قال: ثم أنه شبه الحلم في رقته بالبرد، ورقة البرد دال على هلهلة نسجه وليس ذلك من أوصافه ولا ممادحه. قال وفي هذه القصيدة يقول:
فلا تحَسبَا هِندًا لها الغدرُ وحَدَها ... سجَيِةُ نَفُسٍ كُلُ غانيةٍ هندُ
وإنما أخذه من قول الأضبط بن قريع السعدي، وكان سيدهم، فرأى منهم حسدًا، فرحل عنه ونزل في آخرين، فرآهم على مثل حالهم فقال: " أينما أذهب ألق سعدًا "، أي الناس مثل قومي في حسدهم ساداتهم. فقلت له: لا دليل على فضل أبي تمام أوضح من أخذه هذا الكلام ونظمه إياه في تلك العبارة السهلة الجزالة البعيدة القرية. فقال: وأبو تمام القائل:
أقولُ لقُرحانٍ من البينِ لم يضُِف ... رَسيسَ الهضوَى بينَ الحَشا والتُرائبِ
ما قرحان البين، أخرس الله لسانه؟ فقلت له: يريد رجلًا لم يقطعه أحبابه ولم يبن عنه ألافه ولا اعتاده هوى ولا تعبد صبره وجد. والأصل في هذه الكلمة أن القرحان الذي لم يجدر وقال جرير:
وكُنتُ مِن زَفَراتِ الُحب قُرحانَا
وفي هذه الكلمة يقول أبو تمام:
ورَكُبُ يُساقُونَ الرُكابَ زُجاجَةً ... منِ السُيرِ لم يقَصِد لها كَفُ قاطبِ
فقد أكلوا منها الغَوارِبَ بالسُرى ... فصارَت لها أشباحُهُمُ كالغَوارِبِ
فقال أبو الطيب: أما البيت الأول فمن قول أبي نؤاس إلى أن تتأمل البيت الثاني:
قَوُمُ تَساَقوا على الكوارِ بَينهُمُ ... كأسَ السُرى فانتشَى المسَقِيُ والساقي
كأنُ أرؤسَهُمُ والسُكرُ يَخفضِهُا ... على المنَاكبِ لم تُغُمَدُ بأعناقِ
وأبو نؤاس أخذه من قول أبي دهبل:
أقولُ والرّكْبُ قد مالتْ عَمائمهمْ ... وقد سقىَ القْوم كأسَ النعسةِ السهرُ
فقلت: وفي هذه القصيدة يقول أبو تمام:
يرَ أقبَحَ الأشْياءِ أوْبةَ آملٍ ... كَسَتْهُ يدُ المأمولِ حُلةَ خائبِ
وأحسنُ من نورٍ يفتّحهُ النّدىَ ... بياضُ العَطايا في سَوادِ المطالبِ
فقال: أما البيت الأول فمأخوذ غارة من قول الأخطل:
رَأينَ بياضًا في سودٍ كأنّهُ ... بياضُ العَطايا في المطالبِ
فقلت له: هذا البيت من اختلافات أحمد بن أبي طاهر تحاملًا على أبي تمام. وإلاّ فمن هذا الذي رواة الشعر، وفي أي قصيدة هو، وفي أي نسخة من نسخ ديوان الأخطل يوجد؟ فقال: وما الذي بعث أحمد بن أبي طاهر على هذا، وأي سبب أوجبه منه؟ فقلت أليس هو القائل:
البْحتريّ إذا فَتَشْتَ نسَبتهُ ... في بحُترٍ في بني ثُعلَِ
كلاهُما يتَظنىّ عندَ نسَبْتهِ ... وقَلبهُ منِ تظَنّيهِ على وَجلِ
ثم قلت: وفي هذه القصيدة يقول أبو تمام:
وقد عَلمِ الأفْشينُ وَهوَ الذي بهِ ... يصانُ رداءُ المُلكِ من كل جاذبِ
بأنكَ لما اسْحنكَك الأمرُ واكتسىَ ... أهابي تسسفى في وُجوهُ النوائبِ
وقلت: هذا المعوز المعجز المطمع الممتنع، القريب البعيد، اسهل الوعر، وأنشدته منها:
فلوْ كانَ يفنى الشعرُ أفنتهُ ما قرَتْ ... حياضكَ منهُ في العصورِ الذّواهبِ
ولكنهُ صوبُ العُقولِ إذا انجَلتْ ... سحائبُ منْهُ أعقبتْ بسحائبِ
فقال أبو الطيب: أما البيت الثاني فمن قول أوس بن حجر:
أقولُ بما صَبّتْ علَيهمْ غَمامتي ... وجهديَ في حَبلِ العشَيرةِ أحطبِ
فقلت: والله لئن كان أخذ كما تزعم، لقد طوى الأخذ، وزاد على المخترع بالمعنى زيارة لطيفة بقوله:) ولكنهّ فيْضُ العقولِ (فقال أبو الطيب: كيف يكون أبو تمام محسنًا في الأخذ وهو القائل:
يقودُ نَواصيهاِ جذيلُ مشارِقٍ ... إذا آبهُ هَمُ عُذَيْقُ مغَاربِ
وقد أخذه من اجزل لفظ وأفضحه لبعض المتقدمين:
وركْبٍ بأبصارِ الكَواكبِ أبصروا ... ضلاَلَ المهاَرى فاهتدوْا بالكواكبِ
يكونونَ إشراقَ المشارِقِ مَرةً ... وأخرى إذا غابوُا غُرُوبَ المغارِبِ
ثم قال: وهو الذي يقول:
لعَمْري لقد حَرّرْتُ يْومَ لقيُتهُ ... لوَ أنّ القَضاء وَحدهُ لم يُبردِ
فقلت له: وهو المبتدئ هذه القصيدة بقوله:
غدَتْ تَستجيرُ الدّمعَ خَوْفَ نوىَ غدِ ... وصارِ قَتادًا عندهاَ كلُ مَرْقدِ
وأنقَدها منْ غَمرتِ المَوْتِ أنهُ ... صُدودُ فراقٍ لا فراقُ تعَمدِ
1 / 45