ثم إنهم اجتمعوا وتشاوروا، فاعتزل من بين أربعة آلاف أربعمائة- منهم صاحبه- أنهم لا يخرجون من ذلك المقام وإن ضربهم الملك وقتلهم وقرضهم وحرقهم، وجاءوا بجملتهم، ووقفوا بباب الملك وقالوا: إنا خرجنا من بلداننا، وطفنا مع الملك زمانا وجئنا هذا المقام إلى أن نموت فيه، فإنا قد عقدنا أن لا نخرج من هذا المقام وإن قتلنا وحرقنا.
فقال الملك للوزير: انظر ما شأنهم، يمتنعون عن الخروج معي وأنا أحتاج إليهم ولا أستغني عنهم، وأي حكمة في نزولهم في هذا المقام واختيارهم ذلك؟
فخرج الوزير وجمعهم، وذكر لهم قول الملك، فقالوا للوزير مثل ما قالوا للملك، فقال الوزير: فما الحكمة في ذلك؟
قالوا: اعلم أيها الوزير أن شرف هذا البيت وشرف هذه البلدة بسبب شرف الرجل الذي يخرج يقال له: محمد، إمام الحق، صاحب القضيب والناقة، صاحب التاج والهراوة، صاحب القرآن والقبلة، صاحب اللواء والمنبر، صاحب قول لا إله إلا الله، مولده بمكة، وهجرته إلى ههنا، فطوبى لمن أدركه، وآمن به، وكنا على رجاء أن ندركه أو يدركه أولادنا.
فلما سمع الوزير مقالتهم هم أن يقيم معهم، فلما جاء وقت الرحيل أمر الملك أن يرتحلوا، فقالوا بأجمعهم: لا نرتحل، وقد أخبرنا الوزير بحكمة مقامنا ههنا، فدعا الملك الوزير وقال له: لم لم تخبرني بمقالة القوم؟ فقال: قد عزمت على المقام معهم وخفت ألا تدعني، واعلم أنهم لا يخرجون.
صفحة ٩٩