كلمة
1 - القمر الطالع
2 - النجمة الهاوية
3 - السجين
4 - الربيطة1
5 - المنافق
6 - الصغيران
7 - الشيخ علي
8 - الشيخ أحمد1
9 - الشيخ محمد عبده
صفحة غير معروفة
كلمة
1 - القمر الطالع
2 - النجمة الهاوية
3 - السجين
4 - الربيطة1
5 - المنافق
6 - الصغيران
7 - الشيخ علي
8 - الشيخ أحمد1
9 - الشيخ محمد عبده
صفحة غير معروفة
السحاب الأحمر
السحاب الأحمر
تأليف
مصطفى صادق الرافعي
مقدمة الطبعة الأولى
بقلم مصطفى صادق الرافعي
لما كتبت «رسائل الأحزان» في فلسفة الجمال والحب كنت في تدبيره، والرأي فيه كمن يؤرخ عهدا من شبابه بعد أن رقت سنه،
1
وذهب يقينه من الدنيا، ولم يبق إلا ظنه، فهو يكتب والكلام يحن لديه، والقلم يئن في يديه، وكل وصف جاء به من الشباب قال رحمة الله عليه! وكنت أتعلق بأطراف اللغة التي فرت من الحياة معانيها، وذهب نورها وظلامها في أيامها ولياليها، فكان قلمي هو الذي يكتبها، ولكن قلبي هو الذي يمليها.
لغة الأحلام التي تعبر عن الحقائق على نحو ما وقعت يوما لا على نحو ما تقع كل يوم، فهي تترجم للحياة في زمن من العمر تاريخ هذه الحياة نفسها في زمن آخر، وترجع الإنسان كله لبقيته الباقية، وتأتي في الكلام لغير جدال، كما تأتي الأجوبة القاطعة على أسئلتها.
صفحة غير معروفة
وهي لغة الماضي التي تحمل ما حملت عليها؛ لأنها صافية كالحق، منزهة عن الريب كالواقع؛ فإذا وصفت بها الخير كانت كالمرآة المجلوة، أشرق فيها وجه جميل؛ فملأ صفاءها جمالا وفتنة. وإذا صورت بها الشر كانت كالمرآة، ووجه الزنجي؛ يملؤها سوادا، ولكنه لا يطمس على شعاعها، وتضيف إلى سواده لمعان نورها ما دام فيها! •••
كتبته بلغة الأحلام؛ والأحلام هذه إنما هي بعض ما مات منا، أو ما مات لنا؛ فإن استحال رجوعنا في هذا العمر عودا على الماضي؛ فهي رجوع الماضي إلينا؛ ومن ثم كان في لغتها شيء ظاهر من روعة الخلق، وكانت لها معان كأنها راجعة من سفر بعيد إلى شوق طال به الصبر.
كتبت كتابة قال الغافلون: إني أتكلف لها خيالا ورواية؛ وقال العاشقون: إنها كلام قلوبهم، وقال الذين يفهمون الكلام: إنه هو في كلامه!
ولقد كنت من نفسي يومئذ كمن لو ضربه الحب بقشة لجرحه جرحا يدمى،
2
وكنت أكتب عن ساحرة تبسم حتى لتظن أنها لم توت وجها تعبس به، ثم تكون مع ذلك شر ما هي كائنة من حيث لا تظن أنت بها إلا الذي هو خير وأهدى!
وكنت في ذلك الكتاب شاعرا، وحب الشاعر لا يخلو من الوزن ...؛ وكنت متفلسفا؛ وهيهات إن أصبت الحب أيها الفيلسوف إلا في امرأة معقدة، يؤلفها الله تأليفا من العسر بين فهمك ومعانيها؛ فلا جرم كان الكتاب في نوع من الحب المتألم لا يكون مثله إلا بين اثنين مسح الله يده على وجهه أحدهما، ثم مسح يده على قلب الآخر، ثم تراءيا بعد؛ فما لبث أن أشرق الأثر الإلهي على الأثر، ووقع القضاء في الحب على القدر!
ألا إن كل باب يفتح ويغلق بمفتاح واحد هو يغلقه وهو يفتحه، إلا باب القلب الإنساني؛ فقد جعل الله له مفتاحين: أحدهما يغلقه، ثم لا يغلقه سواه، وهو مفتاح اللذات؛ والآخر يفتحه، ثم لا يفتحه غيره، وهو الألم! •••
كنت أستوحي «الرسائل» من تلك النفس التي طارت بي طيرتها البطيء وقوعها؛ فإني لأستعر بها فكرا،
3
صفحة غير معروفة
وأشتعل منها خيالا، وكنت أرى الفصول تخلص في يدي حين أكتبها كما تخلص سبائك الذهب بعناصرها لا بالصناعة؛ وكان هذا القلم كالحديد إذا أحمي عليه: ليست يد لمسته من أيدي المعاني إلا وضع فيها سمة النار؛ ثم جاء الكتاب، وما أكاد أصدق أن الزمن مر به، وتم قبل أن يتم القمر دورة شهر واحد،
4
فنبهني ذلك إلى أن أستوفي الكلام في الحب استمدادا من أرواح أخرى، فوضعت هذا السحاب الأحمر.
5
وقد استوحيته من أرواح فيها الحبيب والبغيض والصديق والمظلوم والظالم لنفسه، ومن عقله قلبه، ومن حبه منفعته؛ وفيها أضعف ما عرفت من العقول وأقواها؛ فمن هذه السماء توكفت هذا السحاب؛
6
وإني لأشهد أني في بعض فصوله كنت أحامي عن الحب أن ينتقص؛
7
فأدير الكلام على ذلك فيلتوي، ثم أراه لا ينقاد، ولا يتابع إلا على خلاف ما أريد؛ فإذا أخذت في المذهب الذي يعن لي اتفاقا وعرضا،
8
صفحة غير معروفة
تحدر الكلام تحدر الدمع من حيث لا يملك أحد أن يفيضه أو يكفه؛ لأنه عند أسبابه الباطنة، وفي فصل «الشيخ علي» خاصة كانت روح هذا الرجل الطبيعي كأنها هي التي تكتب، وكان مريدا على طبعه وخلقه،
9
فما ملكت معه محاماة ولا دفعا. وفي فصل «الشيخ محمد عبده» كنت أشعر كأني مرتق في صعداء مطلبها طويل بعيد،
10
فلا أخطو خطوة إلا مدافعا جاذبية الأرض، وشاعرا بأني أحمل نفسي حملا؛ وكنت كالذي يطأ على أضراس الجبل الصخري وأسنانه متئدا حذرا أن يزل فيسقط سقوط اللقمة الممضوغة ... ولا ينفعه في الصخر، وشموخه، وتعاليه أنه كان في عريض السهل عداء لا يلحق! •••
من الحب رحمة مهداة؛ فإذا كنت مع الله كانت كل أفكارك صورا روحانية؛ فأنت كالملك: هو في الأرض ما هو في السماء. ومن الحب نقمة مسلطة؛ فإذا كنت مع الشياطين كانت كل أفكارك صورا حيوانية، فأنت كهذا المتجهم الطياش
11
الذي لو نظر في كل مرائي الدنيا ما رأى في جميعها غير وجه القرد؛ لأنه القرد !
والناس في هذا الحب أصناف: فواحد يجاهد زلات قد وقعت، وهو المحب الآثم؛ وآخر يجاهد شهوات تهم أن تقع، وهو المحب الممتحن؛ وثالث أمن هذه وهذه، وإنما يجاهد خطرات الفكر، وهو المحب ليحب فقط؛ ورابع كالقرابة والصديق: عجز الناس أن يجدوا في لغاتهم لفظا يلبس هذه العاطفة فيهم؛ فألحقوها بأدنى الأشياء إليها في هذا المعنى، وهو الحب. وعلى الثالث وحده بنيت «رسائل الأحزان»، وعلى بعض الرأي في الباقيات كسرت هذا الكتاب.
من للمحب ومن يعينه
صفحة غير معروفة
والحب أهنأه حزينه!
أنا ما عرفت سوى قسا
وته فقولوا كيف لينه؟
إن يقض دين ذوي الهوى
فأنا الذي بقيت ديونه
قلبي هو الذهب الكري
م فلا يفارقه رنينه
قلبي هو الألماس: يع
رف من أشعته ثمينه
قلبي يحب وإنما
صفحة غير معروفة
أخلاقه فيه ودينه •••
يا من يحب حبيبه
وبظنه أمسى يهينه
وتعف منه ظواهر
لكنه نجس يقينه
كالقبر غطته الزهو
ر وتحته عفن دفينه
ماذا يكون هواك لو
كل الذي تهوى يكونه؟
دع في ظنونك موضعا
صفحة غير معروفة
إن الحبيب له ظنونه
وخذ الجميل لكي تز
ين الحسن فيه بما يزينه
إن تنقلب لص العفا
ف لمن تحب فمن أمينه؟
ما لذة القلب المدل
ه لا يطول به حنينه؟
ما لذة العقل المح
ب ولم يجننه جنونه
الحب سجدة عابد
صفحة غير معروفة
ما أرضه إلا جبينه
الحب أفق طاهر
ما إن يدنسه خؤونه
أفق الملائك نفسه
في البدء كان له لعينه
12 •••
ويلي على متدلل
ما تنقضي عني فنونه
كيف السلو وفي فؤا
دي لا تفارقني عيونه؟
صفحة غير معروفة
هوامش
كلمة
كانت درتان متجاورتين في حلية على صدر حسناء؛ وكلتاهما يتيمة إلا من أختها،
1
تمج ذلك الشعاع النادر الذي جاءه الحسن من كونه ضوءا لم يولد من شمس، ولا من قمر! ولكن من ظلمات البحر؛ فتناجتا يوما، وكانت الجميلة قد استوفت كل زينتها، وحملت الدرتين على صدرها كأنهما عينا قلبها الثمين؛ فقالت إحداهما للأخرى وهي تشير إلي هذه الفتانة: انظري ... انظري، ما أحسن لؤلؤتنا!
صارت اللؤلؤة في هذا المنطق الشعري هي امرأة الأعماق المظلمة، وعادت المرأة الحسناء لؤلؤة الأعماق السماوية المضيئة؛ فلا شيء يريد أن يكون كما هو في نفسه؛ إذ لا يزال موضع الفصل من حكمة الله خفيا، لا يرى بل يتوهم، ولا يستيقن بل يظن؛ وكان خفاء هذه الحكمة في سماواتها إيجادا للخيال في الإنسان؛ حتى لا يظل أبدا في حيوانيته، ولكن هذا الخيال نفسه كثيرا ما أضاف إلى الإنسان حيوانية أخرى.
ولو كشف لك عن الحقيقة لرأيت أقبح ما في كل شيء أن لا يبرح أبدا محبوسا في حقيقة لا يجاوزها؛ ومن ثم خفف الله عن الإنسان؛ فأودع فيه قوة التخيل، يستريح إليها من الحقائق؛ فإذا ضجر أهل الخيال من الخيال، لم يصلحهم إلا الحب، فهو وحده ناموس التطور للقوة المتخيلة، ولن تجد في الأشياء العجيبة أعجب منه، حتى كأنه أم تلد؛ فالمرأة هي تلد الإنسان، ولكن حبها يلد النابغة. •••
وليس يقع التعجب من الأمر؛ لأنه عجيب في نفسه، بل لأنه متصل من الإنسان بروعه ،
2
أو بعقله، أو بهواه، أو بمطامعه؛ فإن دهش الروع، أو تحير العقل، أو اشتهى الهوى، أو تمكن المطمع من النفس، فهذه هي الألوان الأربعة التي تصور منها الطبيعة الإنسانية كل معاني التعجب، والذي هو أعجب من جميعها أن الطبيعة لا تحتاج إلى جميعها في تصوير شيء إلا واحدا، هو تصوير الحب الصحيح في قلب إنسان.
صفحة غير معروفة
فهذا الحب ليس حقيقة واحدة عجيبة، بل هو أربع حقائق داخل بعضها بعضا، فلا يتميز لون منها من لون منها. وما حقيقة الحب الصحيح إلا امتزاج نفسين بكل ما فيهما من الحقائق، حتى قال بعضهم: لا يصلح الحب بين اثنين إلا إذا أمكن لأحدهما أن يقول للآخر: يا أنا؛
3
ومن هذه الناحية كان البغض بين الحبيبين - حين يقع - أعنف ما في الخصومة؛ إذ هو تقاتل روحين على تحليل أجزائهما الممتزجة، وأكبر خصيمين في عالم النفس، متحابان تباغضا!
وللحب العجيب جنس من النساء عجيب، خلقن جواسيس على القلوب يدخلن فيها، ويخرجن منها، وقلما تجسمت الواحدة منهن إلا لتفضح للدنيا أسرار روح عظيمة؛ وهذا الجنس تهيئه الطبيعة تهيئة المادة السحرية، وتولد المرأة منه مرتين؛ فإذا هي انحدرت إلى الدنيا طفلة جعلت تأخذ في دمها الجذاب من شعاع الشمس يتوهج، ومن القمر يتندى،
4
وذهبت تنمو في ظاهرها نموا، وفي باطنها نموا غيره، حتى إذا بلغت مبلغها، وانبعثت ملء شبابها، آن لها أن تولد الثانية، فولدت في قلب رجل!
والعجيب أنها في الولادة الأولى يكون أول وجودها هو أول وجودها؛ أما في الثانية فذلك أول فنائها؛ لأن المرأة متى حلت من قلب الرجل محلا، جعل يفنيها معنى في كل معنى حتى تفرغ، فلا يبقى منها إلا ذكرى زمن مضى ...
وكل امرأة من هذا الجنس هي معجزة عقلية ما دامت مخبوءة في الشعاع السماوي من جمالها، وما دام هذا الشعاع يفعل فعله الذي عرفه الناس أوضح ما عرفوه في أديانهم، وعقائدهم، وفيما أنزلوه منزلة الأديان والعقائد.
وآية مصداق هذا الإعجاز
5
صفحة غير معروفة
في المرأة الساحرة المحبوبة ذلك النوع من الحب، أنه بينا يكون محبها رزين الطبع، وازن الرأي
6
كالجبل الراسخ الوطأة، إذا هو من سخافة رأيه في بعض أهواء الحب ونزعاته، كأنه جبل يطير بألف جناح، وقد ملأ الخوافق بين السماء والأرض أوهاما سحرية!
وهنا معضلة الحب التي لا حيلة في فهمها، ولا في تقريبها إلى الفهم، وهي تثبت أن العاشق يعطى في ناحية خياله قبل الناس جميعا؛ ولكنه ينتقص من ناحية عقله مع حبيبته وحدها؛ فهما سحران تظاهرا.
7
ولا يشبه تلك المعجزة إلا أن ترى إنسانا يقوم على ساحل البحر الملح؛ فيلقي فيه رطلا سكرا، ثم يتذوق البحر؛ فإذا هو في مذاقه، وفي رأيه، وفي حكمه شراب سائغ، كأنما ألقى الرجل فيه وزن كرة الأرض من هذا الطعم اللذيذ الحلو ... ومع ذلك فهو عاقل فيما عدا ذلك!
هوامش
الفصل الأول
القمر الطالع
في يدي الآن هذا القلم الذي أكتب به، وهو سن قائمة في نصاب
صفحة غير معروفة
1
من الزجاج أحمر صاف يشف عن داخله؛ فإذا طاف به النور أشع فيه،
2
وانصبغ بلونه؛ فرمى على إصبعي ظلا مجروحا،
3
يريك الجلد كأنما جرحه من فوقه لا من تحته.
فإذا راوحته يدي،
4
وقلبته أناملي، رأيت له بريقا يستطير فيه كأنه شعلة من اللهب حبستها معجزة في عود من الثلج.
فإذا استعرضته بين العين وبين الضوء الساطع، رأيت منه ياقوتة حمراء قد افتر فيها نبع كالفم الحلو، يتنفس على قلبي الحزين بابتسامات تأتي إلي وفيها ألوان شفاهها الوردية!
صفحة غير معروفة
فإني لجالس ذات مرة في جوف الليل أكتب على ضوء الكهرباء، إذ طارت فيه نظرة من نظراتي، وكان بإزاء الشعيلة؛
5
فرأيت في خلاله من انعكاس الضوء شميسة صغيرة لم أر قط أحسن منها حسنا، كأنها سبيكة تحترق، وتتناثر ضبابا من بخار الذهب؛ فمددت النظر؛ فإذا أنا بتلك الشميسة كأنها إحدى عذارى الجنة انغمست في غدير صاف فحولها جمالها، فانقلب من معنى الماء إلى معاني الجمال المستحي؛ فاحمر كأنه لون خد مورد!
وراعني ما أبصرت، فاستأنيت لحظة، ثم رفعت طرفي إلى مدار هذا الكوكب، فجعل يرمي بمثل شقائق البرق
6
تلمح واحدة لواحدة، ثم انقلب يتضرم كالتنور المستعر، ثم عاد لجة من «السحاب الأحمر» يموج بعضها في بعض كالحب المتوهج، يملأ فراغ قلب كبير؛ فاختلج الذي هو في صدري؛ وحضرتني
7
حاضرة من الذكرى لم تكد تعرض للفكر حتى انفلق السحاب عن وجه فاتن كالقمر الطالع، وكان متمثلا في نفسي مذ أبصرت تلك الشميسة، فكأنما أرى من السحاب مرآة فانطبع فيها؛ وما تلبث إلا يسيرا ثم اختفى.
وغصت في هذه النفس أفكر فيما رأيت، وأنا أمسك على قلبي أن يطير، فإذا «السحاب الأحمر» يمطر علي مطرة من الخواطر والكلمات، يتلاحق منها طرف بعد طرف، وتقبل طائفة وراء طائفة؛ كأن متكلما يتحدث بها في نفسي، أو كأنه وحي يوحى من ملك الجمال؛ فأسرعت أدونها، وأحصيها تحت عيني تلك الصورة الجميلة المشرقة علي، حتى امتلأ البياض سوادا، واستفاضت روح الحبر الأسود بالهم، على صدوع القلب وعلى شعابه.
8
صفحة غير معروفة
وجاءت بعد ذلك ليال كان فيها السحاب يعرض لي صورا أعرفها، فإذا مثلها فاستوخيتها الفكرة سح علي الخواطر من روحها، فأقبلت كالمطر يفرغ إفراغا دفعة من غير تلبث.
9 •••
رأيت وجه فتاة عرفتها قديما في ربوة من لبنان، ينتهي الوصف إلى جمالها، ثم يقف؛
10
كنت أرى الشمس كأنما تجري في شعرها ذهبا، وتتوقد في خدها ياقوتا، وتسطع في ثغرها لؤلؤة، وكنت أرى الورد الذي يزرعه الناس في رياضهم، فإذا تأملت شفتيها رأيت ورقتين من الورد الذي يزرعه الله في جنته؛ وكانت لها حينا خفة العصفور، وحينا كبرياء الطاووس، ودائما وداعة الحمامة المستأنسة؛ وكانت روحها عطرة تنفح نفح المسك إذا تشامت الأرواح الغزلة بالحاسة الشعرية التي فيها!
وكنت إذا رأيتها بجملة النظر من بعيد صور لها قلبي من الحسن والهوى ما يموت فيه موتة ثم يحيا؛ فإذا جالستها، وأثبت النظر فيها رأيتها في التفصيل شيئا بعد شيء بعد شيء، كما أنظر نجما بعد نجم بعد نجم: كلها شعاع، وكلها نور، وكلها حسن!
وما نظرت مرة إلى النساء حولها إلا وجدت من الفرق بينها وبينهن ما يتضاعف من جهتها عاليا عاليا، ويتضاعف منهن نازلا نازلا؛ كأنه ليس في الأمر إلا أنها أخذت من السماء، ووضعت بينهن!
هي كالفتنة المحتومة تنبعث إلى آخرها، فليس منها شيء إلا هو يحسن شيئا، ويشوق إلى شيء، وبعضها يزين بعضها. •••
لقد تراخى الزمن بي وبها! فلو عددت لأحصيت مائة وخمسين قمرا منذ فارقتها، وما أحسب الأرض إلا انصدعت بيننا عن أقيانوس عظيم من الزمن تملؤه الأيام والليالي، فلا يخاض، ولا يعبر، ولا ينظر فيه أهل ساحل أهل ساحل غيره.
وعلى أن هذا الزمن قد محا في قلبي من بعدها وأثبت، فلا تزال تنشق لها زفرة من صدري كلما عرضت ذكراها، كأن القلب يسألني بلغته: أين هي؟
صفحة غير معروفة
والقلب الكريم لا ينسى شيئا أحبه، لا شيئا ألفه؛ إذ الحياة فيه إنما هي الشعور، والشعور يتصل بالمعدوم اتصاله بالموجود على قياس واحد، فكأنما القلب يحمل فيما يحمل من المعجزات بعض السر الأزلي الذي يحيط بالأبعاد كلها إحاطة واحدة؛ لأنها كلها كائنة فيه: فليس بينك وبين أبعد ما مر من حياتك إلا خطوة من الفكر، هي للماضي أقصر من التفاتة العين للحاضر. •••
ليس بجمال إلا ذلك الروح الذي يرفع النفس إلى أفق الحقيقة الجميلة، ثم ينفخ فيها مثل القوة التي يطير، ويدعها بعد ذلك تترامى بين أفق إلى أفق؛ فإما انتهى المحب إلى حيث يصير هو في نفسه حقيقة من الحقائق، وإما انكفأ من أعاليه، وبه ما بالطيارة الهاوية: رفعت راكبها إلى حيث ترمي به ميتا، أو كالمغشي عليه من مس الموت!
والذين ينكرون أن الجمال يقتل أحيانا، أو يجعل الحياة كالقتل، ثم يدعون مع ذلك هوى وحبا، إنما هم أولئك الذين يعشقون بنفس العاطفة المادية الخسيسة التي يحبون بها الذهب، والفضة، وورق البنك ...
وليس بحب إلا ما عرفته ارتقاء نفسيا، تعلو فيه الروح بين سماوين من البشرية فتلوح منهما كالمصباح بين مرآتين: يكون واحدا وترى منه العين ثلاثة مصابيح؛ فكأن الحب هو تعدد الروح في نفسها، وفي محبوبها. •••
ولا سمو للنفس إلا بنوع من الحب مما يشتعل إلى ما يتنسم؛ من حب نفسك في حبيب تهواه، إلى حب دمك في قريب تعزه، إلى حب الإنسانية في صديق تبره، إلى حب الفضيلة في إنسان رأيته إنسانا؛ فأجللته وأكبرته.
فإذا أنت أصبت في الخليقة من أغفل الله قلبه
11
عن تلك الأربعة! فلا حب، ولا صلة! ولا يألف ولا يؤلف، فذلك هو الذي لا نفس له من نفوس الناس، كأنه سبع من السباع الضارية، أو هو الذي كله نفس، كأنه نبي من الأنبياء ... تجد الأول فيمن اعتزله العالم من شرار المجرمين، وأخلاط الشياطين الإنسية الذين لا يسعهم الناس بعد أن انفصلوا من إنسانيتهم، وانحطوا انحطاطا في أشد العنف؛ وتجد الثاني فيمن اعتزل هو العالم من خيار الأوابين، والشهداء الذين لا يسعون الناس بعد أن اتصلوا بإنسانيتهم الكاملة؛ فارتفعوا عن الخلق ارتفاعا في أرق الرحمة!
الحب بعض الإيمان: وكما أن الطريق إلى الجنة من الإيمان بكل قوى النفس؛ فإن الطريق إلى الحب من قوة لا تنقص عن الإيمان إلا قليلا؛ والخطوة التي تقطع مسافة قصيرة إلى القلب، تقطع مسافة طويلة إلى السماء!
وكما ينشأ الفكر أحيانا من عمل العقل الإنساني إذا هو تحكم في الدين، يأتي البغض من هذا العقل بعينه إذا هو تحكم في الحب.
صفحة غير معروفة
وترى ما هذا الشبه بين المرأة وبين السماء؟ أكانت المرأة في أصل الخلقة مادة سماء بدأت تتخلق في الغيب، فحبسها الله في ضلع الرجل عقابا لها، ثم عاقبها الثانية فأخرجها للرجل تنظر إليه، كما ينظر السجين إلى سجنه ... ويكون الله سبحانه قد عاقبها مرتين؛ لتتعلم هي بطبعها كيف تتجنى على الرجل، وتعاقبه مرارا لا تعد؟
أيمكن أن يكون هذا الجمال الفتان في المرأة الجميلة خلاصة سماء من السماوات خلقت عينين وخدين وشفتين؛ تضحك أحيان بالنور، وتلتهب أحيانا بالبرق، وتنفجر أحيانا بالرعد؟
لقد عرفنا أن في السماء جنة ونارا، وأقسم لو صغرت الجنة، وجعلت أرضية تلائم حياة رجل من الناس، ثم عجلت له هذه الحياة الدنيا؛ لما كانت بمتاعها ولذاتها، وفنون الجمال فيها إلا المرأة التي يحبها ! ... أما الجحيم فلا أراني في حاجة إلى برهان على أنها صغرت وتجزأت، واندفقت على الأرض شعلا في أسماء من أسماء النساء!
لذلك أراني لا أستطيع أن أفهم المرأة الجميلة، بل لا أدري كيف أفهمها؛ فمن حيثما نظرت إليها لا أراها تبتدئ إلا من فوق العقل، فأنظر إليها ساكتا على أنها هي لا تنظر في إلا متكلمة. •••
يا ملون السماء، والوجوه الجميلة؛ يا مصور الروعة والحب، يا مبدع هذه المعاني الظاهرة إبداعا، جعلها لدقتها كأنها لم تظهر ... يا موجد القلب كما هو لتملأه السماء إيمانا، والجمال حبا، والمعاني فكرا منهما معا ...
ويا خالق الإنسانية العالية في الإنسان الكامل من إيمانه، وحبه، وفكره ... ... نعرف هذه السماء بما وسعت للإيمان، وهذه الطبيعة بما رحبت للفكر؛ فهل المرأة وحدها هي التي للحب؟
تباركت إذ جعلت ما وراء الطبيعة فوق الفكر مهما سما، وجعلت الطبيعة حول الفكر مهما اتسع، وأنزلت المرأة بين المنزلتين مهما كانت!
إن من النساء ما يفهم ثم يعلو في معانيه الجميلة إلى أن يمتنع، ومن النساء ما يفهم ثم يسفل في معانيه الخسيسة إلى أن يبتذل!
إن من المرأة ما يحب إلى أن يلتحق بالإيمان، ومن المرأة ما يكره إلى أن يلتحق بالكفر! •••
من المرأة حلو لذيذ يؤكل منه بلا شبع، ومن المرأة مر كريه يشبع منه بلا أكل!
صفحة غير معروفة
هوامش
الفصل الثاني
النجمة الهاوية
طائفة من الخواطر في طائفة من النساء
وترقرق السحاب فإذا هو كنضج الدم،
1
وإذا هو يفور فوره؛
2
فبان كأنما يتدفق من طعنة أرى دمها، ولا أرى موضعها؛ لأن هذا الشلال الأحمر يتفجر منها.
ورأيتها هي طالعة كالشمس حين تغرب محمرة يتغالب طرفا الليل والنهار عليها؛ ففيها أواخر النور، وأوائل الظلمة، وسوادها يمشي في بياضها
صفحة غير معروفة
3 ...
قلت يوما في صفة إحدى القصائد البديعة: إنها فن من الشعر؛ وفي إحدى الصور المحكمة: إنها فن من التصوير؛ وفي تلك الجميلة: إنها فن من المرأة! أما الآن فقد عرفنا أن اصفرار الشمس إيذان بسواد نصف أرضها.
وتقول العرب : امرأة مجلوة؛ ويفسرون ذلك بأنك إذا رامقت فيها الطرف
4
جال؛ يعنون أنها من جمالها ذات شعاع، فيجول الطرف فيها لأجل شعاعها وبريقها؛ أفلا يجوز لنا أن نزيد في هذه اللغة: وامرأة صدئة، ونفسرها بأنها هي التي إذا اتصلت بها تركت مادة الصدأ على روحك اللامع؛ لأنها كهذا الصدأ طينت على طينتها؟
5 •••
لست أريد أن أصنع في هذا الفصل كتابة؛ حتى لا أدير الكلام على شيء، فقد مسخت تلك النفس في نفسي فخلصت لي منها هذه الكلمة الجميلة: «تتم آمالنا حين لا نؤمل»، ولكني مرسل مطرة سحابي تهطل ما هطلت؛ فالمرأة الأولى أضاعت على الرجل جنته، ومن نسلها نساء يضيعن على الرجل الجنة وخيالها! ولو استطاعت الأرض أن تفر من تحت قدمي مخلوق براءة منه، لكان أول من تنخزل تحت رجليه
6
واحدة من هذا النوع!
ملح الله لا يحلو أبدا؛ فماذا تصنع في نفس لو سالت لكانت بحيرة؟
صفحة غير معروفة