وما دمنا فى حديث الملق والزلفى للرؤساء والكبراء، فلا يجوز أن ننسى ظاهرة شنيعة لوحظت على فريق من كبار شيوخ الدين. فإن إطراءهم للحكام ومسارعتهم المريبة إلى تهنئتهم فى كل مناسبة، وتعزيتهم فى كل مصيبة بأسلوب يكتبه الأرقاء والأتباع، ويتنزه عنه الرجال الأحرار. هذه الظاهرة التى تدل على داء عياء بالقلوب، قد غضت من شأن الدين ومنزلته لدى العامة. وقد تذاكر الناس أن شيخا كبيرا من جلة العلماء- كما يقولون- كان فى المرض الذى يسقط عنه الصلاة، لا ينسى أداء مراسم الوثنية السياسية على حين كان الدكتور طه حسين وموقفه من الدين معروف يتكلم بحذر ويرسل مدائحه بقدر!! هذا فى الوقت الذى شطبت فيه ميزانية الأزهر. وأرسل المال سيلا غدقا إلى وزارة المعارف التى يشرف عليها "طه حسين " وإذا كان سكوت العلماء عن فسق الحكام جريمة، فإن تمدح العلماء للحكام الفسقة كفران مبين. والمثل العالى لشيوخ الأزهر القائمين بحق الله ورسوله نأخذه من مسلك الشيخ "محمد عبده ". فعندما كان عبيد الولاء للأتراك يخونون الإسلام ويساندون الظلم، انضم هذا الشيخ الجليل إلى الشعب مطالبا بدستور يقيد سلطة الحكم الفردى ويضغطها فى حدود ما شرع الله. وقاد الثورة التى اشتعلت لذلك ولاقى من جرائها ما لاقى. وإننا لنقرأ ما كتب الشيخ "محمد عبده " فى نقد الأوضاع المعاصرة، ثم نقرأ ما يهرف به مخرفة الشيوخ فى وصف أحوالنا الحاضرة فنجد العجب العجاب، ونحس أننا هبطنا من القمة إلى القاع. وفى شهر يونيو سنة 1902 أقيمت بعض الاحتفالات لمناسبة الذكرى المئوية على تأسيس محمد على الدولة المصرية، فكتب الشيخ "محمد عبده " فى الجزء الخامس من المجلد الخامس من المنار الصادر فى 7 يونيه سنة 1902 تحت عنوان "آثار محمد على فى مصر": لغط الناس هذه الأيام فى محمد على... وما له من الآثار فى مصر والأفضال على أهلها، وأكثرت الجرائد من الخوض فى ذلك، والله أعلم ماذا بعث المادح على الإطراء، وماذا حمل القادح على الهجاء . غير أنه لم يبحث! باحث فى حالة مصر التى وجدها عليها محمد على وما كانت تصير البلاد إليه لو بقيت، وما نشأ من محوها واستبدال غيرها بها على يد ص _023 محمد على.. أقول الآن شيئا فى ذلك ينتفع به من عساه أن ينتفع.. ويندفع به من الوهم ما ربما يندفع.. ما الذى صنعه محمد على؟ لم يستطع أن يحيى. ولكن استطاع أن يميت. كان معظم قوة الجيش معه.. وكان صاحب حيلة بمقتضى الفطرة، فأخذ يستعين بالجيش وبمن يستميله من الأحزاب على إعدام كل رأس من خصومه، ثم يعود بقوة الجيش وبحزب آخر على من كان معه أولا وأعانه على الخصم الزائل، فيمحقه وهكذا حتى إذا سحقت الأحزاب القوية، وجه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة. فلم يدع فيها رأسا يستقر فيه ضمير "أنا"... واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلا لجمع السلاح من الأهلين، وتكرر ذلك منه مرارا حتى فسد بأس الأهلين وزالت ملكة الشجاعة فيهم. وأجهز على ما بقى فى البلاد من حياة فى أنفس بعض أفرادها فلم يبق فى البلاد رأسا يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه. أخذ يرفع الأسافل.. ويعليهم فى البلاد والقرى كأنه يحن لشبه فيه ورثه عن أصله الكريم (!) حتى انحط الكرام وساد اللئام، ولم يبق فى البلاد إلا آلات له يستعملها فى جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة، فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأى وعزيمة واستقلال نفس. ليصير البلاد المصرية جميعها إقطاعا واحدا له ولأولاده بعد إقطاعات كانت لأمراء عدة. ماذا صنع بعد ذلك؟ اشرأبت نفسه لأن يكون ملكا غير تابع للسلطان العثمانى، فجعل من العدة لذلك أن يستعين بالأجانب من الأوربيين، فأوسع لهم في المجاملة، وزاد لهم فى الامتياز، حتى صار كل صعلوك منهم لا يملك قوت يومه ملكا من الملوك فى بلادنا، يفعل ما يشاء ولا يسئل عما يفعل، وصغرت نفوس الأهالي بين أيدى الأجانب بقوة الحاكم، وتمتع الأجنبى بحقوق الوطنى التى حرم منها، وانقلب الوطنى غريبا فى داره غير مطمئن فى قراره فاجتمع على سكان البلاد المصرية ذلان.. ذل ضربته الحكومة الاستبدادية المطلقة.. وذل سامهم الأجنبى إياه ليصل إلى ما يريده منهم.. غير واقف عند حد أو مردود إلى شريعة. لا يستحى بعض الأحداث من أن يقول: إن محمد على جعل من جدران سلطانه بناء من الدين.. أى دين كان دعامة للسلطان محمد على؟ دين التحصيل؟ دين الكرباج..؟ دين من لا دين له إلا ما يهواه ويريده..؟ وإلا فليقل لنا أحد من الناس.. أى عمل من أعماله ظهرت فيه رائحة للدين الإسلامى الجليل؟ ص _024
لا أظن أن أحدا يرتاب- بعد عرض تاريخ محمد على- على بصيرته أن هذا الرجل كان تاجرا زارعا، وجنديا باسلا، ومستبدا ماهرا، ولكنه كان لمصر قاهرا.. ولحياتها الحقيقية معدما.. وكل ما نراه الآن فيها مما يسمى حياة فهو من أثر غيره، متعنا الله بخيره، وحمانا من شره، والسلام. * * * شرق جديد: توزعت أطماع الاستعمار أكثر أمم الشرق، وسقطت شعوبه فريسة سهلة أو غنيمة باردة فى مخالب الغرب الحديث، وتفتحت أعيننا- نحن أبناء الجيل الحاضر- فإذا بميزان العالم يميل عن مستواه العادل، وإذا بكفتنا تطيش فى نواح شتى، وإذا بالمغانم تتجه إليهم سيلا دافقا، والمغارم تتجه إلينا موجا خانقا، حتى وهم جمهور كبير من أبنائنا أننا خلقنا لنكون فى المنزلة الثانية أبدا وأن منزلة الشرق من الغرب هى منزلة التابع من المتبوع. وهذا خطأ واضح يهدمه التاريخ من أساسه. والذين وقعوا فيه معذورون لأن عمر الإنسان قصير إلى جانب عمر الدنيا، وما يشهده من حوادثها ليس إلا فصلا ضئيلا من رواية طويلة الفصول، ضاربة فى أغوار الماضى البعيد، وقد شهد النظارة فى هذا العصر فصلا أخذ الغرب فيه بخناق الشرق، وجثم على صدره وارتفعت الستارة أمامهم عن هذا المشهد المثير، وتكررت صوره لأعينهم المذهولة بروعة المفاجأة، فحسبوا أن الرواية كلها هذا الفصل الواحد، وأن التاريخ كله هذه الحقبة الميتة، وأن الشرق كله هذا المشهد المخزى ، وأن الغرب كله هذا الخصم المتوثب العنيف. ولو أعدنا عرض الشريط التاريخى لبضعة قرون خلت لوجدنا وراء سواحل "المانش "
صفحة ٢٣