وقد نشأ في هذه الأعصار مسلك جديد في التفسير وذلك أن قوما من منتحلي الإسلام في إثر توغلهم في العلوم الطبيعية وما يشابهها المبتنية على الحس والتجربة، والاجتماعية المبتنية على تجربة الإحصاء، مالوا إلى مذهب الحسيين من فلاسفة الأروبة سابقا، أو إلى مذهب أصالة العمل لا قيمة للإدراكات إلا ترتب العمل عليها بمقدار يعينه الحاجة الحيوية بحكم الجبر.
فذكروا: أن المعارف الدينية لا يمكن أن تخالف الطريق الذي تصدقه العلوم وهو أن: لا أصالة في الوجود إلا للمادة وخواصها المحسوسة فما كان الدين يخبر عن وجوده مما يكذب العلوم ظاهره كالعرش والكرسي واللوح والقلم يجب أن يؤول تأويلا.
وما يخبر عن وجوده مما لا تتعرض العلوم لذلك كحقائق المعاد يجب أن يوجه بالقوانين المادية.
وما يتكي عليه التشريع من الوحي والملك والشيطان والنبوة والرسالة والإمامة وغير ذلك، إنما هي أمور روحية، والروح مادية ونوع من الخواص المادية، والتشريع نبوغ خاص اجتماعي يبنى قوانينه على الأفكار الصالحة، لغاية إيجاد الاجتماع الصالح الراقي.
ذكروا: أن الروايات، لوجود الخليط فيها لا تصلح للاعتماد عليها، إلا ما وافق الكتاب، وأما الكتاب فلا يجوز أن يبنى في تفسيره على الآراء والمذاهب السابقة المبتنية على الاستدلال من طريق العقل الذي أبطله العلم بالبناء على الحسن والتجربة، بل الواجب أن يستقل بما يعطيه القرآن من التفسير إلا ما بينه العلم.
هذه جمل ما ذكروه أو يستلزمه ما ذكروه، من اتباع طريق الحس والتجربة، فساقهم ذلك إلى هذا الطريق من التفسير، ولا كلام لنا هاهنا في أصولهم العلمية والفلسفية التي اتخذوها أصولا وبنوا عليها ما بنوا.
وإنما الكلام في أن ما أوردوه على مسالك السلف من المفسرين أن ذلك تطبيق وليس بتفسير وارد بعينه على طريقتهم في التفسير، وإن صرحوا أنه حق التفسير الذي يفسر به القرآن بالقرآن.
ولو كانوا لم يحملوا على القرآن في تحصيل معاني آياته شيئا، فما بالهم يأخذون الأنظار العلمية مسلمة لا يجوز التعدي عنها؟ فهم لم يزيدوا على ما أفسده السلف إصلاحا.
وأنت بالتأمل في جميع هذه المسالك المنقولة في التفسير تجد: أن الجميع مشتركة في نقص وبئس النقص، وهو تحميل ما أنتجه الأبحاث العلمية أو الفلسفية من خارج على مداليل الآيات، فتبدل به التفسير تطبيقا وسمي به التطبيق تفسيرا، وصارت بذلك حقائق من القرآن مجازات، وتنزيل عدة من الآيات تأويلات.
ولازم ذلك كما أومأنا إليه في أوائل الكلام أن يكون القرآن الذي يعرف نفسه بأنه هدى للعالمين ونور مبين وتبيان لكل شيء مهديا إليه بغيره ومستنيرا بغيره ومبينا بغيره، فما هذا الغير! وما شأنه! وبما ذا يهدي إليه! وما هو المرجع والملجأ إذا اختلف فيه! وقد اختلف واشتد الخلاف.
وكيف كان فهذا الاختلاف لم يولده اختلاف النظر في مفهوم مفهوم اللفظ المفرد أو الجملة بحسب اللغة والعرف العربي الكلمات أو الآيات، فإنما هو كلام عربي مبين لا يتوقف في فهمه عربي ولا غيره ممن هو عارف باللغة وأساليب الكلام العربي.
وليس بين آيات القرآن وهي بضع آلاف آية آية واحدة ذات إغلاق وتعقيد في مفهومها بحيث يتحير الذهن في فهم معناها، وكيف! وهو أفصح الكلام ومن شرط الفصاحة خلو الكلام عن الإغلاق والتعقيد، حتى أن الآيات المعدودة من متشابه القرآن كالآيات المنسوخة وغيرها، في غاية الوضوح من جهة المفهوم ، وإنما التشابه في المراد منها وهو ظاهر.
وإنما الاختلاف كل الاختلاف في المصداق الذي ينطبق عليه المفاهيم اللفظية من مفردها ومركبها، وفي المدلول التصوري والتصديقي.
توضيحه: أن الأنس والعادة كما قيل يوجبان لنا أن يسبق إلى أذهاننا عند استماع الألفاظ معانيها المادية أو ما يتعلق بالمادة فإن المادة هي التي يتقلب فيها أبداننا وقوانا المتعلقة بها ما دمنا في الحياة الدنيوية، فإذا سمعنا ألفاظ الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والرضا والغضب والخلق والأمر كان السابق إلى أذهاننا منها الوجودات المادية لمفاهيمها.
صفحة ٤