قلنا : إن الخليل عليه السلام لم يسأل جعل البلد لنفسه ولا جهل ذاته، وإنما سأل جعل الأمن وجعل إقامته للصلاة ، فالأمن والإقامة المسئولان إنما يوجدان بعد ذلك الدعاء لا قبله. فالأمن والإقامة (¬1) هما المجعولان لا البلد وإبراهيم، سلمنا أن الجعل في الآيتين بمعنى التصيير، فالتصيير إنما هو تحويل شيء إلى شيء آخر يقال : صيرت الطين خزفا.
أم تلك العامرية أسفرت (¬2) ليلا فصيرت المساء صباحا (¬3)
أي فحولته بنور وجهها، والتحويل من حالة إلى حالة هو إيجاد غير (¬4) تلك الحالة التي كان عليها المحول وذلك الإيجاد هو الخلق بعينه، وكذا يقال في قوله { وجاعلوه من المرسلين } وقوله تعالى { حسرة في قلوبهم (¬5) } ، وما أشبه ذلك ، فإن سلمت هذا المعنى، وقلت أن الجعل المسند إليه تعالى كله بمعنى الخلق فقد جئت بالإنصاف، وان امتنعت من التسليم ورجعت إلى المكابرة فأتني ببيان يدل على مدعاك ولا تجده أصلا .
فقوله وكذلكم : إشارة إلى استدلاله النقلي المتقدم بيانه .
وقوله إن قلت جعل الله ليس بحجة .. الخ : إشارة إلى ما عارض به صاحب تلك النونية بقوله :
إن كان من إنا جعلناه فما في الجعل ان انصفت من تبيان
قد قال إبراهيم رب اجعل لنا بلدا بفضلك أفضل البلدان
وكذاك فاجعلني مقيم مخلصا حق الصلاة لوجهك المنان
فانظر أكان وقد دعاه لجعله أم لم يكن خلقا من الرحمن
أم لم يكن لما دعاه بمكة واكدح لشأنك قد كدحت لشان
فبأي هذا الجعل قلت بأنه خلق تبارك منزل الفرقان
وقد تقدم جوابه .
وقوله سلمت : أي لزمك ذلك التسليم سواء نطقت به أو سكت. أما إن لم تسلمه فلا خطاب لك لخروجك عن حيز العقلاء .
وقوله يا شاني : أي يا خصمي .
صفحة ١١٣