فلما ذكر الغش مالت نفسي إلى سماع القصة؛ لأن بيع الأرض لم يجر على الطرق المألوفة في مثل هذه الحالات: عجز عن الدفع ثم البيع، فسألته أن يحكي لى القصة من أولها.
فقال: «لما اشترينا الأرض استلفنا من بنك فريد 40 جنيها ندفعها 80 في خمس سنوات كل سنة 16 جنيها، وكنا وقت التيسير ندفع القسط، وكان الكاتب رجلا كلامه حلو لكن قلبه أسود، يرخي لنا الحبل ويطلب منا في مقابل ذلك شيئا من الجبن والزبد، وحصلت بيننا وبينه مودة فلم نطلب منه كتابة إيصالات».
فتجسم في ذهني نوع «الغش» الذي سرقوا به الأرض منه فقلت: «ولم لم تكتب إيصالا؟»
فقال: «والله يا أفندي عمري ما كتبت وظني أن الدنيا سلام وأمان، ولكن بعد ثلاث سنوات جاءني إعلان دعوى بالدفع وفيه أنى متأخر لم أدفع شيئا قط».
قلت: «وماذا قلت في المحكمة؟»
فقال: «أنا عمري ما دخلت محكمة، كنت أظن أن المحكمة واسعة والقاضي رجل شيخ يلبس عمامة كبيرة وأمامه كتاب الله يحلف عليه بالحق، لكن لما دخلت لقيت واحد أفندي شاب صغير، كنت أفتكر في الأول إنه لما يشوفني يشتمني ويقول لي: ليه ما دفعتش يا ابن الكلب؟ زي العساكر ما بتقول للفلاحين، ولكن هو أول ما شافني تلطف وقال لي: يا عم يا بوي. فارتحت ورجع لي نفسي وقلت له: أنا دفعت الأقساط كلها للكاتب فلان. وكان الكاتب جنبي، فسأله القاضي فأنكر وعرض على القاضي أنه يحلف اليمين».
وهنا تجسم في ذهني «غش» آخر وقع فيه هذا المسكين لأن اليمين قاطعة وتمنع السير في التحقيق فقلت: «وهل حلف؟ وهل رضيت أن يحلف؟»
فمد ساقه على العشب ورفع عصاه وقال: «أنا قلت للقاضي: يحلف؟ إن كان يحلف يحلف. هو ودينه ومنه لله. وأمره القاضي أن يحلف فحلف بأسرع من البرق وأنكر كل شىء أخذه مني، وتشمرت أنا وبدأت أبين وأوضح، ولكن القاضي هنا قال لي: اسكت يا شيخ؛ انت قبلت اليمين، القضية انتهت. قلت: قضية ايه يا حضرة القاضي؟ للساعة ابتدينا؟! ولكن كل كلامي كان غير مفيد، حكم علينا بالمبلغ والفوائد ورفضت الخروج ولكن الحاجب جاء وأخرجني».
قلت: «وبعد ذلك؟»
فمسح جبهته كأنه يمحو ذكرى قديمة مؤلمة، وتنهد ثم نظر إلى الأرض وعاد إلى نكتها بعصاه وقال: «عمرك طويل، بعد الحكم الحجز والعمدة يعين الخفراء على المحصول ياكلوه، وارتباك في ذيل ارتباك حتى البيع، واهو عمر ويفوت».
صفحة غير معروفة