هذا الكلام راجع إلى الحيوان العاقل المكلف، ولايدخل فيه النافر من الحيوان غير المكلف، لعلة نذكرها في مجموع نكت هذا الكتاب وعيونه المستخرجة في غيره، لغرض أفردناه نذكره فيما بعد إن شاء الله، لأن الرغبة في البقاء لاتكون إلا مع كمال النعماء، وهي خلقة الله للعبد حيا لينفعه ، والمنفعة الحسنة إذا قصد فاعلها وجه الإحسان فهي نعمة، منها مايكون لذة أو مؤديا إلى لذة، وربما كان سرورا أو مؤديا إلى سرور، وربما كان دفعا لمضار وغموم أو مؤديا إليها، وربما كان تمكينا من هذه الأمور، وربما كان مصححا لها، فجميع ذلك يدخل في باب النعم، وكذلك الآلات، والقدر، والعقل، تعد نعما؛ لأنها تمكن من النعم، وكذلك يعد التكليف نعمة؛ لأنه يمكن من النعم العظيمة، ولذلك تعد الحياة والشهوة نعمة؛ لأنهما يصححان التنعم، ولذلك يعد المأكول وغيره من المدركات، نعمة لأنها لذة ومتلذذ بها، فجميع أنواع النعم لاتخرج عما ذكرنا، وإنما شرطنا أن تكون منفعة؛ لأن ما خرج عنه لايكون من النعم، لأنه إذا كان قبيحا أو مضرة إذا كان من فعل العباد، والنظر في هذه الأسباب واجب على الجملة.
وإنما قال عليه السلام: إن النظر واجب على الناظر في معرفة الله تعالى، ولو لم يعلم وجوبها عليه قبل أن يفعلها؛ لأنه لو علم وجوبها عليه لكان قد علمها، والعلم بالمعرفة نقيض لماهي معرفة له، فكان يعود الحال في النظر إلى أنه يجب على من قد عرف الله تعالى نقيض سقوط وجوب النظر؛ لأن الغرض بوجوبه أن يوصل به إلى هذه المعرفة بإيجاب النظر.
فإن قيل: أليس من قولكم: إنه تعالى لايجوز أن يكلف فعلا إلا والمكلف يميزه من غيره، وإلا اقتضى التلبيس، وإذا لم يصح ذلك في المعرفة، فهلا قلتم فيها: إنها ضرورة، أو قلتم فيها: إنها واقعة بالطبع، أو قلتم: إن العبد لايقدر عليها، كما قاله من خالفكم في هذا الباب.
صفحة ٣٢