ودليل آخر على حدوثه، إنا رأينا هذه الأشياء التي ذكرناها قد اختصت بطرف الوجود مع جواز طرف العدم عليها، ولا يجوز أن يكون مخصصة لنفسها بطرف الوجود، فاحتاجت إلى مخصص من غير ذاتها، وذلك المخصص هو الفاعل المختار المنفرد بالألوهية، وكل ما كان غيره فاعلا فيه فهو حادث، وكل حادث فهو جائز الوجود ولا يمكن في العقل أن تختص هذه الأشياء بأحد الطرفين الجائزين عليها بغير مخصص ومرجح لأحدهما على الآخر، لأنه إذا كان الطرفان جائزين عليها معا، فلا يجوز أن تختص بأحدهما دون الآخر وإن يرجح أحدهما على الآخر إلا بمخصص ومرجح لذلك الطرف على نقيضه .
وقدم المصنف هذا القسم الذي وهو جائز الوجود على القسم الذي هو واجب الوجود، مع أن واجب الوجود هو أولى بالتقديم لما لا يخفى، لأن هذا هو مقصوده في إقامة برهانه العقلي، فلو قدم القسم الثاني عليه للزم عليه تقديم غير المقصود والسامع متشوق إلى إقامة البرهان الذي وعد به، فلا يحسن فصله بتقديم غيره عليه .
فمعنى قوله ما كان معدوما : أي ما تقدم له سبق عدم سواء أكان موجودا في الحال أو معدوما، وجميع الحادثات قد تقدم لها ذلك السبق، ففيه إشارة إلى أن الكلام الفعلي من جملة الحادثات التي تقدم لها سبق عدم، وما تقدم له سبق عدم فهو غير قديم بضرورة العقل .
وقوله ولكن ممكن إيجاده : فلكن ساكنة والنون مخففة من الثقيلة وهي هنا لمجرد الإبتداء جاء بها لتأكيد الكلام، فأن أصلها التي هي المشددة تكون تارة للإستدراك وأخرى للتأكيد .
وقال قوم : هي للتأكيد دائما وفيها معنى الإستدراك، ولك أن تقول هي للإستدراك المحض والمستدرك هو دفع توهم استحالة الإيجاد، ومعنى ممكن : جائز جوازا عقليا، وهذا هو الإمكان الخاص عند المتكلمين (¬1) والمناطقة، والإمكان العام هو ما يشمل الجائز والواجب العقليين .
والإيجاد : مصدر أوجده إذا أخرجه من العدم إلى الوجود .
صفحة ٩٣