لكل عقيدة لوازم وخواص
العقيدة الأولى:
من البين أن لكل عقيدة لوازم وخواص لا تزايلها، فما يلزم الاعتقاد بأن الإنسان أشرف المخلوقات يرفع المعتقد - بحكم الضرورة - عن الخصال البهيمية، واستنكافه عن ملابسة الصفات الحيوانية، ولا ريب أنه كلما قوي هذا الاعتقاد، اشتد به النفور من مخالطة الحيوانات في صفاتها، وكلما اشتد هذا النفور سما بروحه إلى العالم العقلي، وكلما سما عقله أوفى على المدنية، وأخذ منها بأوفر الحظوظ، حتى قد تنتهي به الحال إلى أن يكون واحدا من أهل المدنية، يحيا مع إخوانه الواصلين معه إلى درجته على قواعد المحبة، وأصول العدالة، وتلك نهاية السعادة الإنسانية في الدنيا، وغاية ما يسعى إليه العقلاء والحكماء فيها.
فهذه العقيدة أعظم صارف للإنسان عن مضارعة الحمر الوحشية في معيشتها، والثيران البرية في حالتها، ومضاربة البهائم السائمة، والدواب الهاملة، والهوام الراشحة لا تستطيع دفع مضرة، ولا التقية من عادية، ولا تهتدي طريقا لحفظ حياتها، وتقضي آجالها في دهشة الفزع ووحشة الانفراد.
هذه العقيدة أشد زجرا لأبناء الإنسان من التقاطع المؤدي لافتراس بعضهم بعضا، كما يقع بين الأسود الكاسرة، والوحوش الضارية، والكلاب العاقرة، وأشد مانع يدفع صاحبها عن مشاكلة الحيوانات في خسائس الصفات، وهذه العقيدة أحجى حاد للفكر (¬1) في حركاته، وانجح داع للعقل في استعمال قوته، وأقوى فاعل في تهذيب النفوس وتطهيرها من دنس الرذائل.
إن شئت فارم بنظر العقل إلى قوم لا يعتقدون هذا الاعتقاد، بل يظنون أن الإنسان حيوان، كسائر الحيوانات، ثم تبصر ماذا يصدر عنهم من ضروب الدنايا والرذائل، وإلى أي حد تصل بهم الشرور، وبأي منزلة من الدناءة تكون نفوسهم، وكيف أن السقوط إلى الحيوانية يقف بعقولهم عن الحركات الفكرية.
صفحة ٥