أنا واللهِ أصُلُحُ للمعَاصي ... إذا أهلُ الذنُوبِ تقَارفوُها
فانظر إلى لطفه في الأخذ، وحسن تأتيه للاتباع والاحتذاء. ثم قلت ولم أجدهم يحمدون إكثار الشاعر من الأتباع، وإكثاره من الأخذ والرق، فإن ذلك منه يدلب على ضيق المجم، على الفقر والاختلال، وعلى قصور الخاطر وبلادة الفكر وجبن القريحة. فأعجب المهلبي بما أوردته، ووكد وصاة من كان نصبه من كتابه لإثبات ما جرى وضبطه وتحصيله واستيفائه. وقال: إنما نأتيكم الفينة بعد الفينة، فإذا أتيناكم فأحسنوا القرى. ونهض مغضبًا، فأمر المهلبي برده فرد مكرها، ول يطل الجلوس ونهض. فلما انصرف أقبل علي المهلبي وقال: أريد أن تفاوضه الكلام في شعر أبي تمام والبحتري، وتلبو ما عنده فيهما.
ومضى أسبوع ولم يستدعه ولم يحضر مبتدئًا، ثم حضر واعتذر من تأخره، وقد كان أبو علي الأنباري جر له حبال الطمع، ووعده عن المهبلي بما كان بعيدًا من الوصول إليه، لسوء رأي المهلبي فيه. فأومأ إلي أن جاره ما وسمت لك مجاراته. فسألته إنشاد كلمته التي أولها:
) وَاحَرُ قَلباهُ ممِنُ قَلبُهُ شَبِمُ ... ومَن بحالي وجسِمي عندَهُ سَقَمُ (
فتلكأ يسيرًا، ثم ابتدأ فأنشدها إلى أن انتهى إلى قوله:
) وَالحَيلُ والليلُ والبَيداء تعَرِفُني ... والحربُ والضربُ والقِرطُاسُ وُالقلمُ (
فاستحسنت الجماعة هذا البيت استحسانًا أفرطت فيه. فلت: إنما أخذه من إماميه. فقال: ومن إماماي اللذان استلحقت شعرهما، وهتكت حريمهما، وأنحيت عليهما، وتناكرت معرفتهما؟ قلت: أبو تمام والبحتري، فأما البحتري فقال:
يا خَليلي بالسواجيرِ من أدُ ... بن معَنٍ وبحُترُِ بنِ عَتُودِ
اطُلبًُا ثالِثًا سوايِ فإنيُ ... رابعُ العِيسِ والدجى والبِيدِ
وأما أبو تمام فقال، وعليه اعتمد البحتري:
العيِسُ والهَمُ والليلُ التُمامُ معًَا ... ثَلاثَةُ أبَدًا يُقُرنُ في قَرَنِ
وأبو تمام احتذى فيه قول الشنفرى:
ولَي دونَكم أهلونَ سيدُِ عملُسُ ... وأرقَطُ زُهلوُلُ وعَرَفاءُ جَيألُ
ثَلاثةُ أصحابٍ فُؤادُ مُشَيُعُ ... وأبيضَ إصُليتُ وصفَراءُ عَيطلُ
وإلى هذين البيتين نظر ذو الرمة في قوله:
ولَيُلٍ كجِلبابِ العَرُوسِ أدرَعتُهُ ... بأربعةٍ والشخصُ في العينِ واحِدُ
أصمُ عِلافيُ وأبيضُ صارمُ ... وأعيسُ مَهُرِيُ وأروَعُ ماجدُ
فقال بعض لحاضرين، وأحسبه الأنباري: ما يشبه الليل من جلباب العروي؛ فأمسكتُ. فقال المهلبي: ما تقول؟ فقلت له: لا يشبه الليل من جلباب العروس شيئًا إلا طوله وسبوغه. فقال المهلبي فما يريد بقوله:
بأرُبَعةٍ والشخصُ في العَينِ واحِدُ
فقلت: إنه يريد أنه نظر إلى هذه الجملة مجتمعة في ظلمة الليل، فتخيلها شخصًا واحدًا. فقرع سمعه من كلامي ما أيقظ حميته وهز للشغب عزيمته وحرك سورته فتمثل بقول الشاعر:
وقد تذُكَرُ الأشياءُ بالشيء بعدَها ... ويرجِعُ للوُدُ العَدُوُ المبُايِنُ
وقال: أما أبو تمامكم هذا الذي يقول:
تجَرُعُ أسى قد أقفَر الجَرَعُ الفَردُ ... ودَعُ حِسيَ عينٍ يحَتلِبُ ماءه الوَجدُ
فأحال أقبح إحالة، واستعار أبع استعارة، بتصييره للعين حسيا، والأحساء توصف بقلة الماء، ومن شأن الدموع أن توصف بالغزارة من ذوي الوجد والصبابة، فكان الجماعة أصاخت إلى هذا القول. فقلت: ليس الأمر على ما تختليه، من أجل أن الحسي الرمل الذي يكون تحته حجر صلب يرد الماء، فشرب الرمل الماء إلى أن ينتهي إلى ذلك الحجر، فإذا احتاجوا إلى الماء احتفروا وأخرجوا شيئًا بعد شيء. هذا قول صاحب " العين " وجماعة من أهل العلم. فاستعار أبو تمام للعين حسيًا، من أجل أن الدموع تخرج شيئًا بعد شيء، وهذه استعارة حقيقة لا استعارة مبالغة. فأمسك هنيهة ثم قال: أبو تمام القائل في هذه القافية:
رَقيقُ حوَاشي الحِلمِ لو أن حِلمَهُ ... بكفَيكَ ما مارَيُتَ في أنهُ بُرُدُ
فهل امتدح أحد فبله أحدًا برقة الحلم، ووصفه بالركانة والثخانة أولى، ألا ترى إلى قول عدي بن الرقاع:
أبَت لكُمُ مَواطنُ طَيباتُ ... وأحلامُ لكُمُ تزِنُ الجبالا
1 / 44