إذا قامت القيامة حطت التكاليف عن الأعناق، ورفعت الأحكام الشرعية؛ سواء كانت متعلقة بالأعمال البدنية الظاهرة، أو الملكات النفسية الباطنة، والقيامة عبارة عن قيام القائم الحق، وأنا القائم الحق، فليعمل عامل ما أراد، فلا حرج بعد اليوم، إذ رفعت التكاليف، وخلصت منها الذمم؛ أي أغلقت أبواب الإنسانية، وفتحت أبواب البهيمية.
وبالجملة: فهؤلاء الدهريون من أهل التأويل؛ أي «الناتوراليسم» من الأجيال السابقة الإسلامية، عملوا على تغيير الأوضاع الإلهية بفنون من الحيل، ودعوا كل كمال إنساني نقصا وكل فضيلة رذيلة، وخيلوا للناس صدق ما يزعمون، ثم تطاولوا على جانب الألوهية، فحلوا عقود الإيمان بها، وبالسفسطة التي سموها تنزيها، ومحوا هذا الاعتقاد الشريف من لوح القلوب، وفي محوه محو سعادة الإنسان في حياته، وسقوطه في هاوية اليأس والشقاء.
فأفسدوا أخلاق الملة الإسلامية شرقا وغربا، وزعزعوا أركان عقائدها، وساعدهم مد الزمان على تلويث النفوس بالأخلاق الرديئة وتجريدها من السجايا الكاملة، التي كان عليها أبناء هذه الملة الشريفة، حتى تبدلت شجاعتهم بالجبن وصلابتهم بالخور، وجرأتهم بالخوف، وصدقهم بالكذب، وأمانتهم بالخيانة، ووقع المسخ في هممهم، فبعد أن كان مرماها مصالح الملة عامة، صارت قاصرة على المنافع الشخصية الخاصة، وعادت رغباتهم لا تخرج عن الشهوات البهيمية، وكان من عاقبة ذلك: أن جماعة من قزم الافرنج، صدعوا أطراف البلاد السورية، وسفكوا فيها دماء آلاف من أهاليها الأبرياء، وخربوا ما أمكنهم أن يخربوا، وثبتوا بها نحو مائتي سنة، والمسلمون في عجز عن مدافعتهم، مع أن الإفرنج كانوا - قبل عروض الوهن لعقائد المسلمين، وطروء الفساد على أخلاقهم - في قلق لا يستقر لهم أمن على حياتهم وهم في بلادهم؛ خوفا من عادية المسلمين. وكذلك قام جماعة من أوباش التتر والمغول مع جنكيزخان، واخترقوا بلاد المسلمين، وهدموا كثيرا من المدن المحمدية، وأهدروا دماء ملايين من الناس، ولم تكن للمسلمين قدرة على دفع هذا البلاء عن بلادهم، مع أن مجال خيولهم في بدء الإسلام - على قلة عددهم - كان ينتهي الى أسوار الصين.
صفحة ٣