وكذا إذا سمعنا ألفاظ السماء والأرض واللوح والقلم والعرش والكرسي والملك وأجنحته والشيطان وقبيله وخيله ورجله إلى غير ذلك، كان المتبادر إلى أفهامنا مصاديقها الطبيعية.
وإذا سمعنا: أن الله خلق العالم وفعل كذا وعلم كذا وأراد أو يريد أو شاء وأو يشاء كذا قيدنا الفعل بالزمان حملا على المعهود عندنا.
وإذا سمعنا نحو قوله: "ولدينا مزيد" الآية وقوله: "لاتخذناه من لدنا" الآية وقوله: "وما عند الله خير" الآية.
وقوله: "إليه ترجعون" الآية.
قيدنا معنى الحضور بالمكان.
وإذا سمعنا نحو قوله: "إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها" الآية أو قوله: "ونريد أن نمن".
الآية أو قوله: "يريد الله بكم اليسر" الآية فهمنا: أن الجميع سنخ واحد من الإرادة، لما أن الأمر على ذلك فيما عندنا، وعلى هذا القياس.
وهذا شأننا في جميع الألفاظ المستعملة، ومن حقنا ذلك، فإن الذي أوجب علينا وضع ألفاظ إنما هي الحاجة الاجتماعية إلى التفهيم والتفهم، والاجتماع إنما تعلق به الإنسان ليستكمل به في الأفعال المتعلقة بالمادة ولواحقها، فوضعنا الألفاظ علائم لمسمياتها التي نريد منها غايات وأغراضا عائدة إلينا.
وكان ينبغي لنا أن نتنبه: أن المسميات المادية محكومة بالتغير والتبدل بحسب تبدل الحوائج في طريق التحول والتكامل كما أن السراج أول ما عمله الإنسان كان إناء فيه فتيلة وشيء من الدهن تشتعل به الفتيلة للاستضاءة به في الظلمة، ثم لم يزل يتكامل حتى بلغ اليوم إلى السراج الكهربائي ولم يبق من أجزاء السراج المعمول أولا الموضوع بإزائه لفظ السراج شيء ولا واحد.
وكذا الميزان المعمول أولا، والميزان المعمول اليوم لتوزين ثقل الحرارة مثلا.
والسلاح المتخذ سلاحا أول يوم، والسلاح المعمول اليوم إلى غير ذلك.
فالمسميات بلغت في التغير إلى حيث فقدت جميع أجزائها السابقة ذاتا وصفة والاسم مع ذلك باق، وليس إلا لأن المراد في التسمية إنما هو من الشيء غايته، لا شكله وصورته، فما دام غرض التوزين أو الاستضاءة أو الدفاع باقيا كان اسم الميزان والسراج والسلاح وغيرها باقيا على حاله.
فكان ينبغي لنا أن نتنبه أن المدار في صدق الاسم اشتمال المصداق على الغاية والغرض، لا جمود اللفظ على صورة واحدة، فذلك مما لا مطمع فيه البتة، ولكن العادة والأنس منعانا ذلك، وهذا هو الذي دعى المقلدة من أصحاب الحديث من الحشوية والمجسمة أن يجمدوا على ظواهر الآيات في التفسير وليس في الحقيقة جمودا على الظواهر بل هو جمود على العادة والأنس في تشخيص المصاديق.
لكن بين هذه الظواهر أنفسها أمور تبين: أن الاتكاء والاعتماد على الأنس والعادة في فهم معاني الآيات يشوش المقاصد منها ويختل به أمر الفهم كقوله تعالى: "ليس كمثله شيء" الآية.
وقوله: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير".
وقوله: "سبحان الله عما يصفون".
وهذا هو الذي دعى الناس أن لا يقتصروا على الفهم العادي والمصداق المأنوس به الذهن في فهم معاني الآيات كما كان غرض الاجتناب عن الخطاء والحصول على النتائج المجهولة هو الذي دعى الإنسان إلى أن يتمسك بذيل البحث العلمي، وأجاز ذلك للبحث أن يداخل في فهم حقائق القرآن وتشخيص مقاصده العالية، وذلك على أحد وجهين، أحدهما: أن نبحث بحثا علميا أو فلسفيا أو غير ذلك عن مسألة من المسائل التي تتعرض له الآية حتى نقف على الحق في المسألة، ثم نأتي بالآية ونحملها عليه، وهذه طريقة يرتضيها البحث النظري، غير أن القرآن لا يرتضيها كما عرفت، وثانيهما: أن نفسر القرآن بالقرآن ونستوضح معنى الآية من نظيرتها بالتدبر المندوب إليه في نفس القرآن، ونشخص المصاديق ونتعرفها بالخواص التي تعطيها الآيات، كما قال تعالى: "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء" الآية.
وحاشا أن يكون القرآن تبيانا لكل شيء ولا يكون تبيانا لنفسه، وقال تعالى: "هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان".
الآية وقال تعالى ": وأنزلنا إليكم نورا مبينا" الآية.
صفحة ٥