على مكُثريهمِْ حقُ مَنْ يَعتربهمُ ... وعندَ المقُليّنَ السّماحةُ والبدْلُ
سعىَ بَعدهم قوْمُ لكيْ يُدرِكوهمُ ... فلم يَفعلوا ولم يلاُموا ولم يألُوا
فماَ كانَ منْ خيرٍ أتوهُ فإنماّ ... توَارثَهُ آباءُ آبائهمْ قبْلُ
وهلْ ينْبتُ الخطَي إلاّ وشيُجهُ ... وتُغرَسُ إلاّ في منابتِها النّخْلُ
قال: وهذا من سرّ الكلام وجوهره ثم قال في هذه الكلمة:
فأقسَمتُ جَهدًا بالمحصبِ من مِنيَ ... وما سُحفَتْ فيه المقاديمُ والقَمْلُ
وهذا من أوضع وأرذل لفظ. فقلت: ما فيه مما يستجفى إلاّ قوله) القمل (، وما سوى معنى ذلك فإنما جرى فيه على عادة العرب في أقسامها وزهير القائل:
سواءُ علهِ أيَ حين أتيتْهُ ... أساعَةَ نَحسنٍ تتُقى أمْ بأسْعدُِ
فلوْ كانَ حمدُ يخلدُ المْرْءَ لم يمتْ ... ولكنّ حمَدَ المْرءِ ليس بمخلدِ
فقال: وهذا لفظ شريف انتظم مثلين شرودين سارا شرفًا وغربًا ثم قال فيها:
تقيُ نَقيُ لم يكثرْ غَنيمةً ... بنَكْةِ ذي قربىَ ولا بحقلَّدِ
قال: وكان هذا اللفظ مع جفائه وقلقه لم يجتمع وما تقدم من ذلك اللفظ الجزل في صدر واحد فقلت: إنما جرى الرجل في قوله) بحقلد (، وهو الضيق السيئ الخلق، على لغته ولسانه. من أجل أنها لفظ غريبة وجب أن تنعى عليه إلى مساويه. والمعنى في هذا البيت لطيف؛ وذاك أنه أراد أنه لا يظلم قريبًا ولا وحيدًا ولا ينتهك حقه من غنيمة يشهدها معه استضعافًا له وتسلطًا عليه واستيلاء على نصيبه تكثرًا منه لمنعمه وتوفيرًا لمرباعه. فنفى عنه ما يسف إليه غيره فقال: ومن أبياته السائرة التي لم يسبق إليها ولم ينازع فيها:
فإن الحَقّ مقَطعَةُ ثلاثُ ... يَمينُ أوْ نفارُ أوْ جلاءُ
يريد أن الحقوق إنما تصح بواحدة من هذه الثلاث، إما يمين أو محاكمة أو حجة، قال: وفيها يقول:
تلُجْلجُ مضُغةً فيها أنيضُ ... أصَلتْ فهي تحتَ الكشحَ داءُ
تلجلج: تحركها ولا تزدرها وأنيص: لم ينضج. وأصلت: أروحت. وفرقان ما بين هذا وبين ما تقدم غير خافٍ على من تعلق بالعلم وانتسب إلى أهله. فقلت: لا أعرف متعلقًا على البيت أكثر من استعماله ألفاظًا من اللغة غير وحشية ولا مهجورة. والمعنى على ذلك مستحيل ولا هجين فنا وجها لتعلق عليه مما لا متعلق فيه؟ فقال: وهذا الأعشى، أنسبهم وأهجاهم وأمدحهم، وهو القائل:
كلا أبويكمُ كانَ فَرْعًا دعامةً ... ولكنهمّ زادوا وأصبحت ناقصاَ
تبيتونَ في المشيَ ملاءً بطونكُمْ ... وجاراتكُمْ غرَثىْ يبَتنَ خمائِصاَ
وهذا من أهجى بيت قيل في غير فحش. وهو القائل:
فتىَ لوْ يناُدي الشمّس ألقتْ قناعهاَ ... أو القَمَرَ السّاري لألقَى المقالِداَ
فقال بعض من مضر: ما معنى) ينادي (؟ فقلت: يجلس معها في نادٍ واحد، وهو المجلس. قال: فما معنى) قناعها (؟ فقلت: أراد ضوءها فقال: فما قوله) لألقى المقالدا (؟ فقلت: يريد سلم الحسن إليه وفوضه، كما يقال: ألقيت مقاليدي إلى فلاف، أي فوضت أمري إليه. فقال أبو الطيب كأن الكلم وقوله لم يجتمع في خاطرة واحدة ولا قذفت بهما فكرة، فإنه قال مادحًا علقمة:
وهل تنكرُ الشّمسُ شمسُ النهّر ... والقمرُ الباهرُ الأبَرصُ
ولو كانت لفظة الأبرص في كتاب الله تعالى لكدرت شرب بلاغته ولما أراده الله تعالى ذكره، كنى عنه بأحسن كتابة من قوله جل اسمه) بيَضْاء مِنْ غَيرِْ سوء (وقال أيضًا:
فرَمَيْتُ غَفْلةَ قَبلهِ عن شاتهِ ... فأصبَتْ حبةَ قلبهاِ وطحالهاَ
فقلت: إنه إنما خص الطحال لأنه مقتل. فقال: هب ذاك كذاك، أما لفظة الطحال بعيدة عن ألفاظ المحبين؟ ثم قال: فهؤلاء المبرزون في حلبات الشعر، السابقون إلى حلو القول مره، والذين وقع الإجماع على تقدمهم في ضروبه وفتحهم ما استغلق من أبوابه، ليس منهم إلاّ من قد طن على شعره، ومن أخل بالإحسان مع تناصر إحسانه. والكلام كله لا يجري على سنن واحد، ولا يأتي متناصفًا ولا متكافئًا، ولا بد من سقطة يهفو بها خاطر، وعثرة يزل بها لسان. ومن هذا الذي تناسب كلامه، أو سلم من التتبع شعره؟ وما أنا ببدع منهم، وإذا أنصفت من نفسك ألفيتها محجوجة.
1 / 25