كان الإنسان ظلوما جهولا، وخلق الإنسان هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا... جبل الإنسان على الحرص، وكأنه منهوم لشرب الدماء، لم يحرم الإنسان من لطف مبدعه، فكما أبدعه ألزم الدين وجوده، فتمسك الناس منه بأصول، وانطبعوا به على خصال، توارثها الأبناء عن الآباء في قرون بعد قرون. ومهما غيروا وبدلوا كانت بقايا ما ورثوه لا تزال تشرق على عقولهم بأنوار من المعرفة، يهتدون بها إلى سعادتهم ويقيمون في ضوئها أساس مدنيتهم، ولم يبطل أثرها في تعديل أخلاقهم، وكف أيديهم عن التطاول إلى الشرور والمفاسد، وبهذا كان للأقدمين من أهل القرون الأولى، ما كان لهم من نوع الثبات والبقاء.
وطائفة النيتشرية كلما ظهرت في أمة سعت في قلع تلك الأصول، وإفساد تلك الخصال، حتى إذا لمع لها بارق من النجاح، وهت أركان الامة، وانهارت إلى هوان الاضمحلال والعدم. وهذه الطائفة هي الآن - كما كانت - تسلك منهج أسلافها الأولين، وإنا نوضح ذلك بمجمل من البيان.
ما أفاد الدين من العقائد والخصال
أكسب الدين عقول البشر ثلاث عقائد، وأودع نفوسهم ثلاث خصال، كل منها ركن لوجود الأمم، وعماد لبناء هيئتها الاجتماعية، وأساس محكم لمدنيتها، وفي كل منها سائق يحث الشعوب والقبائل على التقدم لغايات الكمال، والرقي إلى ذرى السعادة، وفي كل واحدة وازع قوي يباعد النفوس عن الشر، ويردعها عن مقارفة الفساد، ويصدها عن مقاربة ما يبيدها ويبددها.
العقيدة الأولى: التصديق بأن الإنسان ملك أرضي، وهو أشرف المخلوقات.
العقيدة الثانية: يقين كل ذي دين بأن أمته أشرف الأمم، وكل مخالف له فعلى ضلال وباطل.
العقيدة الثالثة: جزمه بأن الإنسان إنما ورد هذه الحياة الدنيا؛ لاستحصال كمال يهيئه للعروج إلى عالم أرفع وأوسع من هذا العالم الدنيوي، والانتقال به من دار ضيقة الساحات كثيرة المكروهات، جديرة بأن تسمى «بيت الأحزان وقرار الآلام» إلى دار فسيحة الساحات، خالية من المؤلمات، لا تنقضي سعادتها، ولا تنتهي مدتها.
ولا يغفل العاقل عما يتبع هذه العقائد الثلاث من الآثار الجليلة في الاجتماع البشري، والمنافع الجمة في المدنية الصحيحة، وما يعود منها بالاصلاح على روابط الأمم، وما لكل واحدة من الدخل في بقاء النوع، والميل بأفراده لأن يعيش كل منهم مع الآخر بالمسالمة والموادعة، والأخذ بهمم الأمم للصعود في مراقي الكمال النفسي والعقلي.
صفحة ٤