عام سعيد
كلمة يتبادلها الناس في هذه الأيام ولا يضنون بها إلا على المتشح بأثواب الحداد، فإذا ما قابلوه جمدت البسمة على شفاههم وصافحوه صامتين، كأنما هم يحاولون طلاء وجوههم بلون معنوي قاتم كلون أثوابه.
ما أكثرها عادات تقيدنا في جميع الأحوال فتجعلنا من المهد إلى اللحد عبيدا! نتمرد عليها ثم ننفذ أحكامها مرغمين. ويصح لكل أن يطرح على نفسه هذا السؤال: «أتكون هذه الحياة «حياتي» حقيقة وأنا فيها خاضع لعادات واصطلاحات أسخر بها في خلوتي، ويمجها ذوقي، وينبذها منطقي، ثم أعود فأتمشى على نصوصها أمام البشر؟»
يبتلى امرؤ بفقد عزيز فيعين له الاصطلاح من أثوابه: اللون والقماش والتفصيل والطول والعرض والأزرار، فلا يتبرنط، ولا يتزيا، ولا ينتعل، ولا يتحرك، ولا يبكي إلا بموجب مشيئة بيئته المسجلة في لوائح الحداد الوهمية، كأنما هو قاصر عن إيجاد حداد خاص يظهر فيه - أو لا يظهر - حزنه الصادق المنبثق من أعماق فؤاده.
إذا خرج المحزون من بيته فلا زيارات ولا نزه ولا هو يلتقي بغير الحزانى أمثاله. عليه أن يتحاشى كل مكان لا تخيم عليه رهبة الموت؛ المعابد والمدافن كعبة غدواته وروحاته يتأممها وعلى وجهه علامات اليأس والمرارة.
وأما في داخل منزله فلا استقبالات رسمية، ولا اجتماعات سرور، ولا أحاديث إيناس. الأزهار تختفي حوله وخضرة النبات تذبل على شرفته، وآلات الطرب تفقد فجأة موهبة النطق الموسيقي، حتى البيانو أو الأرغن لا يجوز لمسه إلا للدرس الجدي أو لتوقيع ألحان مدرسية وكنسية، على شريطة أن يكون الموقع وحده لا يحضر مجلسه هذا أحد. أما القرطاس فيمسي مخططا طولا وعرضا بخطوط سوداء يجفل القلب لمرآها.
كانت هذه الاصطلاحات بالأمس على غير ما هي اليوم، وقد لا يبقى منها شيء بعد مرور أعوام، ولكن الناس يتبعونها الآن صاغرين؛ لأن العادة أقوى الأقوياء وأظلم المستبدين.
إن المحزون أحق الناس بالتعزية والسلوى؛ لسمعه يجب أن تهمس الموسيقى بأعذب الألحان، وعليه أن يكثر من التنزه لا لينسى حزنه، فالحزن مهذب لا مثيل له في نفس تحسن استرشاده، وإنما ليذكر أن في الحياة أمورا أخرى غير الحزن والقنوط.
ألا رب قائل يقول إن المحزون من طبعه لا يميل إلى غير الألوان القاتمة والمظاهر الكئيبة، إذن دعوه وشأنه! دعوه يلبس ما يشاء ويفعل ما يختار! دعوا النفس تحرك جناحيها وتقول كلمتها! فللنفس معرفة باللائق والمناسب تفوق بنود اللائحة الاتفاقية حصافة وحكمة.
بل أرى أن أخبار الأفراح التي يطنطن بها الناس كالنواقيس، ومظاهر الحداد التي ينشرونها كالأعلام، إنما هي بقايا همجية قديمة من نوع تلك العادة التي تقضي بحرق المرأة الهندية حية قرب جثة زوجها. وإني لعلى يقين من أنه سيجيء يوم فيه يصير الناس أتم أدبا من أن يقلقوا الآفاق بطبول مواكب الأعراس والجنازات، وأسلم ذوقا من أن يحدثوا الأرض وساكنيها أنه جرى لأحدهم ما يجري لعباد الله أجمعين من ولادة وزواج ووفاة.
صفحة غير معروفة