ولهذا السبب تظهر أفاق البحار كدرة قليلة الضوء, وكذلك مواضع الثلج. وانما يحفظ طبيعة هذا الماء على ما هى عليه الهواء الذي من خارج، لان بينهما مناسبة طبيعية. فمتى هاجت حرارة العين اكثر مما ينبغى، او بردت اكثر مما ينبغى، ضعف نظرها. وهذا الفعل من افعال العين هو للجزء البردى المائى، ومزاج هذا الجزء هو السبب فى الرؤية التامة. ولهذه العلة جعلت الاجفان للاعين الجيدة النظر، اعنى لتحفظ مزاجها عن تغيير الامور التى من خارج تكديرها، بمنزلة الاغمدة للسيوف. ولهذا من كان جفنه اغلظ، كان اقوى نظرا الى الاشياء على بعد، لان غلظ الاجفان يمنع تثوير ذلك الماء من الحر الذى من خارج، وتجميده وتغليظه من البرد الذى من خارج. ومن اجل هذا صار كثير من الحيوان ينظرالى الاشياء على بعد اكثرمن نظرالانسان، اعنى لغلظ اجفانها.
صفحة ٧
واما آلة السمع الخاصة به فهى الهواء المنبث فى الاذن. وكل ما كان هذا الهواء الطف واتم سكونا, كان فعله اتم. وكذلك آلة الشم هى الهواء المنبث في الانف . واما آلة الذوق فهى اللسان. واما آلة اللمس فهى اللحم. ويخص آلات الحواس كلها انها ليس فيها شىء بالفعل مما تدركه الا آلة اللمس، فانها مركبة من الكيفيات التى تدركها. ولذلك انما تدرك منها الافراطات، وذلك لموضع اعتدالها. ومن اجل ذلك كلما كان اللحم اعدل، كان اكثر أدراكا للكيفيات البسيطة، اعنى الحار والبارد والرطب واليابس. ولهذا كان الانسان اجود الحيوان ادركا فى هذه الحاسة وبخاصة لحم اليد منه، اعنى لحم الكف، وبخاصة السبابة من لحم الكف. وهو دليل الذكاء فى النفس، اعنى جيدة حس اللمس.
واما اللسان فليس فيه طعم بالفعل. ولذلك اذا تشربت فيه بعض الاخلاط فى الامراض، فسد ذوقه، وكذلك الامر فى آلات سائر الحواس. وقد اعطى السبب فى ذلك فى كتاب النفس. ويخص آلات الثلاث القوى، اعنى السمع البصر والشم انها منسوبة الى البسائط: فالعين الى الماء والسمع الى الهواء والشم الى الجزء النارى الدخانى. ولذلك كانت المشمومات تشفى الدماغ اعنى لموضع برده وحرارة الجزء الدخانى المشموم.
صفحة ٨
فقد قلنا فى خواص آلات هذه الحواس، فلنقل فى المتوسطات التى تحتاج اليها الحواس الثلاث وفى خواصها وفى لوازمها. والمتوسط الذى تستعمل هذه الحواس هو اما هواء فى الحيوان البرى، واما ماء فى الحيوان المائى. والدلالة على حاجة هذه الحواس الثلاث الى المتوسط انها اذا وضعت محسوساتها على حاسة، لم تدركها، وكذالك اذا قامت بينها وبين المحسوسات اجسام غليظة، ليس يصلح ان يكون متوسطا. وبالجملة فتظهر حاجة هذه الحواس فى فعلها الى المتوسط، من قبل انه، متى فسد المتوسط، فسد فعلها، ولهذا يخص المتوسط ان يكون من جنس الآلات الخاصة به، اعنى ان يكون قابلا للمحسوسات بنوع ما من نوع قبول الآلات. وسيظهر السبب فى ذلك اذا تبينت طبيعة الحوس المختصة بالمتوسطات.
صفحة ٩
ويخص قوة البصر من هذه الثلاث انها تحتاج مع المتوسط الى الضوء. والدليل على ذلك انها لا تبصر فى الظلمة. واذا حدث فى الهواء دخان او بخار يعوق نفوذ الضوء فيه، ضعفت الروءية. ولهذا اذا غضب المرء وهاجت الحرارة فى عينيه، اظلم بصره لمكان البخار، وربما راى الشىء الوحد، كما قلنا، شيئين. وليس الضوء شىء يوجد للعين من طبيعتها، وانما يدخل عليها من خارج. ولو كان من نفس طبيعتها لابصرت الاشياء في الظلمة. ولهذا يعرض للذى يغمض عينيه انه، اذا فتحها، لم يرالشىء على حقيقتها الا بعد ما يستنير بصره. وقد يعرض للبصر انه يرى الشىء رؤية روحانية، قبل ان يراه من خارج على الحالة التى هو عليها، وسنبين علة ذلك فى ما بعد. وهذه الرؤية انما تعترى لمبصر فى الاكثر فى الظلمة وعند السكون. ومن خاصة هذا الادراك انه لا يكون جيدا الا فى الضوء المعتدل لا فى الضوء الشديد ولا القليل. فقد بان من هذا ان الحواس الثلاث يخصها انها تدرك محسوساتها بمتوسط، وان البصر يخصه مع وجود المتوسط حضور الجسم المضئ. وقد قيل فى الضوء والمضئ والاشفاف والمشف فى كتاب النفس.
صفحة ١١
وواجب ان تكون الشبكة الداخلة من شباك العين تستنير من الماء الذى فى العين، كما يستنير الماء من الهواء، الا ان القوة الحساسة هى فى افق هذه الشبكة مما يلى القحف لا مما يلى الهواء. ولذلك كانت هذه الشباك، اعنى طبقات العين، حافظة لقوة الحس بكونها متوسطة بينها وبين الهواء. وقد يدل على ان من ضرورة الابصار وصول الضوء الى هذه الشباك، ان الانسان اذا اصابته ضربة على جفنه، اظلمت عينه دفعة، وانطفئ وانطفأ ذلك الضوء الذى كان فى عينيه دفعة، كما ينطفئ المصباح، ولم يبصر شيئا. وسنبين هذه الاشياء اذا يبين كيفية ادراك هذه الحواس، فان هنالك تظهر الاسباب التى اضطرت الى هذه الاشياء التى من خارج فى هذه الحواس الثلاث. واذ قد تبينت خواص هذه القوى فى الآلات والمتوسطات، فلنقل فى المحسوسات الخاصة بهذه القوى. وقد قيل فى كتاب النفس فى هذه المحسوسات قول كلى. والكلام هاهنا فيها اقرب الى الجزئى كما يقول ارسطو.
فنقول انه قد قيل هنالك ان المحسوسات الخاصة بالابصار هى الالوان، وبالسمع الاصوات، وبالشم الروائح، وبالذوق الطعوم، وباللمس الملموسات. والذى بقى من القول فيها هو تعريف طبائعها.
صفحة ١٢
فنقول انه لما كانت الاسطقسات تختلف بكثرة الشفيف وقلته كالهواء والماء، وكان المشف من شانه ان يقبل الضوء ويستكمل به، واذا قبل المشف الضوء واتحد به تولدت عن ذلك الوان مختلفة بحسب قوة الضوء وضعفه وكثرة الشفيف وقلته. وذلك ظاهر من الالوان المختلفة التى تحدث عند اتحاد ضوء الشمس بالغيم والسحاب، فانه من البين ان تلك الالوان انما تحدث عن بياض الضوء وسواد السحاب، مثل الالوان التى تحدث فى قوس قزح وغير ذلك. فواجب ان يكون اللون انما يحدث عن امتزاج الجسم المضئ مع الجسم المشف. ولما كانت جميع المركبات انما تولد عن الاسطقسات الاربع، وكان المشف من الاسطقسات هو الماء والهواء، والمضئ منها هى النار وحدها، وذلك ايضا اذا تشبثت بغيرها، كان واجبا ان تكون الالوان مركبة من هاتين الطبيعتين، اعنى طبيعة المشف وطبيعة النيير، وان يكون الفاعل لاختلافها انما هو اختلاف هاتين الطبيعتين فى الكمية والكيفية.
فاللون الابيض يتولد عن امتزاج النار الصافية مع الاسطقس الذى فى غاية الشفيف وهو الهواء. واللون الاسود يتولد عن النار الكدرة التى تمتزج مع اقل الاسطقسات شفيفا وهى الارض. والالوان المتوسطة بين الابيض والاسود تولد عن اختلاف هذين الشيئين بالاقل والاكثر، اعنى اختلاف الجسم المضىء واختلاف الجسم المشف. ولذلك كان اللون الابيض والاسود هما اسطقسا الالوان.
صفحة ١٣
واذا كان هذا ظاهرا من امر اللون، وكان اللون انما يكون فى سطح جسم محدود، وبهذا يفترق اللون من الضوء، فان الضوء هو كمال المشف الغيرمحدود. وليس اللون شيئا يحدث فى المركب عن تجاور الاشياء الصغار الشفافة التى فى الاسطقسات، كما يرى ذلك قوم، فانه ليس يحدث عن الاسطقسات شىء على جهة التجاور على ما تبين فى كتاب الكون والفساد. وإنما يحدث ما يحدث منها على جهة الامتزاج.
ولكون الضوء لا يظهر الا في جسد شفاف، كان الفيثاغوريين يعتقدون ان تولد الضوء ليس يوجد للاجسام المنيرة بذاتها، الا عند اتحاد الضوء بجسد اخر، كالحال فى النار، فانها لا تضىء الا عند ما تتحد بجسم اخر. والفرق بين النار والاجسام السماوية فى ذلك بين.
صفحة ١٤
ومما قيل فى ماهية اللون يبين ان اللون يقبله الهواء اولا ثم يوصله الى البصر من جهة ما هو شفيف مضىء. والدليل على ان الهواء يتاثر عن اللون ويقبله، ما يظهر من تلون الشىء الواحد بعينه بحسب ما يمربه من السسحاب المضىء، وربما اضأت الحيطان والشخوص من الالوان التى تمر بها السحاب. مثال ذلك انه اذا مرت السحاب بالنبات الاخضر، كثيرا ما تتلون الحيطان والارض بلون ذلك النبات. فقد بان من هذا ان الالوان انما تحدث عن امتزاج النار مع الاجسام المشفة، وإن الضوء ليس هو السبب فى توصيل الالوان الى البصر بل فى وجودها. واقول ايضا كما ان اللون الابيض المتولد عن الامتزاج اخس من لون الضوء، اذ كان متولدا عنه، فكذلك ايضا سائر الالوان اخس من اللون الابيض والاسود اذ كانت متولدة عنهما.
صفحة ١٥
ولما كانت الالون انما تتولد عن الابيض والاسود وكان اختلاطهما مختلفا بالاقل والاكثر اختلافا متفننا غير متناه من جهة المادة، وجب ان تكون الالوان غير متناهية في الطبيعة. فأنه كل ما توهم النطق الباطن فيها نوعا من الامتزاج، ابرزته الطبيعة، وان كان النطق الخارج مما لا يقدر ان بعبر عن ذلك القدر. ولهذا كانت الصناعة فى هذا المعنى، كما يقول ارسطو، مقصرة عن الطبيعة، فان الصناعة انما تبرز من مقادير الالوان التى فى النطق الباطن ما يقدر النطق الخارج ان يعبر عنهم. واما الطبيعة فانها تبرز كل ما كان فى النطق الباطن الروحانى، ولهذا كانت اشرف من الصناعة وكان شرف الصانع هوجيدة تشبيهه بالطبيعة بحسب الممكن. وايضا فان النطق الروحانى الذى عنه تفعل الطبيعة ما تفعله وتبرز ما تبرزه اليس له شى يعوق الطبيعة عن ادراك ما يلقى اليها من ذلك كالحال فى النطق الروحانى الباطن الذى عنه يفعل الصانع. فان النفس البهيمية الموجودة فى الحيوان ليس تعوق افعال الطبيعة بل تفرح وتلتذ بما تبرزه الطبيعة من الالوان والاصوات ، لانها موجودة فى النفس البهيمية بالقوة. فاذا ابرزتها الطبيعة، سرت بها النفس البهيمية وفرحت بادراكها. واما النطق الروحانى الباطن الذى عنه تفعل الصناعة، فانه تعوقه النفس البهيمية، ولذلك لا يدرك الصانع مما يلقى اليه النطق الروحانى الا آثارا واعراضا بعيدة من الاشياء التى يلقيها الى الطبيعة. ولذلك كانت الامور المتقدمة فى المعرفة عند الصانع متأخرة فى الوجود بعكس ما عليه الامر عند الطبيعة. وايضا فان الصانع خارج الشىء والطبيعة داخل الشىء. فهذه هى الاشياء التى بها افترقت الصناعة من الطبيعة.
ولذلك كانت الالوان والاصباغ التى يعبر النطق الخارج متناهية. فاما الالوان والاصباغ التى فى النطق الباطن، يستكاد ان تكون غير متناهية، ولذلك قد تظهر الطبيعة من الالوان والاصباغ ما يعجز الصباغون عن كيانها. وذلك ان الصناعة لما كانت انما تخيل الطبيعة وتصير الى المتقدم عندها من المتاخر، لم تدرك من تلك المراتب التى عند الطبيعة الا مراتب قليلة، اعنى شديدة التباعد بعضها من بعض. وبين تلك المراتب عند الطبيعة مراتب كثيرة. فقد بان من هذا لم كان وجود الالوان فى الطبيعة غير وجودها فى الصناعة. فاما الاصوات فقد قيل فيها فى كتاب النفس.
صفحة ١٧
واما المشمومات، وهى ذوات الروائح والطعوم، فينبغى ان نقول فيها قولا مفصلا. فنقول انه من البين انه ليس لواحد من الاسطقسات طعم ولا رائحة، وان الطعم والرائحة انما يوجدون للممتزج من جهة ما هو ممتزج. ولما كان كل ممتزج انما صورته منسوبة الى غلبة كيفيتين من الكيفيات الاربع عليه، فيجب ان ننظر الى اى الكيفيات ينبغى ان ينسب الطعم فى الجسم ذى الطعم. فنقول انه لما كان المذوق غذاء للحيوان، وكان الغذاء من شانه ان يكون شبيها بالحيوان، وكان بدن الحيوان منسوبا الى غلبة الحرارة والرطوبة، وجب ان يكون الطعم منسوبا الى غلبة الحرارة والرطوبة. وانما كان ذلك كذلك لان طبيعة الرطب، الذى هو الماء، اشد مناسبة للحيوان من طبيعة الارض. وقد يدل على ان الرطوبة هى سبب الطعم للممتزج ان الاشياء المطعومة منها مطعومة بالقوة، ومنها مطعومة بالفعل. فاما التى هى بالفعل مطعومة، فهى الاشياء الرطبة بالفعل. واما الاشياء اليابسة بالفعل، فهى المطعومة بالقوة. وانما تكون مطعومة بالفعل اذا كانت رطبة بالفعل، كالملح وما اشبهه، فانه لا يتطعم الا بعد ان ينحل ويترطب. واذا كان ذلك كذلك، فالطعم انما يحدث ضرورة عن اختلاط الجزء اليابس بالجزء الرطب، اذا نضج عن الحرارة نضجا ما.
صفحة ١٨
واصناف الطعوم انما تختلف لاختلاف هذين الشيئين فى القلة والكثرة. فالحلاوة منسوبة الى الحرارة والرطوبة، فالمرارة منسوبة الى الحرارة واليبوسة بالاضافة الى رطوبة الحلاوة. وما بين هذه الطعوم متولدة عن هذين الطعمين، كما تتولد الالوان عن الابيض والاسود. فاما الروائح فيظهر من امرها ان هيوليها هو الطعم المتولد عن مخالطة اليبوسة للرطوبة. ولذلك انه يظهر بالاستقراء ان كل ما له رائحة فله طعم؛ الا ان الروائح لما كانت من جنس الابخرة الدخانية، وبهذه الجهة كان الهواء حاملا لها، كانت منسوبة الى اليبوسة والحرارة المتولدة عن اليبوسة المختلطة بالرطوبة ذات الطعم من جهة ما هى ذات طعم. وقد يشهد ان طبيعة المشمومات هى طبيعة الدخان ان كثيرا من الاشياء ليست لها رائحة، فاذا ادنيت من النار كانت لها رائحة، وبهذه الجهة كان الانسان له خاصة فى ادراك روائح الاشياء بالعرك باليد؛ وذلك ان هذه الآلة لحرارتها ويبسها من شانها ان تثير هذا الجوهر من الشىء ذى الطعم. ولذلك يشبه ان يكون الانسان اجود تفصيلا فى ادراك فصول محسوسات الشم من سائر الحيوان، وكثير من سائر الحيوان اقوى منه ادراكا للروائح على البعد.
صفحة ٢٠
فقد قلنا فى خواص آلات هذه الحواس واستوفينا القول فى طبيعة محسوساتها، فينبغى ان نستوفى القول فى كيفية ادراكها، فان ذلك انما قيل فى كتاب النفس بقول كلى. فنقول ان الآراء التى كانت للقدماء فى كيفية ادراك النفس محسوساتها اربعة. احدها، رأى من كان يعتقد ان صور المحسوسات فى النفس بالفعل، وانه ليست تستفيدها من خارج؛ وانما الصور التى من خارج منبهة ومذكرة لما عندها منها، وهو رأى افلاطون او قريب منه . واما الراى الثانى، فرأى من كان يرى انه ليس فى النفس شى من المحسوسات بالفعل، وانها تستفيدها من خارج، وهاؤلاء انقسموا فرقتين. فرقة رات ان استفادتها الصور التى من خارج واستكمالها بها استفادة جسمانية لا روحانية. ومعنى ذلك انه يكون وجودها فى النفس على الحالة التى هى عليها خارج النفس. وفرقة رأت ان ادراكها الاشياء التى من خارج واستفادتها استفادة روحانية. وهاؤلاء انقسموا طائفتين. فطائفة رأت انها لا تحتاج فى ادراكها الى متوسط، وانما تدرك النفس محسوساتها الخارجة بان تتحرك اليها وتلقى ذاتها عليها. وهاؤلاء هم الذين كانوا يرون ان الابصار انما يكون باشعة تخرج من العين الى الشىء المنظور اليه. وطائفة ثانية رات ان النفس انما تقبل محسوساتها بواسطة قبول المتوسطات لها، وذلك بان تقبلها اولا المتوسطات لها حتى توديها الى الحس المشترك، وسوا وسواء كان المتوسط آلة او جسما من خارج.
صفحة ٢١
والذين قالوا ان النفس لا تحتاج الى المتوسط، حكى ارسطو عنهم حجتين، احداهما، انها لو كانت تقبل ذلك بمتوسط ولا تكون هى المتحركة الى المحسوسات، لما احتاجت النفس الى الحركة الشديدة والاجتهاد عند الاحساس بالمحسوسات. والحجة الثانية انها لو كانت الصور تاتى النفس بمتوسطات، لما كانت النفس تقدر ان تقبل من الصور الا بقدر ما يودى اليها المتوسط.
صفحة ٢٢
واما الذين قالوا بخروج الاشعة من العين، فلهم حجج مقنعة. واقواها ما يضع صاحب علم المناظر، من ان اسباب الرؤية وما يعرض فيها هى الخطوط الشعاعية المستقيمة او المنكسرة او المنعطفة، وما يضعه من ان الابصار انما يكون بشكل صنوبرى مخروط يخرج من العين وينتهى الى المبصرات. فظن هاؤلا ان هذه الخطوط والاشكال المؤثرة فى الابصار لا يمكن ان ترتسم الا فى جسم يخرج من العين وهو الشعاع. ونحن نقول اما ان الرؤية وما يعرض فيها، لا يتم اعطاء اسباب ذلك الا بتوهم هذه الخطوط والشكل الصنوبرى، فصحيح. لاكن نقول ان هذه الابعاد ليس الحامل لها ولا الموضوع شيئا غير المتوسط، وهو الجسم الشفاف، فان من شان هذا الجسم ان يقبل الضوء واللون هذا النوع من القبول.
صفحة ٢٣