وأما مرتبة هذا العلم فهي أن يتعلم بعد العلوم الطبيعية والرياضية. أما الطبيعية، فلأن كثيرا من الأمور المسلمة في هذا مما تبين في علم الطبيعي مثل: الكون، والفساد، والتغير، والمكان، والزمان وتعلق كل متحرك بمحرك، وانتهاء المتحركات إلى محرك أول، وغير ذلك. وأما الرياضية، فلأن الغرض الأقصى في هذا العلم هو تدبير الباري تعالى، ومعرفة الملائكة الروحانية وطبقاتها، ومعرفة النظام في ترتيب الأفلاك، ليس يمكن أن يتوصل إلا بعلم الهيئة، وعلم الهيئة لا يتوصل إليه إلا بعلم الحساب والهندسة. وأما الموسيقى وجزئيات الرياضيات والخلقيات والسياسة فهي نوافع غير ضرورية في هذا العلم. إلا أن لسائل أن يسأل فيقول: إنه إذا كانت المبادئ في علم الطبيعة والتعاليم إنما تبرهن في هذا العلم وكانت مسائل العلمين تبرهن بالمبادئ، وكانت مسائل ذينك العلمين تصير مبادئ لهذا العلم، كان ذلك بيانا دوريا ويصير آخر الأمر بيانا للشيء من نفسه، والذي يجب أن يقال في حل هذه الشبهة هو ما قد قيل وشرح في كتاب البرهان. وإنما نورد منه مقدار الكفاية في هذا الموضوع فنقول: إن المبدأ للعلم ليس إنما يكون مبدأ لأن جميع المسائل تستند في براهينها إليه بفعل أو بقوة، بل ربما كان المبدأ مأخوذا في براهين بعض هذه المسائل، ثم قد يجوز أن تكون في العلوم مسائل براهينها لا تستعمل وصفا البتة؛ بل إنما تستعمل المقدمات التي لا برهان عليها. على أنه إنما يكون مبدأ العلم بالحقيقة إذا كان يفيد أخذه اليقين المكتسب من العلة، وأما إذا كان ليس يفيد العلة، فإنما يقال له مبدأ العلم على نحو آخر. وبالحري أن يقال له مبدأ على حسب ما يقال للحس مبدأ، من جهة أن الحس بما هو حس يفيد الوجود فقط. فقد ارتفع إذن الشك، فإن المبدأ الطبيعي يجوز أن يكون بينا بنفسه، ويجوز أن يكون بيانه في الفلسفة الأولى بما ليس يتبين به فيما بعد، ولكن أنما تتبين به مسائل أخرى حتى يكون ما هو مقدمة في العلم الأعلى لإنتاج ذلك المبدأ لا يتعرض له في انتاجه من ذلك المبدأ، بل له مقدمة أخرى. وقد يجوز أن يكون العلم الطبيعي أو الرياضي أفادنا برهان "أن" وإن لم يفدنا فيه برهان "اللم" ثم يفيدنا هذا العلم فيه برهان "لم" خصوصا في العلل الغائية البعيدة. فقد اتضح إنه إما أن يكون ما هو مبدأ بوجه ما لهذا العلم من المسائل التي في العلوم الطبيعية ليس في بيانه من مبادئ تتبين في هذا العلم، بل من مبادئه بينة بنفسها؛ وإما أن يكون بيانه من مبادئ هي مسائل في هذا العلم، لكن ليس تعود فتصير مبادئ لتلك المسائل لعينها بل لمسائل أخرى؛ وإما أن تكون تلك
صفحة ١٠