دَعِ المَكارِمَ لا تَرْحَلْ لبُغيَتها ... واقُدْ فإنُكَ أنتَ الطاعمُ الكاسي
وكما قال امرؤ القيس:
ولا مِثلَ يَوْمٍِ في قُذارَنَ ظلِتْهُ ... كأني وأصحابي على قَرْنِ أعْفَراَ
فأخذه المرار وكشفه وقال:
كأنُ قلُوبَ أدلائِهاَ ... مُعَلُقَةُ بقُرُونِ الظُباء
وكما قال المرقش في شبلين:
ما مَرُ يوْمُ إلاُ وعندهما ... لحُم رِجالٍ أوْ يُولغانِ دما
فنظر امرؤ القيس نظرًا فقال:
كأنُ قُلوبَ الطُيرِ رَطبًا ويابسًا ... لدى وكَرِها العُنابُ والحَشَفُ البالي
وذلك أن امرأ القيس ذهب إلى أن العقاب مرزوقة وأن الصيد عندها، إلى هذا ذهب المرقش في وصف اللبوة إلى أنها مرزوقة وإلى أن الفرائس عندها كثيرة. وأنت إذا تأملت الأبيات التي احتجت بها وجدت كثيرًا من المأخوذ فيها مبرزًا على المأخوذ منه، متقدمًا في ميدان البيان، محكومًا فيه للآخذ بالإحسان، أو مساويا له كل المساواة. فمن المساواة قول امرئ القيس:
فلو أنها نَفسُ تَموت سويةٍ ... ولكنها نَفسُ تَساقَطُ أنفسًا
فأخذه عبد بن الطيب، فكشفه ... وأرهفه وساوى فيه من تقدمه فقال:
فما كان قَيسُ هَلكُهُ هُلكَ واحد ... ولكنِهُ بُنيانُ قَومٍ تَهَدَمَا
ونظير هذا قول نابغة الذبياني:
سقَطَ النُصِيفُ ولم تُرِد إسقاطَه ... فتناَولَتُهُ واتقَتنا باليَدِ
فأخذ المعنى أبو حية النميري فأحسن كل الإحسان لزيادة لطيفة زادها في قوله:
فألقتُ قِناعًا دونهُ الشُمسُ واتقتُ ... بأحسَنِ مِوصُولَيِن: كفٍ ومعِصَمِ
فوجبت له المساواة بهذه الزيادة، ولم يعط الفضل على النابغة لتقدم النابغة في الاختراع لهذا المعنى. والزيادة قوله: " دونه الشمس " يريد مثل الشمس، وبقوله: " بأحسن موصولين ". فأما أن يجتلب الشاعر المعنى ويقصر عن استيفائه تقصيرك، ويسيء العبارة عنه إساءتك، ويقع أبدًا دون الأول، فغير محمل له، ولا متسمح فيه، ولا محكوم بالإحسان في شيء منه. ألا ترى إلى قول طرفة:
لعَمرُ إن الموتَ ما أخطأ الفَتى ... لَكَالطوَلِ المرخى وثنِياه في اليدِ
فأخذه الراعي فقصر كل التقصير فيه بقوله:
وأعلَمُ أن الموتَ يا أم عامرٍ ... قَرِينُ محيطُ حبَله من وَرائِيَا
فانظر إلى تفاوت ما بين الكلامين مع سبق المتقدم إلى المعنى. وقال طرفة
فإن كنتُ ماكولًا فكُنُ أنتَ آكلي ... فبعضُ منَايا القومِ أشرفُ من بعض
فأخذه عبد الله بين الحجاج الثعلبي فقال:
فأن كُنتُ مأكولًا فكُنُ أنتَ آكلي ... وإن كنتُ مَذبوحًا فكن أنتَ تذبحُ
فأساء كل الإساءة، وأبدلنا من ذلك المثل السائر واللفظ الفصيح بما برهن عن كلال حده وشح زنده وقال المرار يذكر الظليم:
ذو بُردةٍ خُلتُعلى جؤُشوُشهِ ... سوداءَ جافيَةٍ منَ الغَزلِ
وشقَيقَةٍ بَيضاء غيرِ طَويلةٍ ... عَن رُكبتَيهِ قَليلَةِ الفَضلِ
قوله: " جافية من الغزل " لانتقاش ريشه. وشبه سواد أعاليه وصدره ببردة سوداء قد خلت عليه. وشبه بياض أسافله إلى ركبتيه بشقيقةٍ بيضاء، هو ما شق باثنين، لأن إذا بل ركبتيه انقطع فأخذ هذا الطرماح فاختصر لفظه وأحسن العبارة عنه بقوله:
مجتابُ شَمُلَة بِرُجدٍ لسَراتِه ... وَزَرًا وأسلَمَ ما سواه البُرجُدُ
يقول: ظهره مخطط. وقال النابغة يصف ثورًا وحشيًا وهو من معانيه التي ما سبق إليها
مِن وَحشِ وجَرَةَ مَوشِيُ أكارِعُهُ ... طاوي المصَيرِ كسيَفِ الصيقلِ الفَرِدِ
فأخذه الطرماح وزاد أحسن زيادة، وصار من أجلها أحق بالمعنى بقوله:
يَبدو وتُضمِرُهُ البِلادُ كأنه ... سَيفُ على شرَفٍ يسُلُ ويغُمَدُ
فشبهه في حالي ظهوره وخفائه بالسيف في حالي سله وإغماده، وقد قال بعض العرب:
تاهَتُ عَلُي بأنُ تَمتُ مَحاسِنُها ... خَوُدُ تكلمُ في أعطافها الفِتَنُ
هَمُتُ بإتياننِا حتى إذا نَظَرَتُ ... إلى المرِاةِ نهاها وَجههُا الحسنُ
فأشار أبو نؤاس إلى هذا المعنى إشارة خفية وزاد زيادة لطيفة فقال:
تَطَلعُ في المِرَاةِ فقالَ إيها ... أنا الشمسُ الني لا شكُ فيها
1 / 43