فصل في منفعة هذا العلم ومرتبته واسمه
وأما منفعة هذا العلم، فيجب أن تكون قد وقفت في العلوم التي قبل هذا على أن الفرق بين النافع وبين الخير ما هو، وأن الفرق بين الضار وبين الشر ما هو، وأن النافع هو السبب الموصل بذاته إلى الخير، والمنفعة هي المعنى الذي يوصل به الشر إلى الخير. وإذ قد تقرر هذا فقد علمت أن العلوم كلها تشترك في منفعة واحدة وهي: تحصيل كمال النفس الإنسانية بالفعل مهيئة إياها للسعادة الأخروية. ولكنه إذا فتش في رؤوس الكتب عن منفعة العلوم لم يكن القصد متجها إلى هذا المعنى، بل إلى معونة بعضها في بعض، حتى تكون منفعة علم ما هي معنى يتوصل منه إلى تحقيق علم آخر غيره. وإذا كانت المنفعة بهذا المعنى فقد يقال قولا مطلقا، وقد يقال قولا متخصصا. فأما المطلق فهو أن يكون النافع موصلا إلى تحقيق علم آخر كيف كان، وأما المتخصص فأن يكون النافع موصلا إلى ما هو أجل منه، وهو الغاية له إذ هو لأجله بغير انعكاس. فإذا أخذنا المنفعة بالمعنى المطلق كان لهذا العلم منفعة. وإذا أخذنا المنفعة بالمعنى المتخصص كان هذا العلم أجل من أن ينفع في علم غيره، بل سائر العلوم تنتفع به. لكن إذا قسمنا المنفعة المطلقة إلى أقسامها كانت ثلاثة أقسام: قسم يكون الموصل منه موصلا إلى معنى أجل منه؛ وقسم يكون الموصل منه موصلا إلى معنى مساو له؛ وقسم يكون الموصل منه موصلا إلى معنى دونه، وهو أن يفيد في كمال دون ذاته. وهذا إذا طلب له أسم خاص كان الأولى به الإفاضة، والإفادة، والعناية، والرياسة، أو شيء مما يشبه هذا إذا استقريت الألفاظ الصالحة في هذا الباب عثرت عليه. والمنفعة المتخصصة قريبة من الخدمة. وأما الإفادة التي تحصل من الأشرف في الأخس فليس تشبه الخدمة. وأنت تعلم أن الخادم ينفع المخدوم، والمخدوم أيضا ينفع الخادم، أعني المنفعة إذا أخذت مطلقة ويكون نوع كل منفعة ووجه الخاص نوعا آخر، فمنفعة هذا العلم الذي بينا وحهها هي إفادة اليقين بمبادئ العلوم الجزئية، والتحقق لماهية الأمور المشترك فيها، وإن لم تكن مبادئ. فهذا إذن منفعة الرئيس للمرؤوس، والمخدوم للخادم، إذ نسبة هذا العلم إلى العلوم الجزئية نسبة الشيء الذي هو المقصود معرفته في هذا العلم إلى الأشياء المقصود معرفتها في تلك العلوم. فكما أن ذلك مبدأ لوجود تلك، فكذلك العلم به مبدأ لتحقق العلم بتلك.
صفحة ٩