وقد أظهر الله في هذه الفتنة من رحمته بهذه الأمة وجندها ما فيه عبرة حيث ابتلاهم بما يكفر به من خطاياهم، ويقبل بقلوبهم على ربهم، ويجمع كلمتهم على ولي أمرهم، وينزع الفرقة والاختلاف من بينهم، ويحرك عزماتهم للجهاد في سبيل الله وقتال الخارجين عن شريعة الله. فإن هذه الفتنة التي جرت، وإن كانت مؤلمة للقلوب فما هي إن شاء الله إلا كالدواء الذي يسقاه المريض ليحصل له الشفاء والقوة. وقد كان في النفوس من الكبر والجهل والظلم ما لو حصل معه ما تشتهيه من العز لأعقبها ذلك بلاء عظيما. فرحم الله عباده برحمته التي هو أرحم بها من الوالدة بولدها، وانكشف لعامة المسلمين شرقا وغربا حقيقة حال هؤلاء المفسدين الخارجين عن شريعة الإسلام وإن تكلموا بالشهادتين، وعلم من لم يكن يعلم ما هم عليه من الجهل والظلم والنفاق والتلبيس والبعد عن شرائع الإسلام ومناهجه، وحنت إلى العساكر الإسلامية نفوس كانت معرضة عنهم، ولانت لهم قلوب كانت قاسية عليهم، وأنزل الله عليهم من ملائكته وسكينته ما لم يكن في تلك الفتنة معهم، وطابت نفوس أهل الإيمان ببذل النفوس والأموال للجهاد في سبيل الله، وأعدوا العدة لجهاد عدو الله وعدوهم ، وانتبهوا من سنتهم، واستيقظوا من رقدتهم، وحمدوا الله على ما أنعم به من استعداد السلطان والعسكر للجهاد، وما جمعه من الأموال للإنفاق في سبيل الله. فإن الله فرض على المسلمين الجهاد بالأموال والأنفس. والجهاد واجب على كل مسلم قادر، ومن لم يقدر أن يجاهد بنفسه فعليه أن يجاهد بماله إن كان له مال يتسع لذلك، فإن الله فرض الجهاد بالأموال والأنفس. ومن كنز الأموال عند الحاجة إلى إنفاقها في الجهاد، من الملوك أو الأمراء أو الشيوخ أو العلماء أو التجار أو الصناع أو الجند أو غيرهم، فهو داخل في قوله سبحانه: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون)، خصوصا إن كانت الأموال من أموال بيت المال، أو أموال أخذت بالربا ونحوه، أو لم تؤد زكاتها، ولم تخرج حقوق الله منها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحض المسلمين على الإنفاق في سبيل الله، حتى إنه في غزاة تبوك حضروا وكان المسلمون في حاجة شديدة. فجاء عثمان بن عفان بألف راحلة من ماله في سبيل الله بأحلاسها وأقتابها، وأعوزت خمسين راجلة فكملها بخمسين فرسا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: )ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم(، وذم الله المخلفين عن الغزو في سورة براءة بأقبح الذم حين قال: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم، وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين). وقال: (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم).
فمن ترك الجهاد عذبه الله عذابا أليما بالذل وغيره، ونزع الأمر منه فأعطاه لغيره، فإن هذا الدين لمن ذب عنه.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: )عليكم بالجهاد، فإنه باب من أبواب الله يذهب الله به عن النفوس الهم والغم(. وقال صلى الله عليه وسلم: )لن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة وقتال، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا(.
ومتى جاهدت الأمة عدوها ألف الله بين قلوبها، وإن تركت الجهاد شغل بعضها ببعض.
ومن نعم الله على الأمة أنها قد اجتمعت على ذلك في الشرق والغرب، حتى إن المؤمنين من أهل المشرق قد تحركت قلوبهم انتظارا لجنود الله، وفيهم من نوى أن يخرج مع العدو إذا جمعوا ثم، إما أن يقفز عنهم وإما أن يوقع بهم. والقلوب الساعة محترقة مهتزة لنصر الله ورسوله على القوم المفسدين، حتى إن بالموصل والجزيرة وجبال الأكراد خلقا عظيما مستعدين للجهاد، مرتقبين العساكر سواء تحرك العدو أو لم يتحرك.
صفحة ٢