شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

عبد الغفار مكاوي ت. 1434 هجري
91

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

تصانيف

في عروق اللغة يعيش نبض العصر، وينعكس وجهه المظلم أو وجهه المضيء. وإذا كان عصرنا يختلف عن العصور السابقة، فكيف لا تختلف لغتنا عن لغة الآباء والأجداد؟ وإذا كان عصرنا يتمزق بالقلق والخوف والتشتت والصراع بين الدول والمذاهب، وسيطرة الآلة على الإنسان وبعد هذا عن نفسه وعن العالم بقدر محاولته السيطرة عليها والتحكم فيها، فكيف لا تكون لغتنا مرآة لكل هذه الغرائب والمتناقضات؟ وإذا جاز القول بأن لكل منا عالمه، فكيف نستبعد على شاعر اليوم أن يكون له عالمه أو قل غابته الكثيفة المظلمة؟ (3)

ليس لكل عصر لغته فحسب، بل لكل شاعر لغته أو قاموسه الشعري الخاص به. وقد يكون من أسباب حكمنا بالغموض على طائفة كبيرة من نماذج الشعر الحديث راجعا إلى آفة الكسل والتعود، أو عجزنا عن بذل الجهد الواجب للتخلي عن القوالب والصيغ التعبيرية التقليدية لنستطيع استكشاف القوالب والصيغ الجديدة التي تحمل نبض العصر. وكيف لا نشكو من غموض أدونيس أو خليل حاوي أو البياتي ما دمنا نقرؤهم، ونحن نرتدي زي الجاهليين أو الأمويين أو العباسيين، لا بل زي البارودي وشوقي وحافظ؟ ثم إن الشعر معبود لا يحب أن يشرك به، فإذا دخلت إلى معبد شاعر، فعليك أن تقدم له كل تضحية، وتفنى فيه كل الفناء. وهل يصح إيمانك إن صليت في المسجد أو الكنيسة وقلبك مشغول بآلهة المجوس والفراعنة والبابليين؟ (4)

ينبغي أن نلتزم الحرص في استخدام كلمة الغموض. صحيح أن الشعر الجديد - وأقصد نماذجه الممتازة التي تستحق هذه التسمية - يتصف عامة بالغموض غير أن هناك، إن جاز هذا التعبير، غموضا أصيلا، وغموضا زائفا. والغموض الأصيل ينتج عن التحام لغة الشعر وقلبه بالحياة والوجود. فحياتنا اليوم تحفل كما قلت بالتناقض والتمزق والغرابة، وتموج بظواهر من الظلم والرعب والتفتت التي تزيد من غربة الشاعر عن العالم، وغربة العالم عنه، وتجعلنا عاجزين عن فهمها أو تفسيرها مهما حاولنا أن نصطنع منطق أرسطو أو نفزع إلى طبائع الأشياء. وهناك إلى جانب هذا غموض زائف يزور لغة كاذبة، فيأخذ إطار الشعر الجديد وشكله، ولكنه يحشده بتعبيرات سخيفة أو استعارات كاذبة أو صور ورموز وأساطير يكدسها إلى جانب بعضها البعض كيفما اتفق.

وقد يسأل القارئ: ولماذا لا يكون الشعر الجديد بسيطا واضحا، وهناك قدر هائل من الشعر البسيط الواضح الذي يؤثر علينا ويهز مشاعرنا؟

والرد على هذا أن الغموض ليس مقصورا على الشعر القديم دون الجديد، وأن الشاعر الجديد لا يبحث عن الغموض حبا في الغموض أو التعقيد لذاته. فليس كل الشعر المعقد شعرا غامضا، ولا كل الشعر الغامض شعرا معقدا. ثم إن الشعر الغامض يمكن أن يهزنا ويؤثر فينا مثل الشعر الواضح البسيط، بل قد يكون الغموض من أقوى أسباب هذا التأثير. (5)

لا بد أن نفرق بين الغموض والإبهام، فالشيء المبهم المستغلق ليس هو بالضرورة الشيء الغامض؛ لأن الإبهام صفة نحوية قبل كل شيء أي ترتبط بتركيب الجملة، في حين أن الغموض صفة خيالية تنشأ قبل مرحلة التعبير والصياغة اللغوية النحوية، فالغموض إذن هو غموض الرؤية أو التجربة نفسها. وما دام الشاعر صادقا، فهو ينقل لنا تجربة وجود يزداد كل يوم غموضا، أي يزداد اضطرابا وقلقا وتفتتا، ويبتعد بأحداثه المروعة المفاجئة عن النسق التقليدي المتكامل المنسجم. وإذن فالغموض ليس صفة سلبية تأتي من عجز الشاعر أو فشله في الوضوح، بل هو صفة إيجابية تفرض ضرورتها على الشاعر؛ لأنها كامنة في التفكير الشعري نفسه، أي متصلة بجوهر الشعر وطبيعته الأصلية. ولذلك تزداد عند الشاعر بقدر ما يزداد نصيبه من الأمانة والصدق في التعبير. (6)

الشعر وليد الخيال، والخيال تعبير آخر عن الاختراع. لذلك فلا عجب أن نجد الشاعر يخترع المعاني والألفاظ والاستعارات والصور الجديدة، محاولا أن ينقل إلينا تجربته أو رؤياه الجديدة للكون والحياة، أو يشكل بها تلك الوحدة الشعورية أو الصورة اللغوية والموسيقية التي تظل تعتمل في باطنه قبل أن تتجسد في الكلمات. وليس عجيبا كذلك أن نجد كلماته تبتعد عن معانيها الاصطلاحية، أو دلالاتها العادية المألوفة في حياتنا اليومية، بحيث نستطيع أن نقول إنه يزداد غموضا بقدر ما يزداد اقترابا من جوهر الشعر الحقيقي. وغني عن القول أن الغموض لا يعني أبدا الألغاز أو السخف أو التعقيد. (7)

كل إنسان منا يعيش في التراث، فمن لم يكن له ماض فلا حاضر له ولا مستقبل. والشاعر العصري يتخذ بالضرورة موقفا من تراثه، وسواء حاول أن يخرج عليه أو أن يرفضه رفضا تاما، كما فعل بعض غلاة الرمزيين والسرياليين من دعاة العصرية المطلقة في النصف الثاني من القرن الماضي وأوائل هذا القرن، أو قبل منه شيئا ورفض شيئا آخر، فهو على كل حال يريد أن يتجاوزه أو يغير النظرة إليه، ولكننا نحن القراء العاديين أميل إلى المحافظة أو قل إلى التعود، ولذلك يشق علينا أن نحسن الظن بمن يثور على التراث، ونتصور أنه يثور علينا، ونسارع إلى وصفه بالغموض والإغراب. ولو تذكرنا أن الثورة على التراث لا تعني معاداته ولا البصق عليه، بقدر ما تدل على الارتباط العميق به، ومحاولة إثرائه بتجارب وأبعاد جديدة، فربما يزول سبب من أهم أسباب الغموض الذي نتصوره في الشعر الجديد. وقد نستطيع أن نضيف سببا آخر، وهو أن الشاعر الجديد، مهما يكن موقفه من التراث المحلي والإنساني، يحيط علما بخفايا هذا التراث، ويتفنن في استغلاله واستلهامه. ونظرة إلى شعر البياتي وأدونيس وصلاح عبد الصبور مثلا، أو إليوت وأزرا باوند وجوتفريد بن، تؤكد أن الشاعر الجديد قد أوغل إلى حد مخيف في معرفته بالتراث الإنساني، مخيف لنا نحن قراءه العاديين كما قلت. فإذا رأيناه يكثر من استخدام الرموز والأساطير والمواقف والأبطال المستمدة من التاريخ القديم والحديث، والشرقي والغربي، وإذا رأينا شاعرا مثل إليوت يتنقل بحرية في آفاق الثقافة العالمية، ويعيد صياغة المواقف والرموز والشخصيات القديمة بما يوائم رؤياه الشعرية والنفسية، وإذا رأينا شاعرا آخر مثل باوند يتطرف في هذا الاتجاه، فيكتب بعض الكلمات والجمل الشعرية بلغاتها ورسمها الأصلي - كالهيروغليفي والصيني - فإننا نصاب كما قلت بالخوف والفزع، لا من معرفة الشاعر بالتراث، بل من جهلنا نحن به. ولعل هذا أيضا أن يكون أحد الأسباب التي تجعلنا نتهم الشعر الحديث بالغموض. (8)

وأخيرا قد يقع ذنب الغموض على الشاعر نفسه لا على قرائه، فهو قد يستخدم الرموز والأساطير استخداما تقريريا مباشرا، دون أن يستوحيها أو يستلهمها، وقد يكدسها بجانب بعضها البعض دون أن ينجح في ربطها بحالته النفسية، أو بسياق القصيدة، أو يعجز عن تناولها التناول الشعري الحق الذي يبعث الحياة فيها، ويربط معناها الخاص بالمعنى الإنساني العام. وقد يفتعل من الاستعارات والمعاني والكلمات ما لا تقتضيه طبيعة الموقف الشعوري الذي يريد أن ينقله إلينا. لذلك لا يصح أن نظلم القراء دائما، ونتهمهم بالجهل والغباء، فكثيرا ما يتحمل الشعراء أنفسهم مسئولية الغموض.

بعد هذه المقدمة التي اهتديت فيها بالكتاب القيم «الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية» للدكتور عز الدين إسماعيل، أنتقل إلى الكلام عن ظاهرة الغموض في الشعر الأوروبي المعاصر بوجه عام، تمهيدا للكلام عنها عند أحد أعلامه.

صفحة غير معروفة