المبادئ لأمور من هذا العلم لتدل على وجود ما يراد أن نبين في هذا العلم لميته. ومعلوم أن هذا الأمر إذا كان على هذا الوجه لم يكن بيان دور البتة، حتى يكون بيانا يرجع إلى أخذ الشيء في بيان نفسه. ويجب أن تعلم أن في نفس الأمر طريقا إلى أن يكون الغرض من هذا العلم تحصيل مبدأ إلا بعد علم آخر. فإنه سيتضح لك فيما بعد إشارة إلى أن لنا سبيلا إلى إثبات المبدأ الأول لا من طريق الإستدلال من الأمور المحسوسة، بل من طريق مقدمات كلية عقلية توجب للوجود مبدأ واجب الوجود وتمنع أن يكون متغيرا أو متكثرأ في جهة، وتوجب أن يكون هو مبدأ للكل، وأن يكون الكل يجب عنه على ترتيب الكل. لكن لعجز أنفسنا لا نقوى على سلوك ذلك الطريق البرهاني الذي هو سلوك عن المبادئ إلى الثواني، وعن العلة إلى المعلول، إلا في بعض جمل مراتب الموجودات منها دون تفصيل. فإذن من حق هذا العلم في نفسه أن يكون مقدما على العلوم كلها، إلا أنه من جهتنا يتأخر عن العلوم كلها، فقد تكلمنا على مرتبة هذا العلم من جملة العلوم. وأما أسم هذا العلم فهو أنه: "ما بعد الطبيعة". ويعني بالطبيعة لا القوة التي هي مبدأ حركة وسكون، بل جملة الشيء الحادث عن المادة الجسمانية وتلك القوة والأعراض. فقد قيل أنه قد يقال: الطبيعة، للجرم الطبيعي الذي له طبيعة. والجرم الطبيعي هو الجرم المحسوس بما له من الخواص والأعراض. ومعنى "ما بعد الطبيعة" بعدية بالقياس إلينا. فإن أول ما نشاهد الوجود، ونتعرف عن أحواله نشاهد هذا الوجود الطبيعي. وأما الذي يستحق أن يسمى به هذا العلم إذا اعتبر بذاته، فهو أن يقال له علم "ما قبل الطبيعة"، لأن الأمور المبحوث عنها في هذا العلم، هي بالذات والعموم، قبل الطبيعة. ولكنه لقائل أن يقول: إن الأمور الرياضية المحضة التي ينظر فيها في الحساب والهندسة، هي أيضا "قبل الطبيعة"، وخصوصا العدد فإنه لا تعلق لوجوده بالطبيعة البتة، لأنه قد يوجد لا في الطبيعة، فيجب أن يكون علم الحساب والهندسة علم "ما قبل الطبيعة". فالذي يجب أن يقال في هذا التشكيك هو أنه: أما الهندسة فما كان النظر فيه منها إنما هو في الخطوط والسطوح والمجسمات. فمعلوم أن موضوعه غير مفارق للطبيعة في القوام، فالأعراض اللازمة له أولى بذلك. وما كان موضوعه المقدار المطلق فيؤخذ فيه المقدار المطلق على أنه مستعد لأية نسبة اتفقت، وليس ذلك للمقدار بما هو مبدأ للطبيعيات وصورة؛ بل بما هو مقدار وعرض. وقد عرف في شرحنا للمنطقيات والطبيعيات الفرق بين المقدار الذي هو يعد الهيولي مطلقا، وبين المقدار الذي هو كم،
صفحة ١١