السانحة الأولى
احرصي على قلبك
ذكرى قلعة بعلبك
قتل النفوس
رسائلنا اليوم وبالأمس
بين الدكتور شميل والكاتب الأمريكي
الأفكار القديمة ومراسل الآنسة مي
إلى حضرة ب. ر.
سلام الله يا مطر عليك
بين الأدب والصحافة
صفحة غير معروفة
موعظة شهر الورود
الحركة بركة
دنا عيد الميلاد ...
عام سعيد
أجوبة الفتيات
وصف غرفة في مكتبة
في محكمة الجنايات «سعادة» ملك اليونان
ماك سويني
زواج الملوك
الشباب والموت
صفحة غير معروفة
عائدة تتذكر ...
حكاية السيدة التي لها حكاية
ساعة مع عيلة غريبة
السانحة الأولى
احرصي على قلبك
ذكرى قلعة بعلبك
قتل النفوس
رسائلنا اليوم وبالأمس
بين الدكتور شميل والكاتب الأمريكي
الأفكار القديمة ومراسل الآنسة مي
صفحة غير معروفة
إلى حضرة ب. ر.
سلام الله يا مطر عليك
بين الأدب والصحافة
موعظة شهر الورود
الحركة بركة
دنا عيد الميلاد ...
عام سعيد
أجوبة الفتيات
وصف غرفة في مكتبة
في محكمة الجنايات «سعادة» ملك اليونان
صفحة غير معروفة
ماك سويني
زواج الملوك
الشباب والموت
عائدة تتذكر ...
حكاية السيدة التي لها حكاية
ساعة مع عيلة غريبة
سوانح فتاة
سوانح فتاة
تأليف
مي زيادة
صفحة غير معروفة
السانحة الأولى
نحن الفتيات أسيرات الأزياء، وعبدات التبرج، ولعب الأهواء، أنكتب نحن فتيات اليوم؟
نعم، صرنا نكتب ليس بمعنى تسويد الصحائف فحسب بل بمعنى الانتباه للشعور قبل التحبير، لقد خبرنا الاختلاء بذواتنا فأقبلنا على تفهم معاني الحياة نتفرس في المشاهد بأبصار جديدة، ونصغي إلى الأصوات بمسامع منتبهة، ونشوق إلى الحرية والاستقلال بقلوب طروبة، ونعبر عن النزعات بأقلام يشفع الإخلاص في ترددها. إن الأمر لكذلك. وجرأتنا هذه لم تبد من اللائي سبقننا، وإقدامنا لم يألفه الرجل من سوانا، والجمهور يرقبنا بنظرة خاصة تائقا إلى تصفح نفس المرأة فيما تصف به ذاتها وليس فيما يرويه عنها الكاتبون.
وما الغرض من ذلك؟
يزعم الجمهور أن رغبته في تذوق إنشاء المرأة لا تعرب عن إكباره لذلك الإنشاء، أو عن إقراره بصدق الفراسة منها، وإنما لأن في كتابتها مظهرا من مظاهر الذات النسائية العامة.
خطوة صالحة نحو تكريم الأدب النسائي، إلا أن فيها من الظلم وغمط الحقوق ما فيها. نحن نحب الحلم، ونطلب التساهل، ونريد أن يستعان في الحكم علينا «بالظروف المخففة» كما يقول سادتنا الحقوقيون. نريد ذلك لأننا مبتدئات. نريده لأننا مبتدئات ولأننا بنات يوم تشرق علينا شمسه، نخلق أنفسنا بأيدينا، ونكتشف الطرق في غابات مهجورة، ونمهد السبل بين الصخور والأدغال لنا وللآتيات بعدنا.
إفساح المجال علينا عسير، فنشكر للحليم تغاضيه عن القصور في عملنا وانتباهه لضآلة وراثتنا في عالم القلم، كما نشكر للناقد الكيس ما يبينه لنا من أغلاط ناتجة عن ضعف الفتاة وقلة اختبارها، ولكنه لا يجوز في شرع العدل والحقيقة أن ترمى جميع أعمالنا بالضعف النسائي وأن يطلق عليها الحكم بلا بحث ومقارنة.
لقد غالى بعض المفكرين، لا سيما بعض الذين أقنعوا نفوسهم بأنهم مفكرون، لقد غالى هؤلاء في فصل المرأة عن النوع الإنساني الذي كادوا يحصرونه في الرجل. والواقع أن كل حمية تهز المرأة إنما تنطلق من النفس الإنسانية الشاملة، وكل نقص يشوبها إنما يرجع إلى العجز البشري الشائع، وكل أثر من آثار ذكائها إنما هو وجه من وجوه الفكر الإنساني العام.
احرصي على قلبك
أرخى الشفق سدوله على الأرض بطيئا
صفحة غير معروفة
ولفقت حواشي السحب بخيوط الذهب والفضة
وتلاشى ما كان يبدو كبحيرات الياقوت وبرك الزمرد حيال عرش الغروب
وغشت الأرض كآبة ربداء
وغشت عينيك كآبة ربداء
أي شمس تغيب فيك، أيتها الفتاة، ولماذا يشجيك المساء
لتغشى عينيك هذه الكآبة الربداء؟
ألا احرصي على قلبك أيتها الفتاة •••
تجلت الشمس في الأوج تحت رواق الفلك
والأشعة تغازل الأزهار وتوسع المياه عناقا وتلوينا
والمنازل تسطع كحجارة كبيرة من نور
صفحة غير معروفة
وانتعشت جميع الأشياء انتعاش من خرج من أزمة وانفرج
أما أنت فتلوبين جائعة عطشى
تقولين ما يجب ألا يقال وتفعلين ما يجب ألا يفعل
ثم تأسفين على القول والفعل وتعودين تلوبين
ووراء الملل والسآمة وهيج فيك واحتدام
أخبريني ما بك أيتها الفتاة؟
لماذا أراك عند نافذتي ترقبين ما ليس بالموجود وتشتافين ما ليس بالبادي؟
وإذا تحولت عنك إلى مرآتي رأيت هناك وجهك مفجعا حزينا؟
أهو أمل غزا نفسك فثقل على فؤاد منك اعتاد القنوط؟
أم قرب تهليل الأمل يأس ينتحب وشعور بالفشل طالما خالط الرجاء؟
صفحة غير معروفة
جميع الأشياء انتعشت انتعاش من خرج من أزمة وانفرج
وأنت أي علة تضنيك فتلوبين وتتأوهين؟
ألا احرصي على قلبك أيتها الفتاة •••
جاء المساء مرة أخرى، جاء المساء وتبعه الليل
وعيناك قرب السراج جامدتان جمود من يتأمل جثة
فأشعر بأن شيئا فيك أمسى جثة
لقد استسلمت لجمال المساء فطعنك المساء بسكين منه سري يقطر دما وظلاما
أخضعت نفسك لسحر الغروب ولم تحرصي على قلبك
أما الآن وقد فرطت به فاحرصي على الجرح المنفتح فيه
احرصي على جرح قلبك أيتها الفتاة
صفحة غير معروفة
ذكرى قلعة بعلبك
كتبت في أواخر سنة 1911
معبد للأسرار قام ولكن
صنعه كان أعظم الأسرار
خليل مطران
تحرك القطار صباحا في محطة بيروت وهو يهدر ويزمجر ويقذف دخانا كثيفا أثقل الهواء وترامى على صفحة الأمواج فعكر صفاءها. وما فتئ زئيره الهائل كزئير الأسود يتردد في جوانب الفضاء حتى كاد الصدى منه ينتهي إلى أخربة بعلبك هامسا «لقد سبقت الآخرين لأهزأ بك، يا أشباح البلى، أهزأ بك في نقمتي على أناس يستخدمونني أنا إحدى آيات الاختراع الحديث ليزوروك، أنت رمال الليالي الغاديات وبقايا الأيام الخوالي.»
وما لبث أن أسرع القطار في سيره ملتويا بين الأشجار، وكأن سخطه هدأ تحت قبلات نسيم الجبال فخف زئيره، وتدرج متسلقا أكتاف لبنان يترك محطة ويمر بأخرى حتى وقف في محطة صوفر، وهي أعلى نقطة فوق وادي حمانا، ذلك الوادي الذي قال فيه لامرتين إنه أجمل أودية العالم القديم. هناك تتطوى التلال كالأقمشة الحريرية وتمتد لمداعبة أطراف الجبال المحاذية، تتناسق بينها دوائر أظلتها الأشجار، وتتخللها القرى ذوات المساكن البيضاء متوجة بالقرميد الأحمر. وهناك، هناك على الشاطئ البعيد، ربضت الآكام كأسود تحمي بحرا بسط لديها زرقته الفسيحة وارتفع عند الأفق كمن يستمد من الجو نعمة ما. هذا وبيروت تستوي على شفة البحر استواء المليكة على عرشها.
ثم أخذ القطار ينحدر إلى سهول البقاع وقد قامت على جانبيها سلسلتا جبال لبنان وانتي لبنان كما تحدق أسوار الدهر بمروج الأبدية. وبعد السير في السهل نحو ثلاث ساعات تراءى لنا في عصارى النهار طيف مدينة «باعال» يحيط بها نطاق سندسي من شجر الفاكهة والحور الرجراج، وتتعالى فوق المنازل منها والحدائق أعمدة هيكل الشمس بقدودها الهيفاء. أعمدة ستة هي كل ما سلم في وسط ذلك التهدم، وكأنها من أبعاد وحشتها تنادي المسافر قائلة: «تعال انظر إلي أي هذا المار، فهل عرفت حزنا أشد من حزني؟»
بقية عظيمة من عظمة بائدة، حيالها أضخم الأشجار أعشاب، ذاك هو شبح الماضي المحاول تخليد الأصنام المعبودة ... وثلوج لبنان التي رأت يوما من مدينة الشمس أبراج العز متعالية في الفضاء، تطل الآن من شاهق «فم الميزاب» و«ظهر القضيب» مستفسرة عن سر هدم المعابد والأبراج.
منذ ألوف الأعوام والثلوج تتراكم على هذه الذرى، فالشمس تشرق ثم تغيب، والصيف يأتي ويذهب الشتاء، وقلعة بعلبك موحشة في عظمتها المحطمة، بينا ثلوج لبنان تطل عليها مستفهمة أي خطب جرى ولكنها لا تفهم. •••
صفحة غير معروفة
تجسم حزني وجثا عند أعتاب القلعة باكيا. ولست أدري أبكي هناك أسفا على أعجوبة الدهور أم اكتئابا لمشهد درجات أوجدتها هناك يد الغريب.
عند مدخل هذا الهيكل الذي ألقت أسسه شعوب شرقية جاء الأجنبي يضع درجات توصله إلى معابد الشرق القديم. مشهد أفعم نفسي غما كأن هذه الحجارة ثقلت علي لأنها دليل تدخل الغربي في قديمنا وجديدنا، وعنوان طمعه في الاستيلاء على بلادنا. وكان أحرى به أن يتركنا وتراب هياكلنا الغالي دون أن تأتي يده عاملة للترميم والإصلاح، ومدنسة ما قدسته دهور البلايا وعززته بلايا الدهور.
دخلت أمشي الهوينى بين أكوام الأخربة وبقايا الأبنية، بين الأعمدة المطروحة على الحضيض كالعمالقة ورءوس الأسود المتعانقة في تهشمها عناقا أبديا، بين آثار شعب لاحق تختلط بآثار شعب سابق، والتراب يتراكم في كل مكان مجتمعا في الأفاريز المرضضة والنقوش المحفرة. مشيت في عالم مشوه من البدائع الفنية دهشة كيف سطا الزمان عليها، كأنها غابة هاجمتها الزوابع فكسرت منها الأشجار، واقتلعت الأصول، وتركت الأغصان ملقاة على حضيض الهواء.
أين من هذه الضخامة والمتانة قصور عصرنا وصروحه؟! إنها لتخال ألاعيب صبيانية شيدت ساعة فراغ ولهو، فيها الحصى تقوم مقام الحجارة والأشبار منها توازي الأميال.
لقد تألبت الشعوب على هذا الهيكل فهاجمت جدران مجده وخربت بديع معالمه. وحول المسيحيون جانبا منه إلى كنيسة فشادوا المذابح على قوائم معابد الأصنام. ثم انقلبت الكنيسة وما يحيط بها قلعة إسلامية حتى فاجأتها الزلازل فتخلجت منها الأسس وانهارت الجدران، ودكت ذلك العز إغارات الطبيعة بعد أن طغت عليه يد الإنسان.
لكن آثار المجد في بعلبك ظاهرة باقية. والنفس العصرية تقف مترددة بين الهزوء والاحترام أمام معابد آلهة خرافية تضحكنا الآن أسماؤها، وتتعاقب عليها مشاعر جمة من خوف وشفقة وإعجاب وسخرية لتتغلب عليها عاطفة تضم في رحابها قوى النفس جميعا، وهي الشعور بعمق السر العظيم، سر البقاء رغم الفناء ...
وهناك على مرتفع هيكل الشمس تقف أعمدة ستة حاملة إفريزا كأنه تاج مكسر تنحني تحته رءوسها على وهدة عزها المتفتت. وما انحناء تلك الأعمدة إلا رثاء وتأبين، بل هو التأبين الوحيد اللائق بهيكل بعلبك ...
وثلوج لبنان التي تجهل أي خطب جرى تنظر من عل إلى حزن الجماد الدهري، وتود أن تفهم علة انهيار الجدران والأعمدة والأبراج، وأنى لها أن تفهم ... •••
ألا كسروا باليأس الأقلام، وأزيلوا المداد عن الطروس (الصحف)، وأسكتوا الشفاه المتكلمة، وألجموا الأيدي عن التحبير والكتابة.
رائحة الأكفان تفوح لدى هذا التهدم الشامل وتتكشف معاني القبور، وينتشر في الهواء عطر المجامر وتعقد غيوم البخور، وتعود الأيادي القديمة إلى نحر تلك الضحايا والقرابين على أنصاب لاشتها يد الدهور.
صفحة غير معروفة
كسروا الأقلام ومزقوا الطروس، إنما هذا موقف لا تأبين فيه بغير حزن الجماد ولوعة النفوس.
أحزن الجماد، لا زلت للأفئدة مفطرا ما طرحت عبر الزمان الجبابرة على حضيض الهوان! ألوعة النفوس، لا زلت لاذعة ما بترت سلسلة الآجال واعتلت حركة القلوب! أآثار الحياة، لا زلت عالية كآمال المنى وسواد العيون ما ذوت الآمال بالمتأمل وما بيض سواد الموت سواد العيون! أأعمدة بعلبك، لا زلت مهشمة، صامتة، منحنية ، كئيبة ما سعى دبيب المنى في زوايا المهج وتمايلت أشباح الآلام والأوجاع طي القلوب والصدور!
إذا هزأ الدهر بهذه الجدران المنيعة، فماذا أنتم من الدهر منتظرون؟ إذا مرت قدم الدهر على هذه المتانة الحصينة فهرستها هرسا، فماذا تعني بعد ذلك حركة قصبتكم الضئيلة ونقش طروسكم البالية؟ أين من المسافة موضعها وما هو من الخلود نصيبها؟
ضموا إلى شفاهكم الأقلام وإلى قلوبكم الطروس، دعوها تنطق يأسا وحبا باسم قلعة بعلبك. ثم حطموها وإن عزت، ومزقوها وإن كانت شطرا من الأرواح.
الزمان يتابع المسير فويلا لتربة تدوسها قدمه! هناك تزلزل الزلازل، وتهدم السدود، وتطغى البحار، وهناك يشعر الإنسان بأنه عبد لحظات الأقدار وأنه لا يعرف من أسرار الأرض غير اسوداد الليل وابيضاض النهار ...
قتل النفوس
أبريل سنة 1913
رأيتها تنظر إلى الأشجار بعينين كئيبتين، وشفتاها مطبقتان كأن قبلة الأسف طبعت عليهما. كانت لي رفيقة في الصغر: تعلمنا شهورا في مدرسة واحدة، ودرسنا أمثولة واحدة، وسمعنا إرشادا واحدا، وكبرنا فكانت تلك العلاقة الواهية متينة بيننا.
قلت: «ما لي أراك حزينة؟»
قالت: «يحزنني الربيع.»
صفحة غير معروفة
قلت: «أخبريني ما بك!»
قالت: «يحزنني الربيع، يحزنني أن أرى مواكبه الجميلة تسير في الفضاء فلا يراه البشر إلا من كوى ضيقة نقبت في الجدران الحديدية التي أقامها المجتمع حول الأرواح. ويحزنني ألا أكون مستقلة بكوتي وأن يكون للآخرين حقوق عليها يفتحونها ويغلقونها كيفما شاءوا لا مثلما أريد.»
قلت: «ماذا يحزنك؟»
قالت: «يحزنني الربيع، تحزنني هذه الأزهار الزرقاء والصفراء والحمراء. إنها تنور على أطراف الأغصان وتبرز جمالها وسط جمال الكون. إنها تستنشق الهواء بكل ما فيها من قابلية وتتمتع بالحياة بكل ما فيها من استعداد، فلماذا قدر على بني الإنسان أن يكونوا دون النبات حرية؟!»
قلت: «قولي لي سبب حزنك.»
قالت: «مسألة تافهة أعادت إلي التأمل في هذا الصباح كما نبهته في قبل الآن. لي شقيقة تقطن الإسكندرية مع زوجها، ولي بها ولها بي ولع عظيم، فنتكاتب مرة في الأسبوع. على أن تمر رسائلها تحت نظر والدي ووالدتي وأخي وأختي وأخي الأصغر حتى تنتهي إلي بالتالي؛ لأنني أحدث أفراد العائلة سنا. ولا يلقى خطابي إليها في صندوق البريد إلا بعد أن يطلع عليه وينتقده ذوي. مع أن مراسلتنا عادية ساذجة، لا أهمية لها إلا بكونها جزءا من حياتنا، وليس لدي من سر أخفيه، ولكني أريد أن أحفظ حقي في أن يكون لدي أسرار. وهذه المعاملة تعذبني منذ شهور لأنها تنم عن ضعف ثقتهم بي وأنا لم أفعل قط ما يستوجب سوء الظن. وصرت أتألم كلما وردت إلي رسالة لأنها تذكرني بأن في بيتنا قلم مراقبة منظما.»
ورفعت رأسها ناظرة إلى الزهرات الفرحة بأنفاس الربيع وأرسلت زفرة عميقة، ثم قالت: «معاملة كهذه تحملني على الشك في صلاحي وكرامتي. وقد يدفعني الغيظ والكبرياء إلى فعل ما لا أفعله لو كان لأهلي بي ثقة. النبات حر فلماذا لا يكون الناس أحرارا؟!»
مسألة تافهة في ذاتها. ولكنها تتكرر بين الوالدين والأبناء فتفضي إلى أحد اثنين: التمرد أو العبودية وكلاهما سيئ، بل العبودية وحدها ممقوتة والتمرد نبيل في الغالب يدل على القوة والحياة. ولكن كثيرا هم الأبناء الذين يجدون ضغط الوالدين على حريتهم أمرا طبيعيا فلا يتألمون؛ لأن نفوسهم عقيمة قاحلة لا ينمو فيها غير الشوك والعوسج.
يتألف التهذيب من أعمال وحركات متتابعة مدة أعوام بين الآباء والأبناء، كما يتركب تمرين الأعضاء من حركات مستطردة يأتيها الفرد في أوقات معينة فتكسبه خفة ورشاقة وانتظاما.
وإن لم يروض المرء أعضاءه ضعفت وأمست ضخمة الشكل بطيئة الحركة، وقد يذهب به الجمود إلى فقد الصحة، فما الخلل الذي نراه الآن في تربيتنا إلا نتيجة جمود الأعضاء المعنوية من نشء الأجيال الماضية؛ ولأننا جميعا عبيد الجهل المقيم والضغط القديم.
صفحة غير معروفة
لماذا تراقب مراسلات الفتيات؟ سمعت عن رجل ينهى شقيقته عن مراسلة صديقة لها؛ خوفا من أن يطلع أخوها على تلك الرسائل، ثم اتصل بي أن ذلك الرجل يظن نفسه حرا أبيا (؟!) يقضي ليله وشقيقته هذه حول طاولة البوكر مع شبان آخرين وفتيات أخريات، ورأيته وإياها يحتسيان الجعة في حانة يتصاعد في جوانبها لهاث السكارى، ورأيته فيما بعد داخلا بها عارية النحر والذراعين إلى المرقص لتنتقل على وفق الإيقاعات الموسيقية من يد رجل إلى يد آخر، فضلا عما يجيزه «تمديننا» الحديث من مداعبة كلامية يسميها الغربيون «فلورت» ويستعملها كثيرون منا دون أن يحاولوا إيجاد اسم لها.
فكيف نوفق بين النقيضين؟ بين التساهل في قبول العادات الأوروبية المتفشية بيننا وبين الاستعباد الشرقي الراكد في مستنقعات نفوسنا؟ إن هذا الخلل في توازن التربية يعذب الشبيبة ويجعلها أليفة الحيرة والتردد جاهلة بهما قيمة الحياة. إنما الحياة في قيمة ننسبها إليها، فكيف نهتدي إلى قيمة الحياة التي لا تبرز إلا للمنتبه المتيقظ الواثق من حريته في القول والعمل، كيف نهتدي إليها في هذا التناقض المبين؛ تناقض الضغط الشديد والتهور المجازف؟ •••
إنما التربية ترمي إلى غاية واحدة هي توسيع دائرة الحياة وتأهيل الفرد للسير بحذق والتصرف باعتدال بين تشعب الشئون مستخرجا وسائل السعادة والفائدة مما يحيط به، فإن لم تكن هذه الغاية نصب عيون الوالدين ولم تثقف الناشئة على مبادئ التهذيب القويم فقدت آمالنا بالمستقبل القريب. وأول قواعد التهذيب معرفة الواجب، وشرط معرفة الواجب الشعور بالحرية.
أقول الحرية وأعنيها، وهي ليست الإباحية كما يزعم كثيرون، والفرق بينهما أن للواحدة حدودا تهدمها الأخرى وتتجاوزها.
على الوالدين أن يقوموا بما عليهم نحو الأبناء ثم فليتركوهم وشأنهم يأتون ما يميلون إليه، والضمير الحي يراقبهم والخلق القويم يحميهم، فإن جاء عملهم بخير كان فيه تعزية وتشجيع على المثابرة والإقدام، وإن جاء بشر كان أمثولة مفيدة ومادة اختبار ينتفع بها في الكوارث والرزايا المالئة سبل العمر.
كل امرئ يحيا حياته وعليه أن يجد طريقه بين متشعب المسالك، وهو مسئول عن كل عمل يأتيه ويتحمل نتائجه؛ إن فائدة وإن أذى، فالفتاة التي اعتادت الانقياد لآراء والديها وعجزت عن إتيان عمل فردي تدفعها إليه إرادتها بالاشتراك مع ضميرها، ما هي إلا عبدة قد تصير في المستقبل «والدة»، ولكنها لا تصير «أما» وإن دعاها أبناؤها بهذا الاسم؛ لأن في «الأمومة» معنى رفيعا يسمو بالمرأة إلى الإشراف على النفوس والأفكار، والعبدة لا تربي إلا عبيدا. ولا خير في رجال ليس لهم من الرجولة غير ما يدعون، إن هم سادوا فعلوا بالقوة الوحشية، وهي مظهر من مظاهر العبودية. أولئك سوف يكونون أبدا أسرى الأهواء وعبيد الصغائر الهابطة بهم إلى حيث لا يعلمون، إلى الفناء المعنوي، إلى الموت في الحياة.
تربيتنا الناقصة جعلتنا نسيء الظن في كل شخص وفي كل أمر. ريح سموم تهب على المجتمع فتصبغ الجو وما يحويه بلون قاتم خبيث. ولو أنصف الناس لحكموا على بعضهم بعدل وصدق فأراحوا واستراحوا. الخير أصل في الحياة وليس الشر شرا إلا لأننا أشرار، ولا ظلام حولنا إلا الظلام المنبثق من شكوكنا وأحزاننا ومطامعنا.
احتياجنا شديد إلى مثل هذه الكلمة «ثقوا بالإنسان!»
أما جاءكم خبر ذلك العالم الألماني الذي كان يدفع إلى ابنته البالغة من العمر 16 سنة رسائلها مختومة، ولما لامه أحد أصدقائه أجاب: «ثقتي بالفطرة النسائية عظيمة. لا أقرأ رسائل ابنتي بل أعرض عليها رسائلي، وعوضا عن أن أشحن دماغها بآرائي ونصائحي التي قد لا تتفق مع ظروف حياتها أسألها رأيها في كل ما يشكل علي من الأمور؛ فالمرأة أوفر من الرجل نبلا؛ لأنها أقرب منه إلى سرائر الأحوال وقلب الأشياء.»
مع هذا الرجل الحكيم أقول: «ثقوا بجوهر المرأة، ثقوا بابنة اليوم تجدوا أبناء الغد أهلا للثقة.»
صفحة غير معروفة
رسائلنا اليوم وبالأمس
1915
بعض الأوامر السلطانية تستوقف نظر الأديب برشيق أسلوبها وبليغ إيجازها، منها الأمر الذي صدر بتعيين صاحب العزة محمود فخري بك
1
أمينا أول لعظمة السلطان. وما دامت سراي عابدين تهتم بأساليب الإنشاء فحق لمحبي الأدب أن يرجوا. ولو كنت رجلا وجاز لي البحث فيما يختص بالرجال لتمنيت لدواوين الحكومة أن تحذو حذو السراي السلطانية فتتوب عن اللغة والأسلوب السقيمين المستعملين في أوامرها ومراسلتها.
أسمعك مزمجرا يا سيدي الرقيب، وقد اقترب قلمك من جملتي هذه يقصد الفتك بها، فأصغ إلي غير مأمور، لا أنت جندي ألماني ولا أنا جندي فرنسوي، ولا هذه الصفحة كنيسة ريمس؛ فكن حليما ولا تحذف منها شيئا. ثم أرجو أن تذكر أني بدأت تلك الجملة بكلمة «لو»، وهل أنت من يخفى عليه قول الفرنسيس بإمكان وضع باريس في زجاجة إذا ما استعملت كلمة «لو»؟ ولا أظنك محتجا على وضع باريس في زجاجة، على شريطة أن تكون الزجاجة غير ألمانية تملأ بالغازات السامة. وإني لموافقة على ذلك. وكل هذا الكلام أقوله لأنسيك شطب تلك الجملة الأثيمة، أنساكها الله! •••
لقد تحسن فن الإنشاء في أيامنا، بالأمس كانوا يكتبون طويلا دون أن يقولوا شيئا؛ إذ لم يكن معظم الرسائل غير استعارات محفوظة وأسجاع مرصوصة، فبعد «غب الشوق» الأصولية كان مراسلك يبعث إليك «بسلام، لو كان ذا أجسام لملأ الأرض بالتمام» دون أن يترك للأرض هامشا! و«بتحيات أزكى من النعامى (أو من «نفس النعامى» لا أدري) بين ورق الخزامى.» كذلك يبدأ الخطاب بالسلام والتحيات والأشواق ويختمه بالأشواق والتحيات والسلام.
أما الآن فأخذنا نكتب لنعبر عن شيء نريد أن يفهمه من نخاطب، فإذا اطلعت على رسالة تيسر لك الحكم على ذوق كاتبها ومعارفه ودرجة تربيته ومكانته الاجتماعية، فأخذ ينطبق علينا مبدأ «الإنشاء هو الشخص».
غير أن أهل الذوق وجدوا في كل آن وزمان. وبينما كان المجموع يملأ صحيفة الرسالة بالمبالغة والإغراق كانت الخاصة تكتب كتابة الإيجاز والبلاغة. كل منا يعرف رسالة المتنبي إلى صديق كان يعوده في مرضه فانقطع عنه بعد الشفاء فكتب إليه المتنبي يقول: «وصلتني - وصلك الله - معتلا، وقطعتني مبلا، فإن رأيت أن تحبب العلة إلي ولا تكدر الصحة علي، فعلت إن شاء الله.»
وتحسب هذه الكلمة من بدائع الإنشاء.
صفحة غير معروفة
لقد كان خاصة العرب أهل ذوق وكفاءة، فأحرى بنا الاحتفاظ بجميل الموروث بينا نثقف أفكارنا وأقلامنا على نافع المكتسب.
بين الدكتور شميل والكاتب الأمريكي
1915
منذ شهرين تقريبا نشر الدكتور شبلي شميل رسالته إلى العالم الألماني هكل، باللغة الفرنساوية، وأردت أن أعرف رأي الأجانب في الرسالة ومؤلفها، فبعثت بها إلى كاتب أمريكاني زار مصر وأحب وادينا حبا جما، وشفعت الرسالة بتفاصيل عن الدكتور وأطواره الغريبة التي تجعل له شخصيتين تكاد الواحدة منهما تناقض الأخرى، وأخبرته أن الدكتور شميل غاضب على الأمريكان؛ لأنهم لا يساعدون الحلفاء على دحر ألمانيا، وأنه يقول عنهم إنهم أنانيون، فجاء الجواب وها أنا أنشره ضاحكة؛ لأنه يهمني كثيرا أن يتخاصم الرجلان وهما على مسافة ستة آلاف ميل بين الواحد والآخر:
قرأت باهتمام ما كتبته عن الدكتور شميل ورسالته إلى هكل، وسأبعث بنسخة من هذه الرسالة إلى المستر روزفلت.
يسرني وجود رجل كالدكتور شميل في الشرق؛ لأن هذا الرجل لازم لهدم الأفكار القديمة التي يتقبلها الناس بلا بحث ولا جدال، كأن ليس لأفكارهم أهمية إلا بقدمها. أفكار يزيد في ثقلها صدأ الأجيال ويحاول حفظها التعصب الذي يحيط بها بقوة ودقة كأنه نسج العنكبوت، فأمثال الدكتور شميل يمزقون خيوط العنكبوت ويبيدون الصدأ وقاعدته دفعة واحدة، ولا بأس من هيجان المجموع لهذه الفوضى، فهياجه ضروري بل لا بد منه. أمثال الدكتور هم العنصر الهادم ما في الجمعيات والأديان من الغلو والإفراط، وهم فاتحو الطريق للذين سيقيمون أسسا جديدة ملائمة لمطالب العصر ومعارفه. والآخرون لا يتمكنون من العمل إلا إذا عمل قبلهم الأولون.
تعجبين لماذا لا يشيد الدكتور شميل أثرا مكان الأثر الذي يهدمه، لكن لا عجب في ذلك؛ اذكري ديكارت تعلمي أن الأمرين لا يطلبان من رجل واحد، فالطبيعة وحدها مدمرة معمرة.
أما ما في أخلاق فيلسوفكم من التناقض فلا بد أنه راجع إلى الوراثة، نام بالظروف. لا بد أن يكون الدكتور عنيف الطبع حاد المزاج، ولهذا الخلق جماله. على أني أحب الخلق الهادئ الذي يترك الآخرين يتخاصمون حتى إذا ما سمع ما يقولونه من الحقائق والخرافات أعرض عن التافه من أقوالهم وتمسك بالصواب، فلا يتحول عنه، بل كلما مرت الأيام زاد به ثقة وحبا.
لا أدري لماذا يقول الدكتور شميل إن الأمريكيين أنانيون. هل عرف حضرته بعض أبناء وطني فحكم على أمة لأجل أفراد، أم هي فكرة تناقلتها الألسن والأقلام فأثرت في فكره؟
ما هي البينات التي تقنعه بأن الأمريكان أكثر أنانية من غيرهم؟ أود أن أسأله إذا حلت على العالم الويلات فمن يسارع إلى المساعدة قبلنا، ومن يفتح قلبه وكيسه قبل أبناء أمريكا؟ كم من الملايين أرسلت إلى الحلفاء في هذه الحرب الطاحنة؟ غذاء بلجيكا وكساؤها يذهبان من وراء البحار وأمريكا ترسل إليها 36 مليونا شهريا. بعض السيدات من أجمل نساء أمريكا تركن أزواجهن وأولادهن وذهبن لمعالجة الجرحى في ميدان القتال. الرجل الأمريكي أحسن زوج في نظر الفتاة الإنجليزية، لا لأنه أناني؛ بل لأنه يحترم المرأة ويعترف بمواهبها العالية ويعاملها المعاملة التي تستحقها رقتها وسمو عواطفها. أعظم المستشفيات في باريس أمريكية وينفق عليها من ثروات أمريكية فردية. قد يرى الدكتور شميل في كل هذا أنانية، ولكنها أنانية كريمة جميلة.
صفحة غير معروفة
العالم الجديد جديد في كل شيء؛ اختباره واعتقاده وعمله وأسلوبه وحريته، ولكن ليس فيه الأنانية التي تظنون.
تضحكين من أمريكا لأنها تبعث باحتياجاتها يمنة ويسرة. وأنا أضحك. صحيح إني لا أريد أن أكون في موقف الدكتور ولسن في هذه الأيام. إن هذا الرجل المسكين لا يدري على أي رجل يرقص بين عشرة ملايين من الأمريكان الألمان المحتجين في أذنه اليمنى، وباقي ملايين الأمة المحتجة في أذنه اليسرى، هذا مع حالة المكسيك الحاضرة التي تكاد تشتعل اشتعالا.
أمريكا رغما عن شعبها الألماني الأصل تجاهر بميلها إلى الحلفاء بلا خوف ولا تردد، لا أعني الحكومة بل الشعب. هناك أمر لا يحتمله أمريكاني حر ربي على فكر الحرية وشرب لبنها كما شربه من قبله آباؤه، وهو مهاجمة بلجيكا وغزوتها. هذا لن نغفره لألمانيا قط.
قولي هذا للدكتور شميل إذا شئت، واسأليه ألا يصدق كل ما يكتبه عنا كتاب فرنسا وإنجلترا، كما أني لا أصدق شيئا مما يكتب عن الشرق والشرقيين. قولي له ذلك واهديه احترامي.
ها أنا قلت ذلك للدكتور وأهديتك احترامه مشفوعا باحترامي، يا سيدي الدكتور. أفعل ذلك مترقبة بعض صواعقك عربية كانت أم فرنجية، فقد أوحشتنا كثيرا نارها العذبة.
الأفكار القديمة ومراسل الآنسة مي
نقلت جريدة «الأخبار» فقرة من هذه الرسالة، فأرسل أحد القراء إلى الجريدة الاعتراض التالي:
مكاتب حضرة الآنسة مي الذي نشرت الأخبار شيئا من كلامه نقلا عن المحروسة. لا نعرف منه سوى أنه «مسرور من وجود مثل الدكتور شميل في الشرق؛ لأن هذا الرجل لازم لهدم الأفكار القديمة التي يتقبلها الناس بلا بحث ولا جدال ... إلخ»، فنهنئ حضرة الدكتور بهذه الحظوة، ولكنا نأخذ على حضرة الكاتب خوضه في مثل هذا الموضوع الخطير بكلام خيالي شعري هو من الإبهام بحيث لا يفيد إلا التضليل وامتهان النفس بأشرف عاطفة فيها.
تدل القرائن على أن حضرة الكاتب يريد «بالأفكار القديمة» العقائد الدينية كالإيمان بإله كامل سرمدي ... إلخ، مثلا مما تخضع له العقول على سموه وعجزها عن فهم كنهه، فمثل هذه الأفكار - على قدميتها - ثابت على أقوى الأسس والبراهين التي طالما احتك بها المتفلسفون وصقلتها الأجيال فلم تزدها إلا إرهاقا.
وإنا - وايم الحق - لنستغرب من الكاتب امتعاضه من تلك «الأفكار» ورميه ذويها بالجهل والتعاسة، وافتتانه بالآراء الحديثة وادعاءه لها أرجحية الثبوت والوضوح. ونحن نرى العلماء يتنازعون فيها ولا يزالون ينقضون اليوم ما بنوا أمس، على حين نراهم هم أنفسهم يزدادون كل يوم تمسكا بتلك الأفكار التي يدعوها حضرة الكاتب قديمة، ويجاهرون مفاخرين بتمسكهم بها كنيوتون وأراجو وباستور وأمبير وغيرهم كثيرون ممن يحسبون أئمة في العلوم.
صفحة غير معروفة
وإنا لندهش من أن مراسل الآنسة مي يحرم نفسه الآن لذة التمتع بمشاهدة ما تتجلى به الأفكار الحديثة من مظاهر الرقي وتهذيب الطباع وتلطيف الهمجية القديمة باستعمال الغازات السامة وطرق القرصنة وأساليب صب البلاء على الأبرياء والضعفاء، فضلا عما أفادت الألمان - وهم أخص مروجيها ودعاتها - من القدرة التي سمت بهم إلى قتل الأسرى والفتك بالأحداث والشيوخ والنساء.
فأحرى بالكاتب الغيور أن يذهب إلى ميادين القتال هناك ويساعد الألمان في هدم معاهد تلك الأفكار القديمة ومعاقل تلك المعتقدات الدينية التي أثقلها صدى الأجيال كريمس وشقيقاتها. ولا يخفى أن المجال هناك رحب لغيرته، فهذه «الأفكار القديمة» تتجلى الآن بأبهى مظاهرها في فرنسا في الخنادق والمعابد والمعاهد والمعسكرات؛ حيث تقام الشعائر الدينية ويجهر الجميع بالصلاة. ولم يفت أصدقاء الكاتب في مصر الوقوف على شيء من مظاهر هذه الأفكار في وفاة ومشهد الجندي لروى ومن كلام الكولونيل موكور الذي أبنه بألطف كلام وسكب على جراح ذويه بلسم التعزية بذكر وفاته المسيحية متزودا الأسرار المقدسة.
ويحسن في هذا الصدد أن نذكر ما نقل عن العلامة الإفرنسي الشهير إميل أماجات الذي خسرته العلوم ونعتته فرنسا إلى العالم حديثا، وهو أحد أعضاء الجمعية العلمية في باريس والجمعية الملكية في لندن، له المباحث الخطيرة والاكتشافات النافعة في كثير من فروع العلوم الطبيعية، فهذا الفقيد لما اشتدت عليه وطأة المرض استدعى الكاهن وقال له: «طلبتك لتؤهلني للحضور أمام الله. أموت مؤمنا بكل ما تعتقد به الكنيسة الكاثوليكية ... قد كان لي ديني راية، يعلم الله أني ما دنستها بما يشين لأجل مجد أو مقام.»
أفلا يخجل حضرة الكاتب من امتهانه الأفكار القديمة والعقائد الدينية ورميه بالجهل الناس الذين يقبلونها بلا بحث ولا جدال. وهو يرى أمثال إميل أماجات متمسكين بها منتمين بكل افتخار إلى الكنيسة التي تعلمها؟
ب. ر.
إلى حضرة ب. ر.
1915
أشكر لحضرة معترض جريدة «الأخبار» اهتمامه بما نقلت عن الكاتب الأمريكي. وما كنت لأزعجه بجوابي هذا لولا أني شعرت في رده بشيء من سوء التفاهم بيننا؛ فإما أن تكون «الأخبار» نسيت سهوا نقل الجملة كما هي فأستأذنها بالإشارة إلى ذلك. وإما أن أكون أسأت التعريب - وهذا هو الأصح - فوجب علي الإصلاح قدر المستطاع.
لست بمناقشة؛ لأني يوم عربت رسالة الكاتب الأجنبي لم أكن ناشرة إلا رأيه دون رأيي، ولا أنا بمعترضة على قول حضرة ب. ر أن الكاتب أخطأ إذ خاض في الموضوع «بكلام خيالي شعري»؛ أولا: لأن الرجل ليس شاعرا. ثانيا: لأني أضطر آنئذ أن أذكر حضرة ب. ر أن التوراة والإنجيل الشريفين مكتوبان بأسلوب شعري خيالي، ففي التوراة يفيض الشعر فيضانا جميلا من مزامير داود إلى نشيد سليمان، إلى سفر أيوب، إلى نواح أرميا. وأما الإنجيل فمملوء بالرموز والإشارات، كما أنه مملوء بالتعاليم العالية المؤدية إلى الكمال الأسمى. والسيد المسيح نفسه قال إنه يتكلم بالرموز ويضرب الأمثال.
على أني أستأذن حضرته بإلفاته إلى قول الكاتب الأجنبي أن «أمثاله (الدكتور شميل) يهدمون ما في الأديان والجمعيات من الغلو والإفراط.» هذا صريح لا يحتمل تدليلا، فهل «الغلو والإفراط» يعنيان الإيمان بإله أزلي سرمدي؟ كلا، إن هذه الفكرة العظيمة أم العقائد الدينية وغير الدينية جميعا. إنها ملازمة لفكرة الخليقة ملازمة لا تقبل انفصالا. وسواء دعيت تلك العناية المثلى «هو وهي» كما يدعوها الإسرائيليون القدماء، أم الله، أم الطبيعة، فهي هي، وما كان البشر إلا معددين لها الأسماء والألقاب. «وأصدقاء» الكاتب الأجنبي يؤكدون لحضرة ب. ر أن الرجل مؤمن بالله، فلماذا لا يكون «الغلو والإفراط» في التجاء امرأة ضاع منها منديلها مثلا، إلى القديس أنطونيوس تستحلفه بأمه وأبيه أن ينزع منديلها من أيدي الشياطين ويضعه في جيبها مباشرة، وذلك بمقابل بخور بكذا قروش تهديه إليه في الغد؟ ولماذا لا يكون «الغلو والإفراط» في التجاء السيدات المسلمات إلى «الزار» والمشعوذين؟ ولماذا لا يكون «الغلو والإفراط» في حرق المرأة الحية قرب زوجها الميت عند الهنود؟
صفحة غير معروفة
أظن أن مثل هذه الاعتقادات الصبيانية والعادات الفظيعة تستحق نعت «الغلو والإفراط».
بعد خطة الدفاع يتخذ حضرة ب. ر خطة الهجوم، فينتقل دفعة واحدة من الدين إلى الحرب. وأعترف بأن هذا الهجوم الفجائي يدهشني بعض الدهشة، وهو يعلم ألا دخل للدين في حروبنا اليوم. نعم إنهم يفتتحون الحرب باسم الله، وينادونه إلى الأخذ بيدهم، ويملقونه - وهو الرفيع عن كل تملق - قائلين: أنت إلهنا وأنت معنا. حتى إذا ما أفنوا حياة سمح بأن تكون، وهدموا ديارا سمح بأن تشاد، ومزقوا أجسادا وسحقوا قلوبا عادوا إلى كنائسهم ومعابدهم، وجثوا أمام الإله العظيم إله الرحمة والحب والإشفاق، وأنشدوا: «إياك اللهم نعظم»! إن الأديان لتبرأ من فظائع الحروب ولا تجوز إلا الدفاع عن الوطن إذا هاجمه الأعداء. ولكن جميع النفوس لا تفهم الأديان كما هي، بل كل منا يفهم دينه حسب درجة عقله وميول قلبه. ولا يقتصر البشر على الإيمان بالعقائد الدينية الأساسية، بل يتعصبون لاعتقادات أخرى إضافية لم تكن إلا اختراع التعصب والجهل. وكثيرا ما يستفيد رؤساء الشعب والحكومات من هذا التعصب فيشهرون الحروب، ويقودون الشعب المسكين إلى حيث لا أثر للدين، ولا منفعة لغير السياسة.
فإن استعمل الألمان وسواهم العلم وبذلوا كل ما لديهم من معرفة وحيلة في سبيل قهر أعدائهم، فهل هذا يعيب العلم؟ الطب عائد بالخير على الإنسانية، فهل إذا دس طبيب لعليله السم لغرض من الأغراض فسدت منفعة الطب ووجب علينا أن نحسبه من حيث طبيعته شرا؟ هذا العلم الذي هو آلة شر وفناء في يد ألمانيا وغيرها الآن كان وما زال آلة خير وحياة في يد ألوف من الأفراد وعشرات من الشعوب؛ لذلك لا يتحتم أن يكون المؤمن جاهلا، فالدين شيء والعلم شيء آخر. الدين مهذب شخصيتنا المعنوية والعلم ضرورة من ضروريات حياتنا. هذا للزمان وذاك للأبدية، وليس لأحدهما أن يلاشي الآخر.
يختم حضرة ب. ر مقاله كمن يتساءل ألا يخجل الكاتب لأنه لا يعتقد اعتقاد إميل أماجات؟ لست أدري، يا سيدي؛ لأني لم أسأله بعد، ولكني أعتقد أن الدين علاقة سرية بين الخالق والمخلوق، أعتقد أن كل امرئ يلاقي نتيجة أفعاله ولا يتحملها عنه أحد، أعتقد أن الله منح البشر حريتهم - اسمح لي أن أذكر الحرية بلهجة غير لاهوتية - فعلى كل أن يرى وجهة الخير أمامه، ويعبد ربه ويخدمه كيفما شاء، ما دام الله سامحا بذلك، لماذا لا يسمح به الناس؟
أما الدكتور شميل الذي تفضلت وهنأته «بهذه الحظوة»، فلست أعرف كيف تقبلها، وإذا كان إعجاب رجل أجنبي أو شرقي يهمه كثيرا. ولكني أعرف أن اسمه من الأسماء التي سيفتخر بها الشرقيون دواما، سواء أكانوا مؤمنين أو ملحدين. لم يكتب ضد الدين أحد أكثر من فولتير، ورغم ذلك فمقامه الأدبي محفوظ حتى لدى المتدينين، ويفاخر أبناء فرنسا بأن ينعتوا لغتهم باسمه فيقولون عنها «لغة فولتير».
سلام الله يا مطر عليك
1916
قلبت الشطر وغيرت منه المعنى لأنصفك، يا مطر الجو، وأثأر لك من الشاعر العربي. وسواء أعناك في شعره أم عنى رسولا اسمه «مطر»، أم جعل الكلمة الواحدة في الشطرين تعنيك مرة وتعني الرسول أخرى، فأنت يا مطر الغيوم مظلوم. وما أظلم الشعراء يوم لا يرحمون!
وما ذنبك أنت المنفعل وإن خلناك فاعلا، ما ذنبك إذا امتصتك الشمس من البحر بخارا، وعقدتك في الجو سحابا، ثم تفجرت السحب وتدفقت سيولا تروي السنابل والأشجار، وتذبل الأنبتة والأزهار حينا في انتظار ربيع يحبوها من جديد بنضرة الشباب وسحر الحياة؟
وما ذنبك إذا أبطأ الرسول مطر في رسالته، فلعل له في طريقه ليلى تحدثه؟ وما ذنبك أن لم يعد مطر الرسول إلى الشاعر بجواب مرضي من ليلاه؟ وهب أنك هطلت قبيل اجتماعهما المنتظر فكنت بينهما حائلا، فما ذنبك؟
صفحة غير معروفة
سخط الشاعر وسبك بالأوزان والأسجاع على نحو ما يكون سباب الشعراء، ولكنه إذا كان شاعرا صميما فما يلبث أن يهدأ سخطه، ويفكر في شعوب جائعة تنتظر منك إرواء غليلها وضمانة قوتها.
ولكن لعل الشاعر كان مصريا فما استطاع أن يرى فيك ما تراه شعوب ليس في ديارها نيل كريم يفيض بدموع الآلهة فيغنيها عن منافعك وأضرارك؟
يحق لبعض المصريين، من جانب آخر، أن يقروا الشاعر القديم في قوله: «وليس عليك يا مطر السلام»، يحق لهم ذلك إذا ما رأوا الأحياء غير الأوروبية في هذه المدينة. والأحياء الأوروبية وغير الأوروبية من الأمور التي تسوسها مصلحة التنظيم. ومصلحة التنظيم - كما تعلم أو كما لا تعلم أيها المطر - دائرة من دوائر الحكومة، فإذا ذكرناها بغير الثناء والتعظيم والتبجيل كان نصيبنا منها نصيبك من شاعر ليلى على الأقل!
بين الأدب والصحافة
1916
تساءل مستر برسي هوايت في إحدى محاضراته الأخيرة بالجامعة المصرية: هل الأدب والصحافة واحد؟ وما لبث أن أجاب نفسه قائلا: «كلا ليسا واحدا. قد تلامس الصحافة الراقية، في بعض موضوعاتها، المعاني الأدبية العالية فتوسم بوسمها وتؤثر تأثيرها، لكن الصحافة، بوجه الإجمال، تختلف عن الأدب من حيث الغرض والمرمى والتأثير.»
بينما كان الأستاذ يبسط رأيه كنت أضاحك نفسي قائلة: قد يكون هذا رأيكم أيها الغربيون، لكن الأمر عندنا على غير ما تذكرون؛ عندنا إذا كتب المرء مقالات قليلة في الزراعة مثلا، حاز دفعة واحدة جميع الألقاب الكتابية المدونة في القاموس فأصبح: كاتبا مجيدا، أديبا أريبا، مفكرا مبتكرا، شاعرا فذا، خطيبا مفوها، سياسيا محنكا، عالما علامة وبحرا فهامة. وإذا أردت معرفة ألقابه الأخرى فعليك «بنجعة الرائد» لليازجي (صفحة 2 الباب السادس من الجزء الثاني).
الأدب فن التعبير عن العواطف والميول والتأثيرات نثرا ونظما، فالشعر فرع من الأدب. والشرط الجوهري للكاتب الأدبي هو أن يكون ذا إحساس قوي يتأثر بجميع الحوادث، فإذا نقص هذا الشرط تلاشى الكاتب الأدبي.
وكيف يؤثر من لا يكون متأثرا! ألا إن الذكاء يتعب، والعلم يعذب، والحرية الفكرية تقلق النفس. ولئن عرفت كيف تضرب على أبواب القلوب سمعت الجواب دوما، تجاوبك الدموع؛ دموع التعزية في الغالب، ودموع الألم أبدا.
أما الصحافة ففي نشر الأخبار السياسية والاجتماعية والعلمية والأدبية، فهي إذن مختلفة عن الأدب كل الاختلاف. إذا احتاج الأديب إلى شعور قوي فلا حاجة للصحافي إلى ذلك، وما عليه سوى نقل الأنباء التلغرافية ونشر الحوادث المحلية، فإذا فعل أجاد وكان عند ربه وعند الناس مرضيا.
صفحة غير معروفة