بذراعين فيهما السباحة والنجاة، لا الاختباط والغرق!
كذلك أوحت إلي روح الشيخ! •••
في منطق الحس: متى وجدت الأسباب جاءت النتيجة من تلقاء نفسها؛ لأنها تدور مع أسبابها وجودا وعدما، فاحذف الأسباب تسقط النتيجة، ولكن الأمر عكس ذلك في منطق الحب: احذف النتيجة تسقط الأسباب كلها، فإنك إن لا تفكر في لذة ترجوها، أو تحرص عليها، نسيك الحب قبل أن تنساه، وهل علمت قط عجوزا تعشق لأنها عجوز ليس فيها إلا حطام العمر، أو عرفت إنسانا يحدس عليها ظنا من ظنون الحب، أو يصل بها سببا من أسباب المطمعة؟ أما إن هذه الفانية منطق سقطت نتيجته فلا يمكن في الطبع أن تقوم أسبابها؛ فإذا أنت محقت النتيجة وخيالها لم يبق بينك وبين المرأة ماسة
19
منك أو منها، واستحالت إلى منظر من مناظر الجمال يفهمك أو يلهمك أو يفسر لك، فلا تنزل منها منزلة الرجل، بل منزلة الفكر، ولا تكون هي منك بمقام المرأة! بل منزلة المعنى!
المصائب والنساء من شقاء الشقي أن يبالغ فيهن؛ فإن ما ينالك من خوف المصيبة ليس منها، ولكنه منك، وما يذهلك من حب المرأة ليس فيها، ولكنه فيك؛ فأنت من ذلك كالذي ينحت صنما من الحجر، ثم يصله بمكان الرغبة والرهبة من نفسه، فإذا القدرة كلها قد استفاضت عليه، وإذا الحجر الذي لا يملك ولا حشرة من حشرات الأرض قد تملك رجلا بعقله وقلبه وحواسه وحيزه من الدنيا، وإذا هذا الرجل يتعبد بحقيقته لخياله، وبعقله لوهمه، وبعلمه لجهله، وبما يصدق فيه لما يكذب عليه، ولا يبقى الحجر حجرا، ولا يبقى الرجل رجلا، وكذلك يصنع عاشق المرأة بالمرأة، وهي عند نفسه كأنما نبت جسمها على صنم معبود؛ يحسب فيها السماء والجنة، وما فيها أكثر من امرأة، ويكون منها في الحب والرضا كحجر الألماس: يلقي عليه الضوء لونا واحدا فيخرجه من قلبه ألوانا ذوات عدد في بريق وبصيص، وفي البغض والنفرة كالجسم المحترق: تحول كله نارا من شرارة، أو جمرة، أو شعلة، وهو في كلتا الحالتين يسر ويألم بمادته كلها لقليل طرأ عليه من مادتها هي، فهي شيء واحد، ولكنها بمادته تنقلب جمالا ملء عينه، وفتنة ملء صدره، وفكرا ملء عقله، وكذا وكذا مع هن وهن وهنات.
20
إنما هذه سبيل اللذات في الأنفس المريضة التي تزدلف بما فيه لذتها إلى ما فيه هلكها، ولا تكسبها اللذة شعورا إلا لتسلبها شعورا غيره، ولا تهيج فيها خيالا إلا لتطمس به على حقيقة، ولا تبتعث حرصا إلا لتغلب به على قصد؛ فالخمر فيمن يبتلى بها تسلب الشعور بفضيلة العقل، لتنشئ اللذات الخيالية التي هي من بواعث الجنون، والمال فيمن يحرص عليه يستلب الشعور بفضيلة الخلق ليحدث له اللذات الوهمية التي هي من بواعث السقوط، والمرأة فيمن يمتحن بها تنتزع الشعور بفضيلة التمييز؛ لتؤتيه اللذات الغريبة التي يكون منها الجنون والسقوط، ضرب من هذا، وضرب من ذاك!
ولن تجد كل جرائر الحب إلا متفرعة من هذين الأصلين، فهي بجملتها داخلة في باب سلب العقل بعضه أو أكثر، وفي باب سلب الخلق بعضه أو كله.
وفي النفس الإنسانية لا تمرض الحقيقة إلى من سوء التخيل فيها، كأن نعمة الخيال إنما وهبت للإنسان لتخرجه من حدود الحقائق؛ فيفسدها، ويفسد آثارها فيه، فتنقلب من مادة شقائه، وهي مادة سعادته! فالخيال هو القوة التي يثبت بها الإنسان إلى المجهول، وهو نفسه القوة التي يسقط بها إذا تقاصرت الوثبة، أو طاشت، وقلما جاءت إلا من هاتين، والخيال هو العنصر الذي تمزجه بالحقائق ليحدث فيها التنويع؛ فيخرج ثلاث حقائق من اثنتين، وهو نفسه العنصر الذي يستخرج الضرر الكامن في هذه الحقائق متى أسرف عليها، فيخرج من المنفعة الواحدة مضرتين: للحقيقة وللإنسان معا!
صفحة غير معروفة