كانت جورا وشرودا فندت بالقول الصريح والرأى النصيح، وهذا ضرب من الجهاد الأدبى والشجاعة المعنوية، لا قيام للحق إلا بهما. وقد روى أن وفدا جاء إلي النبى صلى الله عليه وسلم يقول له: "أنت سيدنا"، فقال لهم: "السيد الله " فقالوا: وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا، فقال: "قولوا قولكم، أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان ". وروى كذلك: أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بأن يحثى التراب فى وجوه المداحين. ومع ذلك فإن سجلات الأدب القديم تضم بين جوانبها صورا لرجال استووا على الأرائك الفخمة بين أيديهم السعاة والحجاب والسيافة، يدلف إليهم شاعر ذرب اللسان، لا يزال يهتف بالقول، ويصرخ بالنظم، ويهيم فى أودية الخيال، وينسب إلى ممدوحه فنونا من المواهب تسلكه مع أبطال الأساطير، ثم ترمى إلى هذا الدجال بدرة من الذهب، ينصرف بها ثمنا حراما لأكاذيبه. وتشيع بعدئذ بين الناس قالة السوء التى ألفها على أنها مدح لأحد الساسة أو القادة، ويسدل حجاب كثيف على حقائق الحياة التى يعيش فيها الولاة وتعيش فيها الشعوب وينتهى الأمر! وتتكرر هذه المأساة كما تتكرر مناظر ألف ليلة وهى تقص أخبار الزمان، أو كما تتكرر مواقف عنترة وهو ينازل الفرسان، إلا أن هذا الإيغال فى الخيال استيقظت بعده الأمة الإسلامية على طبول الأعداء تجوس خلال الديار وتهدم آخر ما بقى من البناء المنهار! من أين كان يدفع الأمراء والحكام هذه الأعطية السخية ألوفا من الدنانير تتبعها ألوف، إنه من مال الشعب.. والشعوب لا تدفع المال فى أبهة شخص وزخارفه فهذا ما يمنعه العقل والنقل. لكن المترفين من الحكام الأولين أبوا إلا أن يعيشوا فى هذا المحظور وإلا أن يحيطوا أنفسهم بالأفاكين الذين حبسوا أفكارهم، ووقفوا جهودهم على تدعيم سلطان الجبابرة، وتجاهل أحوال الأم، وبلغ العهر بأحد هؤلاء المتملقين أن يقول لخليفة فاطمى: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار فهل ستسمح شعوب الشرق يا ترى بعودة هذه الحال؟ وهل ستسمع للأفاكين من حملة الأقلام وهم يمهدون لها؟ ص _022
صفحة ٢٠