بسم الله الرحمن الرحيم
صفحة ٣٧
المقدمة ... سبحانك يا من تفرد بالتنزيه ، وتعالى عن النظير (¬1) والشبيه ، واتصف بالكمال الذاتى فلا مكان يحويه ، ولا زمان يوجد فيه ، وجب له الوجود والقدم ، واستحال عليه الفناء والعدم ، قضى على جميع ما سواه بالحدوث وحكم ، ننزهك تنزيه من عرف حق الربوية ، واعترف بالعجز والعبودية ، ونصلي ونسلم علة مهبط وحيك ، ومبلغ أمرك ونهيك ، وعلى من اخترتهم له أصحابا فكانوا له من أعدائه كنفا (¬2) وحجابا على من دعا إلى ما دعوا إليه ، ودرج على ما درجوا عليه ، ما اضمحلت شبهة عن الأذهان ، وما قام ببيان الحق برهان .
أما بعد :
فإن الله تعالى قد من علينا بعقول نفهم بها معاني خطابه ، ونفقه بها أحكام كتابه ، وقد قال عز شأنه وجل (¬3) سلطانه (( ليس كمثله شئ )) (¬4) و (( خالق كل شئ )) (¬5) ، وقد أطبقت الأمة قبل ظهور المخالف ، على أن المراد من الآيتين ظاهرهما ، ثم نقضت المشبهة (¬6) أولاهما، والمعتزلة أخراهما، ونقضت الحنابلة (¬7) في ادعائهم قدم القرآن وعدم خلقه كلتيهما .
صفحة ٣٨
فأما نقضهم للآية الأولى، فلأن القدم مختص به المولى ، وبجعلهم قديما سواه فوصفوا غير الإله بصفة يختص بها الإله، وأما نقضهم للآية الأخرى فلأخراجهم عن الخلق بعض المخلوقات كما ترى، حتى غلا بعضهم في المين (¬1) ،وزعم الجلد والغلافة قديمين .
أما غير الحنابلة ، فقد اتفقوا على خلق ما بين الدفتين، لكن جعلته الأشاعرة (¬2) ترجمانا عن معنى قائم بالذات، زعموا أنه في حقيقة القرآن ، وأن ما بين الدفتين عبارات عنه ، فلزمهم إنكار إنزال القرآن ، ودعوى قديم ثان هو أحد المعاني ، ولما كان مذهب الأصحاب (¬3) - رحمهم الله تعالى - أن صفات الذات هي عين الذات لا غيرها وإن جميع ما عدا الخالق فهو مخلوق ، علمنا يقينا مخالفتهم لما عليه الحنابلة من دعوى قدم القرآن ، ولما عليه الأشعرية من أنه عبارات عن معنى ثان وأنه ليس هو حقيقة القرآن ، فتحصل من مذهبهم ان ما بين الدفتين هو القرآن ، وأنه ليس مع الله قديم ثان لا من الذوات ولامن المعاني ، بهذا صرح المغاربة (¬4) -رحمهم الله تعالى - وبعض المشارقة (¬5) -رضي الله عنهم- وقد قسموا الكلام الإلهي إلى : كلام ذاتي وفعلي . فالذاتي : هو عبارة عن نفي الخرس عنه تعالى ، والفعلي : هو الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن .
صفحة ٣٩
لكن بعض العوام ممن يحجر عليهم الكلام في هذا المقام ، قد اختلط عليهم الكلام بالكلام ، فقرروا البراهين على قدم الكلام الذاتي ، وأدخلوا في حكمه جهلا الكلام الفعلي .
وشنعوا على القول بخلاف ما ذهبوا إليه ، ونظمت في ذلك نونية نسبت إلى ابن النظر - حاشاه عن ذلك - فإن مذهبه (¬1) رحمه الله تعالى معلوم ، حيث نفى الكلام الذاتي رأسا بقوله :
وأما كلام الله فهو كتابه كذلك قال الله للطاهر الشيم (¬2) (¬3)
... وحيث صرح بأن الجعل المسند إلى الله عز وجل خلق كله بقوله :
قال : فالجعل هو الخلق ، أم الجعل شيء غيره فيما ذكر
قلت : جعل الله خلق كله ومن الناس مقال اشتهر (¬4)
... وقد أشار أبو القاسم البرادي (¬5) عند شرحه هذه الأبيات (¬6) إلى إنكار تلك النونية عن هذا الإمام حيث قال ما نصه :
((
صفحة ٤٠
قال المؤلف : فيا سبحان الله العظيم من هذا الرجل - مع حذقه وفضله - كيف نقض هذه القاعدة (¬1) التي وضعها ها هنا ، وجعلها هنا أسا وأصلا يعتمد عليه ، واحتج بها على القدري وناظره بها وتأول إليها قوله تعالى { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة } (¬2) وقال : (( قلت : جعل الله خلق كله )) ثم خالف إلى غيرها في القصيدة النونية أيكون مثله يطرأ (¬3) عليه هذا التناقض ؟ فلعل القصيدة النونيه كتبت عليه ودست في كتابه ، والله أعلم )) .
صفحة ٤١
هذا كلامه هنا ، ولم أقف على شرحه لتلك النونية لتعذر وجوده ، لكن أخبرني شيخنا الهاشمي (¬1) - رحمة الله - وقد وقف عليه بأن هذا الشارح قد أنكر نسبة هذه النونية إلى هذا الإمام من طريق آخر هو اختلاف لهجة نظمها عن لهجة نظمه وقال فيه : (( إنها شعر فصيح لا شعر عالم )) . وساق هنالك مراثي يسدل بها على الفرق بين شعر الشاعر وشعر العالم وشعر الفصيح ، وقد صدرت منا في انكار نسبتها إليه رسائل (¬2) - جعلها الله إلى رضوانه من أعظم الوسائل - ثم أن شيخنا وأخانا سعيد بن حمد الراشدي أسعده الله وحمد صنيعه قد تكفل لنا برد شبهة (¬3) تلك النونية حيث عرضها (¬4) بنونية أخرى - جعل الله بسببها حسنة في الدنيا وحسنة في الأخرى - وقد سماها : (( فيض المنان على من ادعى قدم القرآن )) وقد كنت وعدت بشرحها في غير موضع ، وها أنا شارع في تمام ما به وعدت ومن الله أستمد العون على إتمام ما قصدت وأسأله (¬5) أن يجعله خالصا لوجهه الكريم فهو حسبي ونعم الوكيل .
قال المصنف مستعينا بالبسملة ومتبركا بها :
بداية المنظومة
بسم الله الرحمن الرحيم
1- أنكرت جهلا فطرة القرآن وجعلت كالمولى قديما ثان
... أي جحدت يا هذا الناظم بسبب عدم علمك بالتحقيقات الكلامية خلق القرآن المنزل للإعجاز على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، المنقول عنه تواترا، المتحدى بأقصر سورة منه . وسميت قديما غيرنا صرنا وخالقنا تعالى، فكان يلزم على قولك هذا، أن يكون مع الله قديم ثان، وهو باطل لما سنأتي به من الأدلة .
صفحة ٤٢
للمخاطب المذكور (¬1) ، فهو ناظم تلك النونية أو لكل مخاطب أنكر خلق القرآن، فالخطاب حينئذ للشمول على حد قوله تعالى { ولو ترى إذ وقفوا على النار } (¬2) ، لأنه لم يرد مخاطبا بعينه .
وجهلا : مفعول لأجله أو مصدر ، وقع موقع الحال على حد خرج زيد بغتة ، والجهل نوعان : بسيط ومركب ، فالبسيط : عدم العلم بالشيء مما من شأنه العلم به (¬3) .والمركب : اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه، وعليه قول القائل :
ومن عجب الأيام أنك جاهل وأنك لا تدري بأنك لا تدري (¬4)
... وفطرة القرآن : خلقه ومنه قوله تعالى { فاطر السموات والأرض } (¬5) ، والقرآن هو النظم المنزل على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، المنقول عنه تواترا ، المتحدى بأقصر سورة منه ، وفي حكمه التوراة والإنجيل والزبور والصحف ، بل وجميع الكتب السماوية ، لاشتراكها في موجب الخلق ، وهو كونها كلاما فعليا له تعالى .
صفحة ٤٣
وسمي القرآن قرآنا، لاقتران سوره بعضها ببعض . وقيل : لاقترانه بالحكمة ، وسمي فرقانا ، قال أبو عبيدة (¬1) : لأنه يفرق بين الحق والباطل ، والمؤمن الكافر ، وقال ابن عباس : لأنه مخرج من الشبهات .
وقد اشتمل القرآن القرآن على تسعة أشياء ، جمعها بعضهم بقوله :
ألا إنما القرآن تسعة أحرف سأنبيكها في بيت شعر بلا خلل
حلال حرام محكم متشابه بشير نذير قصة عظة مثل
وجعلت : أي سميت - على حد قوله تعالى - { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } (¬2) أي سموهم إناثا ز
كالمولى : أي مثل تسميتك للمولى ، أي الناصر لأوليائه والمراد به الرب (¬3) عز وجل .
وقديما : مفعول لجعلت التي هي بمعنى سميت، والقديم هو مالا أول له، فيختص بالمولى - عز وجل - ووصف غيره به كفر بين، لما فيه من القول بتعدد القدماء، محال عقلا لما سيأتي . فجعل القرآن قديما محال عقلا، فهو من أقوم البراهين على خلق القرآن ، فلذا جعلها المصنف له أساسا لأنها تبطل نقيض مذهبه رأسا .
قضية خلق القرآن عند المشارقة
صفحة ٤٤
فتذكروا في القرآن ، فقال محمد بن محبوب (¬2) : أنا أقول أن القرآن مخلوق . فغضب محمد بن هاشم (¬3) وقال : أنا أخرج من عمان ولا أقيم بها ، فظن محمد بن محبوب أنه إنما يعرض به فقال : بل أنا أولى بالخروج من عمان لأني فيها غريب ، فخرج محمد بن هاشم من البيت وهو يقول : ليت أني مت قبل اليوم ، ثم تفرقوا ، ثم اجتمعوا بعد ذلك ، فرجع محمد بن محبوب عن قوله ، واجتمع قولهم على أن الله خلق كل شيء ، وما سوى الله مخلوق. وأن القرآن كلام الله وكتابه ووحيه وتنزيله على محمد - صلى الله عليه وسلم - .
صفحة ٤٥
وأنت خبير بأن هذا لم يكن رجوعا من ابن محبوب عن القول بخلق القرآن ، بل هو عين ما قال به أولا ، وإنما كان (¬1) التسليم من محمد بن هاشم لقول ابن محبوب حين سلم ، أن الله خالق كل شيء ولا شك أن القرآن شيء (¬2) وحين سلم أن ما سوى الله (¬3) فهو مخلوق .
ولا شك أن القرآن شيء سوى الله أي غيره ، وحين سلم أنه وحي وتنزيل ، ولا شك أن الموصوف بهاتين الصفتين حادث قطعا لما يلزم المتصف بهما أو بشيء منهما من الانتقال من جهة إلى جهة أخرى، والمنتقل حادث قطعا .
أما ما روي عنهم أنهم أمروا بعد ذلك الإمام المهنا (¬4) بالشد (¬5) على من قال بخلق القرآن، فيحتمل أن يكون الآمر هو غير ابن محبوب ، لأن الراوي لم يقل : ((فأمروا جميعا)) (¬6)
وأما ما روي عن محمد بن محبوب - رحمه الله - مما نصه : (( لا يقال أن أسماء الله محدثه، ولكنها لم تزل له ، ولا يقال أنها هي هو ولا هي غيره ولا شيء منه ، لأنه غير محدود ولا يتبعض (¬7) ، تبارك وتعالى )) . ونقول : أن القرآن كلام الله ، ولا نقول : أنه هو ، ولا شئ منه ، ولا مخلوق ولكنه وحيه وكتابه وتنزيله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والقرآن هو من علم الله ، وعلمه لم يزل ، وهو غير محدث ، والقرآن كلام الله ، والله تعالى لم يزل متكلما ، ومن حد صفات الله كمن حد الله .
صفحة ٤٦
ولاية - فلا يقطع ما لم يبرأ (¬1) ممن لا يقول (( القرآن مخلوق )) ، فإذا برئ ممن لا يقول : (( القرآن مخلوق )) برأي برئنا منه بدين . قال الراوي : وهذا القول كان منه بعدما قدم صحار ، وظاهره التوقف عن القول بخلق القرآن ، وعن القول بعدم خلقه ، فيحتمل أن يكون هذا التوقف صدر منه قبل أن يستبين له القول بخلق القرآن ، ثم رجع عنه إلى القول بخلقه ، ويحتمل غير ذلك ، لكن الإحتمال الأول هو الظاهر لقول الراوي ، وهذا كان منه بعدما قدم صحار ، لأن ظاهره يدل أنه قال بهذا الكلام ، عقيب مجيئه إلى صحار . والقول بخلق القرآن صدر منه في دماء بعد أن استقر في عمان ، وكان من أهل البصرة ، وإذا تعارض كلاما إمام ، حمل على أقربهما صوابا ، ونسب إليه منهما ماهو الحق دون ما عداه مما هو في (¬2) حيز الباطل لوجود حسن الظن بالمسلمين ولجحد نسبة الباطل إليهم إلا بصحة شرعية .
صفحة ٤٧
(¬2) كان يقول بأن القرآن مخلوق، فقال أبو مروان : ((كذب من روى هذا عن موسى بن علي، بل موسى بن علي يقول بأن القرآن كلام الله، ولا يقول القرآن مخلوق ، والله أعلم .
وتكذيب أبي مروان لذلك الراوي غير مستقيم، لأن قول موسى : ((القرآن كلام الله)) لا ينافي القول بأنه مخلوق، وقوله عن موسى بأنه لا يقول بأن القرآن مخلوق لا ينافي ما روي عنه أنه مخلوق لاحتمال أنه لم يسمعه يقول إن القرآن مخلوق، فأخبر عن عدم سمعه وسمعه ذلك الراوي فأخبر بما سمع .
جواب الإمام الكدمي عن أسماء الله
صفحة ٤٨
وقد أنصف الإمام أبو سعيد الكدمي (¬1) - رضوان الله عليه - في هذه المسألة ، وأجاد في بيانها حيث قال : وقد سئل عن أسماء الله تعالى - هل هي مخلوقة أم غير مخلوقة ؟ فقد قيل : بأن أسماءه المسمى بها من الألفاظ الملفوظة والحروف الملحوظة المسموعة، التي سمى بها نفسه في كتبه أو وحيه أو سماه بها أحد من خلقه، فلا يستقيم إلا أن تكون محدثة، وأما ما سبق من ذلك من مكنون (¬2) علم الله ، الذي لم يزل عالما به، فلا يقال بأن علمه محدث ولا مخلوق، ولا يجوز أن يكون هو أسماء، ولا يكون ما سواه إلا وهو محدث . فمن خطرت بباله هذه الأسماء التي تذكر وتكتب وينتقل ذكرها من حال إلى حال، فذلك محدث مخلوق . ومن عرف معناها فعليه أن يعلم أن ما سوى الله تبارك وتعالى مخلوق وإذا لم يعرف معنى والمراد به من خاطر ذلك أو ذكرها وعلم أن الله تبارك وتعالى قديم وما سواه محدث من جميع الأشياء وأنه لا يشبهه شيء من جميع الأشياء في ذاته ولا في صفاته ولا اسمائه ولا حكمه ولا قضائه وسعه ذلك . إن شاء الله .
وكذلك القول في القرآن وتنزيله وكتابه وإحداثه من هذه الألفاظ الملفوظة والحروف المكتوبة المسموعة المنظورة، فهي محدثة مخلوقة، وأما ما سبق من علم الله، فلا يقال أن علم الله تبارك وتعالى محدث، كان بعد أن لم يكن . فلا يجوز هذا ونحوه عليه .
صفحة ٤٩
فمن شك فيما لا يسعه (¬1) جهله على ما وصفنا فيما يخرج تنزيلا، قد بلغه علمه فيخرج حدثه في ذلك معنى الشرك، وإن كان متأولا في شكه، وقوله بمثل ذلك، لم يلحقه الشرك . وإن كان شكه في مثل ذلك، وقوله وتأويله فيما لا يسع جهله، كان كفره (¬2) في ذلك كفر نعمة لا كفر شرك، هذا كلامه، وكفى ما به من تصريح على المطلوب . وانظر كيف استدل بالمنتقل وادراك حاستي السمع والبصر على خلق المنتقل والمدرك ولا يشكل عليك قوله . وأما سبق من ذلك في مكنون علم الله الذي لم يزل عالما به فلا يقال بأن علمه محدث ولا مخلوق، فإنه إنما أراد بذلك، أن علم الله - عز وجل - الذي هو صفة ذات له، قديم لا أن هنالك شيئا آخر غير- ما ذكرنا - موصوف بالقدم، وهذا مما لا خلاف فيه ، لكن لما رأى من كثيرين الفرار عن إطلاق الخلق على القرآن لتوهمهم أن هذه العبارة تتمشى إلى القول بأن علم الله الذاتي مخلوق، بين لهم هذا البيان حتى لا تبقى شبهة في الأذهان .
صفحة ٥٠
هذا المعنى ، وهو خلق القرآن ، من الأمور التي تقوم بها حجة العقل ، فشرك من فهم معناها واعتقد خلاف الحق فيها لا بتأويل ، وفسقه عند التمسك بالتأويل ، وهذا لعمر الله عين الصواب الذي لايبقى معه شك ولا ارتياب ، ولا ينافي ما صرح به هذا الإمام ها هنا ما حكاه عقيبه من كم القائل بخلق القرآن حيث حكى فيه ثلاثة أقوال : الولاية والبراءة والوقوف (¬1) ، لأنه إنما حكى أقوالا صدرت عن غيره . نعم كان ينبغى له أن يتعقبها ببيان الحق في أي واحد منهما ، وأبى الله إلا أن يكون عند القائل بولاية القائل بخلقه ، إن لم يكن له حدث آخر يخرجه منها فيعطي حكم حدثه ،والبراءة من القائل بخلقه لأجل قوله بذلك من المحجور (¬2) دينا والباطل يقينا . كيف يبرأ من محق على قوله بالحق ، إن هذا لهو عين الضلال على كل حال . والقول بالوقوف عنه لأجل ذلك - وإن كان أيسر من الذي قبله - فهو عن الحق بعزل : لأن الله - عز وجل - أوجب ولاية المحق على حقه ، فالوقوف عنه لأجل ذلك الحق ترك لما أوجب الله فعله (¬3) .
رأي المحقق الخليلي في صفة الكلام
صفحة ٥١
التحقيق ونهج في هذا الباب منهج التوضيح والتدقيق ، شيخنا المحقق ، وإمامنا المدقق سعيد (¬1) بن خلفان الخليلي - رضوان الله عليه - فنه قد وضح ماأشكل وفصل ما أجمل بقوله : (( والذي عندي أن علم الله تعالى وكلامه القديم الأزلي الذي هو صفة من صفات ذاته، لا يجوز القول بخلقه ، ومن قال بذلك كفر وتجب البراءة منه ، وهذا مما لا يسع الجهل به . وإذا ثبت وجاز في هذا العلم والكلام أن يسمى قرآنا فالقول بخلقه يكون على هذا ، فالقائل به هالك (¬2) . ولا يجوز الاختلاف أبدا في ذلك لكن نفس القول بأن القرآن هو علم الله وكلامه القديم الأزلي الذي هو صفة من صفات ذاته هو الذي تنازعت فيه الأمة واضطربت فيه الأعلام وتصاكت (¬3) عليه الركب ، وعظم فيه الخطر ، إذا لابد من وجود الخطأ في احد القولين قطعا فإن اعتبرته من حيث اللغة والمعنى ،فاللغة تأباه ، اذ لا يطلق اسم القرآن لغة على علمه تعالى الذاتي ، فلا يقال ((قرآن الله )) بمعنى علمه ، ولا يقول ((الله أقرأ )) مكان قولك (( الله اعلم )) ولا قارئ الغيب والشهادة ولا قراء الغيوب في موضع عالم الغيب والشهادة وعلام الغيوب . فصح أن القرآن لغة هو غير العلم الذاتي ولا شك ، واذا لم يجز أن يطلق على العلم الذاتي لانهما بمعنى .
صفحة ٥٢
وما لم يثبت في أحدهما لم يجز على الآخر . وأما اعتباره معنى ، فالقرآن الذي أنزله الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بواسطة الناموس الأعظم روح القدس جبرائيل عليه السلام هو هذا القرآن المتلو عندنا بالألسنة والمسموع بالأذان أصواتا مقطعة بحروف وكلمات مرتلة ، فلا يسع الشك في أنه هو القرآن الذي يجب الإيمان به على من بلغ إليه ، وتقوم به الحجة له وعليه . ومن شك فيه أشرك ، فكيف بمن رده أو أنكره .
وقد اتفقنا نحن والأشعرية على أنه مخلوق وصرح بذلك الشيخ أبو سعيد ومحمد بن محبوب - رحمهما الله - واتفق عليه أصحابنا المغاربة وفاقا للمعتزلة . ولا منكر لذلك فيما قيل ، إلا بعض الحنابلة جهلا منهم بالحق وعنادا ومكابرة بغير دليل . وإذا ثبت أن هذا هو نفس القرآن الذي لايسع الشك فيه ولا الجهل به ، والقول بأن القرآن صفة ذاتية قديمة كما صرحت به الأشاعرة ، يقتضي وجود قرآنين ، يجب الإيمان بهما: أحدهما الموجود عندنا,وهو الذي بعض به الرسول إلينا,وقامت به الحجة علينا,والثاني قران هو عند الله تعالى صفة من صفات ذاته القديمة الأزلية ,وهو عين هذا القران وحقيقته,إلا أن عقول البشر تقصر عنه فلا تبلغ إليه وهما مما اسأثر الله بعلمه ,وهذا غير مسلم لعدم الدليل عليه , ولأن الله لم يدعنا إلى الإيمان به , ولا عن غيره من الرسل في شيء من الكتب السابقة .
صفحة ٥٣
وإذا كان الإيمان بالقرآن حاصلا بدونه وقيام الحجة موجودة بهذا القرآن الذي معنا ، فالقول بأن حقيقة القرآن غيره ، باطل ، لأنه من باب إنكار الحقائق وصرفها إلى أمور متخيلة بغير حجة ، وذلك باطل . وتعلقهم في هذا بأن القول علم الله وكلامه ، إنما هو من باب الإستدلال بألفاظ مشتركة ، فلا حجة بها لأنها متأولة . أنه كلمة الله ، ولقد احتج بها بعض النصارى على أنه غير مخلوق ، لأنه روح الله (¬1) ، وكلمته ألقاها إلى مريم كاستدلال هؤلاء الجماعة على إثبات القرآن صفة ذاتية بأنه كلام الله وليس في ذلك من دليل لجواز أن تكون الإضافة لمعنى الإختصاص له تشريفا - كقولك : ناقة الله وبيته وكلمته وروحه ، متى قيل في القرآن أنه علم الله فالإضافة فيه كذلك ، ومثله قوله :
كالغيث رحمة رب العرش وهو على المسافرين عذاب واصب وبلا
فرحمة الله صفة من صفات ذاته الأزلية القديمة ، فقولنا الغيث رحمة الله لا يراد به أن الغيث صفة من صفات ذات الله تعالى وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - من رحمة الله في قوله تعالى { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } (¬2) وقال : { ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله } (¬3) وليس المعنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو من رحمة الله التي هي صفة من صفات ذاته القديمة الأزلية ، لأنه مخلوق وهي قديمة ، فكذلك علم الله ، إن عبر به عن شئ من معلوماته كالقرآن ، ولقد رأيت في كلام بعض المتصوفة ةقد أنكرت عليه حاله فقال لمن أنكر عليه : (( أنا من علم الله الذي لا تعلمه )) وهو كلام بديع في غاية الحسن ، وليس المراد به انه من علم الله الذي هو من صفات ذاته ، ولكن أراد أنه من معلومات الله التي لا تعلمها أنت يا مخاطب .
صفحة ٥٤
وهذا القدر فيه كاف للبيان ، فالعدل عنه إلى أن القرآن - علم نفسي وصفة قديمة ذاتية بغير سلطان من الله يؤيده وحجة حق من عقل أو نقل تعضده - لا سبيل إليه .
فإن قلت : فإذا لم يكن القرآن صفة ذاتية من صفات الله تعالى ، فكيف الوجه فيه وهو كلام الله ووحيه بلا خلاف يصح فيه . وإذا لم يكن على هذا الوجه ، فكيف تصح نسبته إلى الله تعالى وإنما هو من كلامنا في هذا الإعتبار ، إذا كان المرجع به إلى نفس الأصوات والحروف والكلمات فنسبته إلينا أشبه .
صفحة ٥٥
الجواب : الله أعلم وأنا كثير ما أتجافا (¬1) عن هذه المسألة وأتنكب عن الخوض فيها ، لأن عقول أمثالنا عن إدراك مثل هذه الحقائق قاصرة ، لكن ليس بدعا لو قيل فيها - على سبيل المذاكرة - إنه إذا لم يثبت ما قاله الجماعة في القرآن إنه صفة ذاتية ، فقد رجع القول بالضرورة أنه من صفات أفعاله سبحانه وتعالى وهو الظاهر فيه . وأما القطع فيه بأنه كان في نزوله عنه تعالى على صفة مخوصة معلومة لنا ,فلا سبيل إليه لجواز غيرها ,ومثاله:لو قيل أن الله تعالى خلقه مكتوبا كذلك في اللوح المحفوظ وأمر جبرائيل عليه السلام أن ينزل به على النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبعد ووجب أتكون يكون في التسمية والمعنى كلام الله ,كما أن التوراة هي كلام الله تعالى , وقد أنزلت على موسى_عليه السلام _كذلك ألوحا مكتوبة وفي نسختها من كل شيء , ويؤيد هذا قوله تعالى ((بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ)) (¬2) وقال: ((وإنه في أم الكتاب لدينا لعي حكيم)) (¬3) . ولو قيل أن الله تعالى أحدثه كذلك كلاما أسمعه جبرائيل_ عليه السلام _ كذلك كلاما أسمعه إياه وقولا أحدثه إليه ,وحيا منه بلا واسطة , فهو محتمل . ولو قيل أن الله تعالى ألهمه جبرائيل عليه السلام بالوحي في قلبه بما يعرفه انه عن ربه فينزل به أمره لكان محتملا أيضا . ويؤيده أنه تعالى نسبه إلى جبرائيل في بعض المواضع فقال : ((إنه لقول رسول كريم ذي العرش مكين مطاع ثم أمين )) (¬4) .
صفحة ٥٦