فإن جعلت الراء حرف الروي والهاء صلة، وهو الوجه، فما تصنع بقولك:) إذا ذكَرْتكَ أشْبهُ (اللهم إلا أن تذهب إلى أن تذهب أنه لم يصرع. فأقبل علي وقال: أنصفْ فإن النصفة من شيمك، وأنعم النظر إنعام مثلك ممن تقدمت في العلم قدمه، الإشارة إلى موضعه ولا تسلط الهوى على الرأي من الذي تناسبت مبادهيه، وتشابهت أعجاز شعره وهوادبه؟ ومن ذا الذي برئ من معاب؟ وساء من يتبع ناظمًا كان أو ناثرًا من الشعر كان أو آخرًا وما أنا ببدع منهم. وإذا أنصفت من نفسك، وألقيت رداء الحمية عن كاهلك، ألقيت نفسك في جميع ما عددته من سقطاتي، ونعيته من أبياتي، محجوجًا. لأن من أحسن في الكثير، اغتفرت إساءته في القليل اليسير. هذا امرؤ القيس وهو إمام الشعراء، والفائق لهم أكمام المعاني، وربّ القصب والسبق إلى كل لفظ مهذب، ومعنى مخترع، وتشبيه مخترع مبتكر، قد أحسن في مواضع، وتوسط في مواضع. وأساء في حال، كما أحسن في حال. أليس هو القائل في كلمته البائية:
ألم تَرَ أنّي كلُما جئتُ طارقًا ... وجدتُ بها طيبًا وإن لم تطَيّبِ
فقس هذا بقوله في وصف هذه المرأة:
عَقيلةُ أترابٍ لها لا ذَميمةُ ... ولا ذاتُ خلقٍ إن تأملتَ جأنَبَ
وهو القائل فيها يصف فرسًا:
إذا ما ركبنا قالَ ولْدانُ أهلناَ ... تعَالوْا إلى أن يأتيَ الصيدُ نحطبِ
وهذا نهاية الوصف في الثقة يسبق الفرس وإدراكه ما يطلبه. فقس هذا بقوله في وصف هذا الفرس
فللزّجرِ ألهوُبُ وللساقِ درِةُ ... وللسَوطِ منهُ وَقعُ أخرجَ مُهذبِ
وهو الذي يقول في اللامية يصف عقابًا:
تصَيدُ خزّانَ الأنيْعمِ بالضّحى ... وقد حَجَرتْ منها ثعاَلبُ أورالِ
ثم قال في أثره:
كأنّ قُلوبَ الطّير رَطْبًا ويابسًا ... لدى وكرِها العُنّابُ والحشفُ البالي
فما أبعد ما بين البيتين، وأشد تنافي ما بين الكلامين، وهو الذي يقول:
منِ ذكْرِ ليلىَ وأينَ ليلىَ ... وخيرُ ما رُمتَ ما ينالُ
وهذا من أحسن كلام وأسهله وأجزله، وأشرده مثلًا، وأعذبه نهلًا.
وقال في الأخرى في نحوه:
أمنِ ذكرِ ليلى إذ نأتْك تنوصُ ... فتقصرُ عنها خُطوةً وتبوصُ
تَبوصُ وكم من دونِها من مفَازةٍ ... ومن ارضْ جدبٍ دونها ولصوصُ
فتأمّل تفاوت ما بين الكلامين، وبعد منزلتها في البلاغة. فقلت له: فما في هذا من لعب؟ فقال: لعمري إنه لا عيب فيه، ولكنه ليس كالأول ولا مقاربًا له. فقلت له: على ذاك فلم يحل كما أحلت ولم يخطئ كما أخطأت. فقال: كذاك، وهذا النابغة الذبياني، وقد اعتده قوم أشعر من امرئ القيس، واعتده آخرون تاليًا له، وإلى هذا ذهب يقول في كلمته العينية التي سارت مسير الشمس:
فإنك كالليلِ الذي هوَ مدْركي ... وإن خلتُ أن المنتأى عك واسع
فهذا عين من عيون الشعر الناظرة، وغرة من غروه الشادخة. ثم قال في أثره فسقط دونه سقوطًا تشهد به:
خطاطيفُ حُجنُ في حبالٍ متينةً ... تمدُّ بها أيدٍ إليك نوَازعُ
فقلت: وما في هذا البيت؟ إنما ذهب في هذا إلى أنه في قدرته عليه كالذي في يده خطاطيف معوجة يجذب بها ما شاء جذبه من قليب وغيره. ومن هاهنا أخذ الأول قوله يصف فرسًا:
صَبحتْهُ قَبل أن تلغىَ عصافُره ... مسُتخفيًا صاحبي وغيرهُ الخافي
لا يُوئل الَوحشَ منه أن يلاوذهُ ... كأنهُ معلقُ منها بخطافِ
فقال: ومما سبق إليه النابغة واتبعه الناس فيه قوله:
على أنّ حجْليها وإن قلُتَ أوسعاَ ... صموتانِ من ملئٍ وقِلهِ منِطقِ
ثم قال وأساء وأبعد:
إذا ارتعَشَتْ خافَ الجَبانُ رِعاثهاَ ... ومنَ يَتعَلقْ حيثُ علقَ يفرقِ
لأن هذا دليل على إفراط طول العنق. فقلت له، وأي دليل في لبيت على إفراطه وخروجه عن حدّ الاعتدال المستحسن في مثله. وإنما ذهب إلى أنها عيطاء جيداء، فقد جمعت إلى جيد العنق طول القامة فبعد مهوى قرطها من أجل تمام خلقها وطول عنقها. وارتعثت بقرط فيخاف الجبان من أهلها ومن يلي أمرها من والد ووالدة وحاضنة ضياع رعاثها. فحذف، إذ كان فيما بقي من الكلام دلالة على ما حذف منه. فاستحسنت الجماعة ذلك. ثم قال: هذا زهير ومكانه من الحذق وتصفية الشعر وتهذيب اللفظ المكان المتعالم يقول:
1 / 24