فقلت له: أما ما تخيلت أنك تتبعته على هؤلاء الأربعة الذين هم فرسان الشعر وأمراء الكلام، فقد ظلت الشبه في جمعيه، وأوضحت أنهم على مدرجه الصواب فيه. واحتججت في كل بيت بما لو أرعيته سمعك وصرفت إليه تأملك لعدلت عن بيات الطريق وترهات القول وزخارف الظنون، وعلمت أنه لا مماثلة بين الذي أوردته محتجًا به وبين ما تعلقت به عليك. لكنك تجري شأو الجموح عجبًا بنفسك، ورميًا بهمتك إلى حيث لا مرقى لها. وتضعها بحيث لا تستحق وضعها به وتزنها بالميزان العائل تفخيما لها. وقلت: وقد أخطأت أيضًا في قولك:
) ابْعدْ بعدت بياضًا لا بياض لهُ ... لأنتَ أسَودُ في عينيَ منَ الظُلمِ (
وهو على ما فيه مأخوذ من قول أبي تمام:
لهُ منَظرُ في العينِ أبيضُ ناصعُ ... ولكنهّ في القلبِ أسودُ أسفحُ
فعمدت إلى هذه الألفاظ السليمة الكريمة، فأوردتها في عبارة فاسدة غير مستقيمة وقولك) لأنْتَ أسْودُ (خطأ وإن كانوا قد أنشدوا: فقلت: هذا بيت مولد محدث ليس بحجة. ولكنهم قد انشدوا:
جارِيةُ في رَمضانَ الماضي ... أبيضَ من أخت بني إباضِ
تقطع الحديث بالإيمانِ وذكروا قول طرفة:
أمّا الملُوكُ فأن اليومْ أوْسَخهمْ ... عرضًا وأبيضهمْ سرْبال طباخِ
وهذه شذوذ لا يرخص لمحدث فيها. وقد تأول. وقد تأول قوم لا علم لهم بجوهر الكلام، في بيت المتنبي تأولًا بعيدًا وقيل: أراد لأنت يا أسود في عيني من الظلم. وهذا تأول بعيد. وكيف تقول يا أسود وهو أبيض؟ وكان وجه الكلام إذا أراد هذا، أن يقول: وأنت مع بياضك أسود كأنك من سواد الظلم. ولو ذهب إلى ذلك وأفصح عنه بعبارة مقبولة يقع بها الإفهام ويزول معها اللبس لكان الغرض صحيحًا. لكنه أبهمه وأسره. وقلت له: ومما أخطأت أيضًا في نعته ولفقته من موضعين قولك:
) ضَيفُ ألمّ برأسي غيرَ محتشمِ ... السيفُ أحسنُ فعلًا منه باللَممِ (
فأما التلفيق فقولك) ضيْقُ ألمَ برأسي (وهذا من قول دعبل. على أنك قد غادرت بعض المعنى ولم تستوفه لأنه قال: أحبُ الشَيبَ لماّ قيلَ ضيفُ فسماه ضيفًا. ثم ذكر محته إياه ثم أتبع ذاك بذكر العلة في محبته فقال:
كحبيّ للضيوفِ الناّزلينا
ودعبل أخذه من قول الأول:
ألقىَ عصاهُ وأرْخى من عمامتهِ ... وقال ضيفُ فقلتُ الشيبُ قال أجلْ
وفي قوله) وأرخى من عمامته (معنى لطيف، وهو أنه أراد أنه في أمر سلم لا حرب كما قال الآخر:
أناُ ابن جلاَ وطلاّعُ الثناياَ ... متى أضع العمامةَ تعرفوني
فذكر ذلك لنه لم يضع العمامة في سلم. وقيل بل أراد بقوله) متى أضع العمامة (أي متى أغضب. وأخذت قولك:
) والسيْفُ أحسنُ فعلًا منهُ باللسممِ (
من قول البحتري:
فليَتَ بياضَ السّيف يومْ لفيتيَ ... مكانُ بياض الشّيبِ كان بمفرقي
وأما الخطأ فقولك:) غير محتشم (تريد غير منقبض. وهذا خلاف ما عليه محصلو أهل العلم؛ إذ كانت الحشمة في كلام العرب الغضب. وسمي حشم الرجل حشمًا، لأنهم يغضبون له: فقال: ألم يقل الشاعر:
أخاف تكرارَ قوْلي) كلْ (فأحشُمه ... والصْمتُ ينُزلُه منّي على بخَل
فقلت: هذا بيت مولد محدث ليس بحجة. ولكنهم قد أنشدوا:
لعَمُرك إنَ قرْضَ أبي خبيبٍ ... بطيء النضجِ محشومُ الأكيل
فقيل: معناه مغضب الأكيل لأنه لا يرضيه؛ وقيل: مقبوض الأكيل عن أكله والأول المعتمد. والحشمة مما وضعته العامة غير موضعه. ومما أسقطت أيضًا فيه وأسأت في أخذه:
) الأدبُ المُهذبُ الأصْيدُ الضّرب ... الذكيُ الجعدُ الرئيسُ الهُمام (
فإنّك نسخًا من قول البحتري:
سالمتنيَ الأيامُ لماّ تحرمْتُ ... بظلّ الرئيسِ ذي الإنعامِ
بالأديبِ المهُذب الفاضلِ القمرْ ... الأبيَ الندْبِ الوفيَ الهمامِ
وما ظننتُ أحدًا تجرأ على هذا اجتراءك عليه، فإن أحداث المتأدبين ممن يتعاطى نظم الشعر يترفع عن مثله. ولست أجد أيضًا للجعد مذهبًا في المدح، إذ كان الجعد القصير. قال:
يا ربّ جعَدٍ منهمُ لوْ تدْري، ... يضربُ ضْربَ السبطَِ المقاديمُ
بيضُ جعادُ كأن أعينهمُْ ... يكحلهاُ في الملاحمِ السَدفُ
1 / 26