المقدمة
أولاد حواء
الطريق من الأرض للسماء
قيمة الحياة
في الأدب الياباني
تاغورى
قصة البحار المصري
في المدينة الخاطئة
مذكرات مكسيم جوركي
قصة الكافر
في أدب الزنوج
لمحة في الأدب الروسي
كيف صار المالك أجيرا
المقدمة
أولاد حواء
الطريق من الأرض للسماء
قيمة الحياة
في الأدب الياباني
تاغورى
قصة البحار المصري
في المدينة الخاطئة
مذكرات مكسيم جوركي
قصة الكافر
في أدب الزنوج
لمحة في الأدب الروسي
كيف صار المالك أجيرا
قصص مختلفة
قصص مختلفة
مجموعة قصص مثالية حديثة لأمم مختلفة
تأليف
سلامة موسي
المقدمة
هذه القصص كنت قد تخيرتها من آداب الأمم المختلفة؛ لكى أجعل منها مثالا طرازيا، وقد جمعتها في هذا السفر مع مقدمات صغيرة إيضاحية، يجد فيها القارئ لذة وفائدة.
والقليل من هذه القصص مؤلف والكثير منها مترجم.
أولاد حواء
للكاتب الإسباني إيبانيز
كانت قدر الرز موضوعة فوق النار، وقد التف حولها الحصادون عند الغروب بعدما انتهوا من شغلهم، وكانوا جالسين في المطبخ والسكوت يشملهم، لا يسمع بينهم سوى صوت الشيخ كورا كولا، وأزيز القدر.
وكان كورا كولا رجلا مسنا نحيفا يحسب الناظر إليه كأن صدره العاري حصير؛ لكثرة ما نبت فيه من الشعر الأشمط.
وكانت النار تسطع على وجوه الحصادين التي لفحتها شمس الجنوب حتى لتظهر كأنها سوداء، وكان سهك العرق يخرج من أجسامهم حاذيا، فيتشبع منه هواء المطبخ، وكانت النجوم تظهر من باب المطبخ واحدة بعد أخرى كلما تقدم الغسق، وكانت غبشة الغسق قد غمرت الأراضي، وكان بعضها قد حصد والبعض لم يحصد بعد، وهبت على الحصادين رياح ساخنة من الأرض الحصيدة، وماجت أغصان الحنطة تحت هفيف نسيم الليل.
فتململ كورا كولا في مقعده يشكو من آلام في عظامه، ثم قال: «ما أشق هذا العيش، ولكن هذا هو الحظ، هذا حظنا لا مفر منه، فإنه لا بد للعالم من أغنياء وفقراء، وعلى الفقير الذي يولد للآلام أن يتعودها، نعم يا أولادي، هل سمعتم قصة حواء وغلطتها، فإنها هي السبب في هذا البلاء الذي نقاسيه الآن».
رأى من الحاضرين قبولا لكلامه، فانساب في حديثه البلنسي يقص عليهم قصة البلية التي أورثتها حواء أم البشر للفقراء.
فإن آدم لما أطاع حواء وطرده الله من الفردوس لعصيانه، خرج إلى العالم مع زوجته، وكان قد حكم عليه الله بأنه لن ينال عيشه إلا من عرق جبينه، فجعل يقطع الأشجار والأثمار ويأتي بها لحواء، وصارت حواء تخيط الملابس لأولادها من ورق التين، ومرت السنون فكثر الأولاد حتى ضاق زرع آدم بهم، وكانت حواء تلد ولدا في كل عام.
وكان يأتي إليهم من عند الله ملك كل عام فيعاينهم، ويكتب تقريرا عنهم ويقدمه لمولاه. وكانت حواء كلما أتى ملك تهش وتبتسم وتتقدم إليه وتقول: «هل أنت من فوق؟ كيف حال الله؟ عندما ترجع إليه اذكر له أني ندمت على عصياني، ما أثمن الرفاهية التي كنا فيها في الجنة! قل له: إن العيش هنا صعب، وإننا في اشتياق لرؤيته حتى نتأكد أنه ليس غاضبا علينا». وكان كل ملك يجيبها بالإيجاب، ثم يصفق بجناحيه ويطير في أسرع من لمح البصر حتى يختفي في السحب.
وتواتر مجيء الملائكة وذهابهم على حواء لغير ما فائدة، فإنه يظهر أن الله كان مشغولا بإدارة الكون، حتى لم يعد له من الوقت متسع لينظر في شئون الأرض، ولكن حدث أنه في صبح أحد الأيام انسل ملك إلى كوخ حواء، وقال لها: «أصغي إلي يا حواء، فإنه ربما أتى الله هذا المساء لزيارتكم إذا كان الجو جميلا، فإني سمعته أمس يحادث ميكائيل ويقول له: «كيف حال هذين الخاطئين؟».
فدهشت حواء من هذه المفاجأة وراحت تجري إلى آدم، وكان كعادته مقوس الظهر يشتغل في زرع قطعة أرض فأخبرته الخبر، وعاد الاثنان إلى الكوخ فكنسا ما أمامه ورشاه بالماء، ونظفا غرفة الجلوس، ولبسا أحسن ثيابهما، ثم جلسا ينتظرا زيارة المولى العظيم، وإذا بصوت مرعب قد نفذ إلى أذن حواء فانتبهت، وكان صوت أبنائها الذين كانوا يبلغون الآن عشرين أو ثلاثين نفسا. ولم تكن قد افتكرت بهم للآن، فكانت عيونهم رمضة، وأنوفهم وسخة ، وأجسادهم قد علتها طبقة من الأقذار، فقالت: «وكيف لي أن أريه هذا القطيع؟ إنه إذا رآهم يحكم عليهم بالإهمال، فإن الرجال عادة لا يعرفون مبلغ التعب الذي تتعبه المرأة مع أولادها».
وبعد أن ترددت طويلا قامت وانتخبت ثلاثة منهم، وغسلتهم، ونظفتهم، ثم طردت الباقين إلى حظيرة الخنازير، وأقفلت عليهم بالرغم من صراخهم.
وما هدأت قليلا حتى رأت سحابة بيضاء كبيرة تنزل إلى الأرض، وسمعت حفيف الفضاء من كثرة خفيق أجنحة الملائكة ورفرفتها، ونزل أولئك الزوار السماويون ومشوا في حقول الحنطة، فتراءوا لها كأنهم نجوم تسري في الأرض، ورأت الملائكة وقد استلوا سيوفهم النارية وجاء إليها بعضهم، وأقسموا لها أنها لا تزال في صباها جميلة فتية، وقام البعض الآخر يقفز من شجرة إلى أخرى، ويأكل ما يشاء من الأثمار مما جعل آدم يتسخط ويحسب أنه لن يبقى له شيء على الشجر بعد ذهابهم.
ثم جاء الله بعدهم، وكانت قصائب شعر رأسه بيضاء، كالفضة وكان لابسا تاجا لامعا كالشمس، وكان محفوفا بجميع كبار موظفي السماء، فحيا الله آدم ثم ربت لحواء على خدها، وقال: «كيف حالك؟ هل صرت أكثر عقلا من قبل؟».
فتأثر أبوانا الأولان من مجاملة الله لهما، وقدما له كرسيا كبيرا مصنوعا من أحسن الخشب، ومحشوا بأجود القش، فلما جلس عليه سأل آدم عن حاله فأخبره بالمشاق التي يعانيها.
فقال الله: «هذا حسن فإنك ستعلم من ذلك ألا تطيع زوجتك في ما تشير عليك به، فاشتغل واعرق وإياك أن تقاوم الذين هم أعلى منك».
وكأن الله قد أسف على لهجته الحادة هذه فتلطف، وقال: «ما فات قد فات، وأنا لا أغير كلامي وبما أني قد دخلت بيتكما، فإني سأترك أثرا جميلا لزيارتي، قدمي إلي أولادك يا حواء».
فقدمت إليه أولادها الثلاثة الذين كانت قد هيأتهم لمقابلته.
فنظر إلى أولهم وكان صبيا تبين عليه دلائل الجد وقد عقد حاجبيه، ووضع أصبعه على فمه، وقال له: «إنك ستكون قاضيا على الناس فتعمل لهم القوانين وتغيرها من وقت لآخر، ولكنك تعاقب كل من يخالفها بعقاب واحد، كالطبيب الذي يداوي جميع الأمراض بدواء واحد».
ثم نظر إلى الآخر وكان خفيفا نشيطا يحمل في يده عصا يضرب بها إخوته، وقال: «وأنت ستكون قائدا على الجيوش، وستجمع الرجال أمامك وتحشدهم في جيش وتسوقهم إلى الحرب، كما تساق البهائم إلى المجزرة، وهؤلاء الرجال وإن كانوا هم فرائسك فسيهتفون لك، وعندما يراك الناس ملطخا بالدم سيسجدون لك ويعتبرونك ملكا، وكل من يقتل من الناس سيعتبر مجرما، وأما أنت إذا قتلت فستعتبر بطلا، فارو الأرض بالدماء وأعمل السيف والنار في المدن، واقتل واحرق وانهب فالشعراء ستتغنى بك، والمؤرخون سيذكرون مآثرك، وأما الباقون الذين يعملون هذه الأعمال وليس في يدهم رخصة العساكر فسيسجنون ويعدمون».
ثم تفكر الله قليلا ونظر إلى الثالث، وقال: «إنك ستكون ممولا عظيما فتملك ثروات العالم، وستفتح البنوك وتقرض الناس الأموال بالربا، وإذا خربت البلاد من ذلك فإن إعجاب الناس بكفاءتك المالية لن ينقص».
وكان آدم يبكي من الشكر، وكانت حواء قلقة تريد أن تقول شيئا ولكنها لا تعرف كيف تقوله، فإن قلبها كان يتقطع أسى على حال أولئك المساكين الذين حبستهم في حظيرة الخنازير، ولم يمنحهم الله حقوقا مثل إخوتهم، فهمست في أذن آدم قائلة: «إني لا أبالي، سأخبره عنهم».
وكان آدم جبانا فثبطها، وتقدم ميكائيل وكان قد سئم قعوده في هذا الكوخ الحقير وقال مخاطبا الله: «لقد أمسينا يا مولاي».
فوقف الرب وقفزت الملائكة من الأشجار واستلت سيوفها كالعادة.
فهرولت حواء إلى حظيرة الخنازير وفتحت بابها وقالت لله: «ربنا، قل شيئا لهؤلاء المساكين».
فدهش الله من هؤلاء الأولاد القذرين وكانت الحظيرة تنتغش بهم كما تنتغش بدود، فقال: «لم يعد عندي شيء أقوله، فقد منحت كل شيء لإخوتهم، ولكني سأتدبر». ولكن حواء بالرغم من منع ميكائيل لها صارت تلح على الله ليقول لهم كلمة، وكان الله يريد الذهاب سريعا، فقال: «لا بأس، إنهم سيخدمون إخوتهم ويشتغلون في الأرض».
وقال كورا كولا عندما انتهى من القصة: «فنحن الذين نحني ظهورنا كل يوم ونعمل في الأرض ونخدم الآخرين - نحن أبناء هؤلاء الأولاد الذين حجزتهم حواء في حظيرة الخنازير».
الطريق من الأرض للسماء
سلمى لاجرلوف مؤلفة قصصية أسوجية لها شهرة أوروبية، وقد حازت جائزة نوبل في سنة 1909، وأشهر قصصها قصة «أورشليم» التي وضعتها بعد أن زارت مصر وفلسطين، وقد رأينا أن نقدم للقارئ إحدى قصصها نموذجا لأدبها، وقد ظهرت هذه القصة أول مرة في ستوكهولم سنة 1922. •••
لما كان لزوجة البكباشي دار مفتوحة كان الضابط برنكرتز يقطن أكبى في ذلك الجزء الخاص بالخيالة من دارها، فلما ماتت وانتهت تلك المعيشة السعيدة التي كان يعيشها الخيالة معا انتقل الضابط برنكرتز إلى قرية واقعة على شاطئ بحيرة لوفن.
وكان له غرفتان في الطابق الثاني من أحد المنازل إحداهما كبرى يجوزها الإنسان إلى صغرى، وكان بالطابق الأرضي فلاحون وعاش الضابط هنا إلى أن بلغ الخامسة والسبعين يعتمل لنفسه، وليس له من يخدمه. وكان يقول: إن اشتغاله بخدمة نفسه يساعده على قضاء الوقت، ولكن الحقيقة أنه كان من الفقر بحيث لا يمكنه استخدام خادم، وكان على الدوام مشتغلا بشيء لا يجد مشقة في إتمام الأعمال المختلفة التي بين يديه.
وكان للضابط بساط كان يصنعه بنفسه وقد بسط خيوطه على حيطان الغرفة الكبرى وأرضها، وكان هذا البساط حديث أهل القرية، فإنه لم ينسجه على منوال كما هي العادة، وإنما مد خيوطه من حائط إلى حائط بحيث أن من كان يدخل إلى هذه الغرفة كان يشعر أنه قد اشتبك في نسيج عنكبوت عظيم، وبين هذه الخيوط كان الضابط يروح ويجيء بين الحيطان يعقد خيطا أو يفرز لونا خاصا، ولو كمل هذا البساط لنافس في جودة الصنعة السجاد المصنوع في قندهار أو بخارى، ولكن طريقة الضابط التي اتبعها كانت بطيئة، بحيث إنه على طول ما اشتغل فيه لم يكمل سوى مربعين اثنين منه.
وكان ينام في الغرفة الصغيرة الأخرى على سرير من أسرة المعسكرات، وقد نام عليه في حروبه في ألمانيا عندما كان يقاتل جيوش نابليون، ولكن سائر الأثاث في الغرفة كان جيدا.
وفي إحدى ليالي الصيف كان الضابط نائما، فاستيقظ على صوت شخص يصعد على الدرج المؤدي إلى غرفتيه، وكان في وقع أقدامه الثقيلة ما يشبه مشية الجندي القديم وفكر في الوقت فقرر أنه حوالي منتصف الليل.
فقال في نفسه: «العجب لهؤلاء الفلاحين كيف ينسون على الدوام إغلاق الباب الخارجي». وكان هو يحب النظام وكثيرا ما عنف الفلاحين الساكنين تحته؛ لأنهم لا يقفلون الباب بالمزلاج، وترجح لديه أن هذا الغريب إنما يصعد على الدرج لوجود الباب مفتوحا، وليس ثم مجال للظن بأنه لص فإن وقع أقدامه عال، كذلك لا يمكن أن يكون سكران يبحث عن مأوى.
وكان الضابط ينتظر من هذا الغريب أن يستمر في صعوده حتى يصل إلى أعلى طابق في المنزل، ولكنه أخطأ فإن هذا الغريب وقف عند باب مسكن الضابط وسمع الضابط بأذنيه حركة المفتاح وهو يدور في القفل.
فقال في نفسه: «افعل ما تشاء فإنك لن تقدر على الدخول». فقد كان موقنا بأنه قد أقفل الباب وأزلجه أيضا قبل أن يذهب إلى فراشه، وكان يعنى بهذا العمل كل ليلة لاعتقاده الإهمال في السكان الفلاحين الذين تحته، ولكنه سمع الآن هذا الغريب يمشي في الليل في الغرفة الكبرى، فإن خيوط البساط الذي يصنعه كانت منتشرة وممدودة في كل مكان.
وقال الضابط في نفسه: «هذا الوغد سيمشي الآن في وسط خيوط النسيج، ويشتبك فيها فتلتبس فلا أعرف كيف أخلصها في الصباح».
قال هذا وهم بالقيام يريد طرده وإخراجه، ولكنه سمع هذا الغريب يمشي نحو غرفة نومه كأنه جندي في عرض، وكأن خيوط النسيج لم تمسه فنظر الملازم إلى الباب فوجده مزلجا، فقال في نفسه: «ولكنك الآن لن تعرف كيف تدخل».
وآخذ يلعن ويشتم ولكنه سكت فجأة؛ إذ رأى الباب قد فتح ثم أغلق باصطفاق، كأن الريح قد دفعته.
فنهض الضابط برنكرتز في فراشه قاعدا، وقال بلهجة عالية اهتزت لها الحيطان: «فيردا» من أنت؟
فضم الغريب قدميه فحيا الملازم تحية الجندي، وقعقع أسلحته وقال: «أنا الموت».
وكان الصوت الذي خرجت به هذه الكلمات غير عادي ؛ إذ لم يكن صوتا إنسانيا ولكنه لم يكن ذلك مرعبا، وشعر الضابط كأن الصوت قد خرج من آلة موسيقية كالأرغن، ولكن نغمته كانت حلوة مطربة حتى أحس كأنه في اشتياق لرؤية تلك البلاد التي جاء منها هذا الصوت الجميل.
فقال الضابط: «أسرع وانته من عملك». ثم شق قميصه واستعد لأن يطعن في قلبه.
ولكن الغريب الواقف أمامه لم يوافقه على ذلك بل قال: سأرجع قبل منتصف الليلة الآتية، ثم عاد وقع الأقدام وقعقعة الأسلحة عندما خرج الغريب، واصطفقت الأبواب بالثاني وردت المزاليج إلى مكانها.
وتهافت الملازم وقد ملكه الرعب في فراشه، فرقد ينصت لوقع الأقدام وهي تبعد وتخفت، وما هو أن خرج الغريب من المنزل وصار في الصحن الخارجي حيث الضوء أكثر نورا حتى هرع الضابط إلى النافذة لكي يلمح وجهه، ولكنه مع قدرته على رؤية شوارع القرية لم ير أحدا يسير فيها، وكان مع ذلك يسمع وقع أقدامه ويكاد يحدد المكان الآتي منه، ولكنه لم يكن يرى مع ذلك شيئا.
وهز برنكرتز كتفيه، وكان قد وطن نفسه من مدة على حدوث هذا الحادث يوما ما، ثم أخذ يوهم نفسه بأن لعبة لعبها عليه أحد الشباب الماكرين الذين يلذ لهم إلقاء الرعب في قلبه، ولكنه كان في قلبه يحس بالحقيقة، فإن الصوت الذي سمعه لم يكن صوت إنسان، ووضح أمامه تمام الوضوح ما سيحصل في الغد، ومع أنه كان ينظر إلى الحالة باطمئنان كما هو الشأن في جندي قديم مثله، فإنه مع ذلك لم يشعر بالرغبة في النوم ثانية، فهب من فراشه ولبس أحسن ملابسه، واحتلق ورتب شعره الذي كان يلمع كأنه الفضة، فقد تذكر أنه بعد يوم سيكلف أحد الناس بتهيئة جسمه للقبر، وعلى ذلك ينبغي أن يجد هذا الجسم في حالة حسنة.
ووضع الضابط كرسيا بجانب النافذة وقعد عليه، وعلى حجره الكتاب المقدس الذي تركته له أمه وصار ينتظر انتشار الضوء لكي يتمكن القراءة، وبعد هنيهة انتشر في الشرق سحاب أحمر ثم انقشع الظلام، ولكن الشمس لم تكن قد أشرقت بعد، فرفع رأسه وأخذ يتأمل ويفكر، ولم يكن ثم كاهن يساعده على إدراك موقفه هذا وعلى ذلك فهو مضطر إلى أن يتفاهم وحده مع الخالق.
وأخيرا وقف الضابط وأقفل الكتاب وهو يقول: «لست أفهمك، ولكن أسهل أن نتفاهم في محكمة عليا من أن نتفاهم هنا في هذه المحكمة الدنيا».
وثابت إليه سكينة عقله فقعد إلى منضدته يكتب ترتيب المشهد، وشرط أن يضرب جواده المسن بالرصاص، وأن من يطلق عليه النار يكافأ بكأس فضي، وجمع حساباته ودون ما له وما عليه، وأوصى بأثاثه وسائر أمتعته وأعطى معظمها لصبية صغيرة في القرية، وكانت هذه الصبية تحبه وتقضي الساعات الطوال في الجلوس في غرفته فأراد أن يكافئها، وقبل أن ينتهي من تسوية حساباته كانت الساعة ثمانية تقريبا، فأدى واجباته الاعتيادية، وبعد ساعتين وجد نفسه حرا يمكنه أن يقضي سائر يومه الأخير كما يشاء، وكان قد قرر في نفسه أن يحتفل في هذا اليوم بعمل شيء غير عادي.
وخرج يمشي حتى انتهى إلى مقعد في حديقة وقعد يفكر، ثم قال لنفسه: «من المؤكد أني لا أشعر بالميل لنسج البساط اليوم، وعلى كل حال فإن هذا البساط لن يتم، فيجب إذن أن أركب العربة وأسير بها إلى أي مكان، هذا يومي الأخير، فليس من الرأي أن أقضيه في قرية لا يعرف أحد من سكانها ماضي حياتي».
وهنا ت«.نبه ذهنه كأنما قد اشتغل بذكرياته القديمة، وقر رأيه على أن يكون هذا اليوم حافلا بالمسرات، وكان في أشد الاشتياق لأن يدخل في العالم ويشترك للمرة الأخيرة في مسراته، ولم يكن من الممكن أن يتمتع بها كلها، ولكنه قد يتمكن من التمتع ببعضها أحبها إلى نفسه وأحسنها.
وهب من مقعده مسارعا إلى جواده فقرنه إلى العربة ووضع عباءته خلفه، وكانت هذه العباءة قد خدمته طول حياته العسكرية الماضية، ولكنها لم تبل بعد، ثم ساق الجواد إلى تقاطع خمس طرق، ووقف لكي يقر قراره على نوع المتعة التي يريد أن يتمتع بها هذا اليوم، وهو آخر أيامه على الأرض، فإن هذه الطرق الخمس كانت كل منها تؤدي إلى شيء يحبه، فقد كانت الطريق الرأسية تؤدي إلى كارلستاد، ولو اتخذها لبلغها بعد ساعات قليلة، فقد كان يقيم فيها بعض أصدقائه، فلو ذهب إليها لجمعهم وقضوا يوما معا، ثم يلعبون الورق بعد ذلك، ولقد كان يفكر في الورق اللامع ويده ترتعش من الحماسة والفرح.
أما إلى اليمين فكانت الطريق تؤدي إلى تروسناس حيث معسكر الجنود المشاة الذين يدربون هناك، وكان يعرف أنه إذا ذهب هناك فإن جميع الفرقة تقف أمامه صفوفا وتحييه، وكان يخيل لنفسه الجنود الفتيان وهم في لباسهم الأزرق يبتسمون له، ويعرفون فيه الجندي القديم ذا الشهرة العظيمة، ثم تقرع الطبول ويرفرف علمهم القديم، ومرت ثانية شعر الضابط برنكرتز فيها كأنه يرغب في اتخاذ هذه الطريق، ولكن عاد فتردد، فقد قامت في نفسه شهوة غامضة أجبرته علي يتخذ طريقا أخرى.
وكان على يساره سكة قد قامت على جانبها الأشجار، وكانت تؤدي إلى قصر قديم تملكه سيدة عظيمة، كانت في شبابها من أجمل فتيات عصرها، وأجذبهن وأخفهن روحا، وقد صارت في الشيخوخة كما صار هو فيها أيضا، ولكنها كانت مع ذلك أصغر منه سنا ومهما بلغ عمرها فإن مثلها لا تفقد الجاذبية والفتنة، وكان يعرف أنه إذا زارها في ذلك اليوم على الرغم من الفراق الطويل، فإنها لن تبخل عليه بأن تجعل يومه الأخير يوم نعيم له، وخيل لنفسه كيف يجول معها في القصر من غرفة إلى أخرى كما كانا يفعلان أيام شبابهما، وكيف يحوطه البذخ والطرف فينسى أيام الوحدة والفقر التي عاشها.
وكان أمامه أيضا طريق يتجه إلى الشمال الغربي وتؤدي إلى مصانع الحديد في أكبى، وهي بلدة كان يحبها ويذكرها بأيام الهناء التي قضاها مع الخيالة في دار زوجة البكباشي، ولم يكن بالدار أحد الآن ولكنه شعر أنه إذا ذهب إليها فإن الأبواب تفتح له هو آخر رجال الخيالة الذي لم يمت بعد والذي يعد بمثابة آخر حلقة الاتصال بينه وبين ذلك العهد الذي قضوه جميعا في أكبى عهد الفرح والغناء والرقص والمجازفات...
فتحول إلى هذه الطريق، وكان يعرف أنه إذا سار عليها فإنه لن يصل إلى ضيعة لوفن إلا عند الغروب، وكان صاحب هذه الضيعة رجل يدعى ليلجيرونا، وكان بارعا في الضرب على الكمنجة، وكانت الضيعة في ذاتها حقيرة، ولكن جذبته إليها موسيقى صاحبها، وما هو أن فكر فيها حتى رأى أنه لا محيص له عن الذهاب إليها.
ودهش الضابط لاختياره هذه الطريق ولكنه لم يتردد هذه المرة، ووصل عند المساء إلى لوفن؛ حيث سر بلقائه ليلجيرونا، وحياه أجمل تحية ودعاه إلى النزول عنده، وقد بدا السرور عليه للقائه رجلا يذكره بالذكريات القديمة في أكبى، وكان إذا طرب ذهب وأخذ كمنجته وأخذ يضرب، ولكن ليلجيرونا كان قد أسن فلم يكن عزفه على ما عهده منه قديما الضابط برنكرتز، فقد كان في نغماته شيء يوهم أن اليد تتردد، كأنه يحاول أن يبلغ أشياء لا تعبر عنها الألفاظ، وكان البعض يقول: إن عزفه قد انحط وقد سمع الملازم هذه الإشاعات قبلا، ولكنه وهو يسمع له الآن شعر كأنه سيسمع منه لحنا حلوا جذابا، بل وضح في ذهنه وهو يوشك أن يموت بعد ساعات أن ليلجيرونا يمهد له الطريق، وهي طريق لا غاية لها؛ إذ هي تؤدي إلى الفضاء، وبينما وهو يسمع الموسيقى تتحسس أنغامها طريقها في الظلام إلى ما وراء فكر الإنسان، وخياله شعر بوقعها في نفسه شديدا حتى باح رب البيت بأن هذا اليوم هو آخر أيام حياته.
فقال ليلجيرونا وهو في غاية الانفعال: «وهل هذا هو سبب مجيئك إلي اليوم؟».
وقال برنكرتز وكأن عينيه تنظران من بعيد: «لم أجئ من أجلك وحدك، إنما جئت أيضا لكي أسمع ضربك على الكمنجة، والآن أشعر إني لم أرغب إلا في هذا اليوم، ألست ترى في الموسيقى شيئا غريبا».
فقال ليلجيرونا: إنك تقول حقا في الموسيقى أشياء غريبة. فقال برنكرتز: أجل لعلها كذلك؛ لأنها لا تتعلق بهذا العالم، يا للعجب! كلما تأملت في الموسيقى لا نعرف علتها ولا نرى فيها شيئا محسوسا نفهمها منه، ألست تظن يا أخي أن الموسيقى هي اللغة التي يتفاهمون بها فوق».
قال ذلك وأشار إلى السماء ثم استمر في حديثه قائلا: ومع ذلك لا يصلنا نحن هنا على الأرض إلا الصدى الضعيف».
فقال ليلجيرونا: «تعني أن تقول ...» ولكنه وقف هنا وشعر بعجزه عن التعبير عن أشياء لا تعبر عنها إلا نغمات الموسيقى.
فقال برنكرتز: «أعني أن أقول: إن الموسيقى تخص السماء والأرض معا. وربما كان القصد منها أن تكون طريقا بينهما، والآن يجب أن تعزف وتمهد لي هذه الطريق لكي أسير عليها إلى الأبدية».
وطفق ليلجيرونا يعزف بكل ما في نفسه وقلبه من قوة والضابط منصت في هدوء الليل، ثم تهافت فجأة ووقع على الأرض فقفز ليلجيرونا إليه ورفعه إلى الفراش فقال الضابط: «ما بي من بأس، إني أجوز الآن الطريق بين الأرض والسماء، أشكرك يا أخي». ولم ينطق بعدها بكلمة، وبعد ساعتين أسلم الروح.
قيمة الحياة
حدث أن غنيا من ذوي الملايين أسعدته الأقدار ذات مرة بمولود جديد، فأولم لأصدقائه وليمة شائقة، ودعا إليها نخبة من الأدباء والغانيات ليزينوا الوليمة بالأدب والجمال.
فجلسوا وشربوا وأكلوا، ولما انتهوا من المائدة طفقوا يسمرون، فأراد الغني أن يملق الأدباء من جهة، ويتظاهر بميزة أخرى غير الغنى من جهة أخرى، فقال: «ليست السعادة في الغنى بل هي أكثر في الحب والعلم والأخلاق».
ولمح أحد الأدباء الشبان الدعوى في هذا الكلام فتهوعت نفسه منه، وود لو يقوم ويصفع الغني عليه، ولكنه أنأد وقال مكابرا: «لا بل كل السعادة في الغنى فقط».
فقال الغني متحذلقا، وقد أوهمه الشراب ببراعة غير مألوفة: «ما هذا؟ أتظن أنك تكون سعيدا إذا كنت غنيا، وبقيت بلا امرأة تحبها أو كتاب تقرؤه أو أنيس تحادثه؟»
فقال الشاب وكان غيظه قد دفعه إلى العنت: «أكون».
فاحتد الغني حدة مصطنعة، وقال: «كأنك تقول: إنا لو دفعنا إليك خمسين ألف جنيه، وحبسناك في سجن عشر سنوات لا ترى فيها كتابا أو امرأة أو أنسيا لرضيت إذ تكون غنيا وبذا سعيدا، فقال الشاب: «نعم».
فقال الغني مستشهدا الحضور: «أنا مستعد بأن أدفع لك خمسين ألف جنيه إذا كتبت لي عقدا بأن تبقى عشر سنوات محبوسا في غرفة، لا ترى منها رجلا أو امرأة أو كتابا».
فقام الشاب وكتب العقد.
وفي اليوم التالي أدخلوه في الغرفة وأغلقوا عليه وكانوا يناولونه الخبز من كوة صغيرة بحيث لا يرى منها أحدا.
وبقي الشاب كذلك عشر سنوات، وهو لا يرى رجلا أو امرأة أو كتابا.
وشعر الغني في الأسبوع الأخير أنه أخطأ أن سكرة ساعة قد أعقبت خسارة مبلغ جسيم فاستحضر رجلين قويين، وأجرهما على قتل الشاب في آخر يوم من سجنه.
وجاء هذا اليوم فدخل الرجلان إلى غرفة الشاب، وكان مستلقيا بهيئة النائم فمشيا إليه فورا حتى لا ينبهاه، وهم أحدهما بخنقه، فانتبه إليه الآخر ومنعه، وأشار إلى يد الشاب فجساها وإذا هي باردة تارزة، فقلباه فوجداه مائتا.
فأسرعا إلى الغني وبشراه بالخير، فجاء متهللا وقد كلح وجهه من السرور الوحشي، وجعلوا يفتشون الشاب فوجدوا في جيبه رقعة كتب عليها ما يأتي: «انتحرت اليوم؛ لأنه ميعاد رجوعي إلى العالم بعد أن استرحت منه عشر سنوات، أيها البشر، إني أكره سخافاتكم وغباواتكم وجهالاتكم، ونفسي تتقزز من علمكم وأدبكم وحكوماتكم وأديانكم وآلهتكم وصحافتكم، وكل ما تحسبونه سعادة وجاها وشرفا وغنى».
في الأدب الياباني
يعتقد كثيرون أن اليابان كانت بلادا منحطة فاعتنقت الحضارة الأوروبية، ثم وثبت إلى التقدم فصارت الآن في طليعة الأمم الراقية.
والحقيقة أنها لم تكن قط منحطة أو متدهورة، وإنما كانت تسير على مبادئ المدينة الشرقية التي نشأت عليها، ثم وجدت باحتكاكها بأوربا أن حضارة أوروبا تفوق حضارتها فاصطنعتها وسارت عليها.
ومما يدل على صحة قولنا هذا هذه القصة التالية التي ألفها أحد أدباء اليابان في أواخر القرن السابع عشر، والمؤلف يقصد منها بيان الآداب الفاشلة بين طبقة الأشراف الحربيين المسمين ساموراء، قال:
منذ زمن غير بعيد كان رجل يدعى هارادا نيسوك، يسكن هو وزوجته في بلدة شنجاوة، وكانا فقيرين معدمين، وكانت السنة قد أوشكت أن تنتهي، فكانا لذلك يترقبان نهايتها بخوف وقلق؛ لأنه لم يكن عندهما شيء من المال لكي يقوما بما يتطلبه منهما ختام العام.
وكان للزوجة قريب يشتغل بحرفة الطب، وكان يعيش في حالة اليسر، فلما بلغ منها اليأس كتبت إليه ترجوه أن يقرضها شيئا لعيد ختام العام، وكان هذا الأخ سخي النفس فلما جاء خطاب شقيقته أزعجه فقال في نفسه: «لا بد من مساعدتهما ولا بد أن أبعث لهما بشيء».
فأخذ عشرة نقود ذهبية ووضعها في علبة، وأخذ يربطها وهو يضحك، ثم أرسلها لأخته في شنجاوة.
وحمل صبي الطبيب هذه العلبة إلى منزل هارادا نيسوك في الوقت المناسب، فقابل الزوجان هذا الصبي بالحفاوة والشكر، وما كاد يتركهما ويعود إلى منزل الطبيب حتى فتحا العلبة، فوجدا داخلها ورقة تشبه الورق الذي يكتب عليه الأطباء وصفات الدواء: وكان مكتوب عليها ما يلي:
المرض: الفقر.
الدواء: عشرة نقود ذهبية.
الجرعة: أحسنا الاستعمال فتشفيا.
فضحك الزوجان فرحا لهذا المزاح اللطيف، ولم يكادا يصدقان أعينهما عندما رأيا في العلبة عشرة نقود ذهبية، وكان هذا المبلغ بالنسبة إليهما ثروة كبيرة، فرأيا جريا على سنة الساموراء أن يشتركا مع غيرهم في التنعم بهذه السعادة، وفي الحال أخذ الزوج يكتب إلى جميع أصدقائه يدعوهم إلى وليمة في منزله في ختام العام.
وجاء المساء الذي ضرب فيه معاد الوليمة وكان البرد شديدا قارسا والثلج يتساقط، ومع ذلك قد حضر سبعة من أصدقائه، فلما اجتمعوا وأعدت المائدة وأخذ المدعوون يعجبون للبذخ الذي لم يألفوه سابقا من صديقهم، فقال لهم هارادا نيسوك: «لقد جاءني بعض المال، ولذلك إني أستطيع أن أحتفل بالسنة الجديدة احتفالا عظيما».
ثم طاف عليهم يريهم وصفة صهره الطبيب، فضحكوا وسروا من دعابة هذا الطبيب، وأخذوا يتأملون بعين الإعجاب النقود الذهبية العشرة، وهي شفاء أكيد لذلك المرض الذي قد عمتهم إصابته.
ولما دارت عليهم العلبة بنقودها قال رب البيت: «والآن دعوني أرد هذه النقود إلى العلبة وأغلقها»، ثم عد النقود فوجدها تسعة فقط.
فوقف الضيوف في الحال وجعلوا ينفضون ملابسهم، ولكن النقد المفقود لم يظهر، وكذلك بحثوا عنه بين الوسائد فلم يجدوه.
فتهامسوا قائلين: «هذا غريب، أين هو إذن؟» وبقوا في حيرة.
ثم تظاهر هارادا نيسوك بأنه قد تذكر شيئا وضرب جبهته بيده قائلا: «صحيح صحيح، ما أشد بلاهتي، إني آسف جدا لأني أزعجتكم، فقد نسيت أننا أنفقنا نقدا من هذه النقود فلم يبق سوى تسعة».
قال ذلك ثم لف العلبة، ولكن الضيوف لم يطمئنوا إلى هذا القول، وعدوه منه لطفا وأدبا اقتضاه الحال. وقال كل منهم للآخر: «النقود عشرة».
ثم خلع أحدهم ملابسه كلها ونفضها ووقف عريانا، وفعل الثاني فعله، أما الثالث فقد بقي صامتا ساكنا لا يتحرك، ثم انتقل من مكانه وجلس القرفصاء وبسط أمامه ذراعيه، وقال: «في هذه الحياة كثير من الارتباكات، ولست في حاجة إلى أن أخلع ملابسي، فإن الشر الذي يلازمني قد قضى أن يكون معي هذه الليلة نقد ذهبي، وبما أن نحسي قد قضى علي فها أنا ذا أقضي على حياتي».
وما انتهى من هذا الكلام حتى أعد عدته لكي يقتل نفسه على طريقة الساموراء ولكن الآخرين قالوا: «إنه يقول الحق، فإننا على فاقتنا البالغة قد يملك كل منا نقدا ذهبيا واحدا وإن كنا لا نحمله معنا».
فقال الرجل: «أمس بعت خنجري وهذا النقد هو ثمنه، ولكني لا أنجو بشرفي إلا بقتل نفسي الآن، ولكني أرجوكم أن تذهبوا غدا إلى جوزمون الذي بعت له هذا الخنجر واسألوه عن صحة ما قلته».
وهم بوضع السيف في بطنه، ولكن أحد الضيوف صاح قائلا: «هاكم النقد، لقد وجدته في ظل هذا المصباح».
فتنهد جميعهم تنهد الراحة، ووقف الرجل الذي هم بالانتحار عن إتمام عمله، وقالوا: «كان يجب علينا أن نبحث جيدا».
ثم هنأ بعضهم بعضا، وبينما هم يفعلون ذلك إذا بربة الدار قد جاءت تهرول وهي تقول: «لقد وجدت النقد، وجدته لاصقا في غطاء صندوق الكعك».
فدهش الجميع أشد دهشة، وما روته الزوجة هو الحقيقة، ولكنهم وجدوا الآن أن بين أيديهم أحد عشر نقدا ذهبيا، في حين أنه كان ينبغي ألا يوجد سوى عشرة، فمن أين إذن جاء النقد الذي وجد في ظل المصباح؟ فلا بد أن أحدا منهم وضعه، ولكن من هو؟ وقال واحد منهم: «إذا كانت عشرة النقود قد صارت أحد عشر فيجب أن نفرح».
وأخذوا يهنئون هاردارا نيسوك الذي وقف مدهوشا من هذه الحوادث، وقال أحد الضيوف: «من الطبيعي أن تصير التسعة عشرة، ولكن من الغريب جدا أن تصير العشرة أحد عشر، فنرجو ذلك الذي دفع هذا النقد الزائد أن يتكلم حتى يرد إليه».
فلم يجبه أحد مع تكراره وإلحاحه، ومضى الليل وصاحت الديكة، وليس فيهم من يعرض لأخذ هذا النقد الزائد، وبدأ الاكتئاب عليهم جميعا لهذا الحادث الذي نتج عن سوء التقدير، وأخيرا عرض عليهم رب البيت أن يقترح عليهم اقتراحا ويدعوهم إلى قبوله، ثم سألهم هل يوافقونه؟ فوافقوه جميعا.
فقال: «انظروا إلي الآن، فإني سأضع هذا النقد في صندوق الكعك، وسأضع الصندوق بجانب البئر عند باب الجنينة، وستخرجون أنتم وتذهبون إلى دوركم واحدا بعد الآخر، وكلما يخرج واحد منكم من الجنينة يقفل الباب وراءه، ولن يتحرك أحد منكم من هنا حتى نسمع صرير الباب وهو يقفل، فيمكن للشخص الذي دفع النقد الزائد أن يأخذه من الصندوق ويذهب إلى بيته».
ووضع النقد في الصندوق بجانب البئر، وخرج الضيوف فرادى، الواحد بعد الآخر، ولما خرجوا جميعا ذهب صاحب الحفلة وزوجته فحصا الصندوق فلم يجدا فيه النقد.
فمن هو الذي أخذه؟ ليس أحد يعرف ذلك، ولكن بدهي أن الرجل الذي وضعه قبلا لكي ينجى ذلك الضيف الآخر من القتل هو الذي أخذه، وإنما سلكوا جميعا هذا السلوك؛ لأنهم كانوا من رجال الحرب الأشراف من ذوي الخلق العظيم، الذين يعرفون واجباتهم وتبعاتهم، وكانت لهم على الرغم من فاقتهم شجاعة وإيمان بمبادئ شيعتهم الساموراء.
تاغورى
لمحة في شاعر الهند
دعنا من شعرائنا وما قالوه من مديح ورثاء وهجاء، وقصائد الاحتفالات، وأشعار ترتب على البحر والقافية كأنما قد قدمت بحساب، ولننظر الآن قليلا في شاعر الهند تاغورى، عسانا نجد فيه بعض ما يرفه عن النفس، ويبعث عن الأمل ويحرك فينا خاطر الاقتداء الشريف بمن يعد الآن في مقدمة شعراء العالم بشهادة أدباء أوروبا أنفسهم.
وقبل أن أترجم للقارئ بعض مقطوعاته أقول: إنها قد ترجمت للإنجليزية نثرا ولم تترجم نظما، وليس ذلك إلا لأن النثر يؤدي المعنى أكثر مما يؤديه النظم، ولذلك آثرت الترجمة بالنثر مع علمي بوجود بعض هذه المقطوعات منظومة في العربية، ولكن نظمها لا يرضي من يتوخى الدقة ومطابقة الأصل.
قال تاغورى:
عندما انتصف الليل قال رجل قد أزمع أن يشرع في حياة النسك: «هذا هو الوقت لكي أترك بيتي وأنشد ربي، آه، من هذا الذي ربطني بهذا الباطل طول هذه المدة؟».
فهمس إليه الله قائلا: «أنا» ولكن آذان الرجل كانت مسدودة
وكانت امرأته نائمة وإلى صدرها طفلها على الفراش
ثم قال الرجل: «من هذا الذي غرني وخدعني طول حياتي؟»
فقال الصوت ثانيا: «هو الله»، ولكنه لم يسمع.
ثم صاح «الطفل» في أحلامه ولصق بصدر أمه.
وأمره الله قائلا: «قف أيها الأحمق، ولا تترك بيتك». ولكنه لم يسمع أيضا، فتنهد الله وقال: «لم يخرج هذا العبد يجول ويطوف ليبحث عني وهو يهجرني؟ •••
ليس ثراؤك ثراء لا حد له أيتها الأرض أيتها الأم الصبور الغبراء
فإنك تكدين لكي تملأي أفواه أبنائك، ولكن الطعام قليل
وعطية السرور التي تدخرينها لنا لم تكن قط كاملة
وهذه اللعب التي تصنعينها لأطفالك قصفة سريعة الانكسار
إنك لن تستطيعي أن ترضي أطماعنا ولكن هل لي أن أهجرك لهذا السبب؟
إن ابتسامتك المظلمة بالألم حلوة في عيني وحبك الذي لا يعرف وصالا عزيز على قلبي
لقد أطعمتنا الحياة من صدرك ولكنك لم تطعمينا الخلود، وهذه هي العلة في أن عينيك أبدا يقظتان
لقد مضت دهور وأنت تعملين بالألوان والأغاني، ولكن ها هي ذي سماؤك لم يتم بناؤها بعد، فإننا لا نعرف منها سوى الإيحاء الحزين
وفوق ما أحدثته من الجمال سحابة من الدموع
وها أنا ذا أصب أغاني على قلبك الأخرس، وحبي على حبك
وسأعبدك بالعمل
لقد رأيت وجهك الحنون أيتها الأرض، أيتها الأم، وإني أحب غباؤك الكامد •••
لقد همس إلي قائلا: «حبيبتي ارفعي عينيك»
فوبخته بحدة وقلت: «اذهب» ولكنه لم يتحرك
ووقف أمامي وقبض على كلتا يدي، فقلت: «اذهب عني» ولكنه لم يذهب
ثم وضع وجهه قريبا من أذني، فنظرت إليه وقلت: «يا للعار» ولكنه لم يتحرك
ثم لمست شفتاه خدي: فارتعشت وقلت: «إنك لجسور» ولكنه لم يخجل
ثم وضع زهرة في شعري فقلت: «لا فائدة من هذا ولكنه وقف دون أن يتأثر»،
ثم نزع عقد الزهر من عنقي وأخذه ومضى، وها أنا ذا أبكي وأسأل قلبي: «لم لا يرجع إلي؟» •••
أحبك يا حبيبي فاغفر لي حبي لقد وقعت كما يقع العصفور ضل عن طريقه
وعندما ارتعش قلبي تمزق حجابه فتجرد فجلله بالحنان يا حبيبي واغفر لي حبي
وإذا لم تقدر يا حبيبي أن تحبني فاغفر لي ألمي
ولا تنظر إلي نظرة الشرير من بعيد فإني سأذهب إلى الزاوية وأجلس في الظلام
وبكلتا يدي سأخفي خجلي العاري، أديري وجهك عنك يا حبيبتي، واغفر لي ألمي،
وإذا كنت تحبيني يا حبيبتي، فاغفر لي فرحي
وعندما يحمل تيار السعادة قلبي فلا تبتسمي على استرسالي الخطر
وعندما ما أجلس على عرشي وأتحكم فيك بجوار الحب وأعاملك كما تعامل الربة من تحابيه فتحملني كبريائي واغفري لي فرحي •••
لا تحتفظ بأسرار قلبك يا صديقي، بح بها سرا إلي إلي وحدي
أنت يا من يبتسم بهذا اللطف، اهمس لي فإني أسمعك بقلبي لا بأذني
الليل عميق والمنزل صامت وأعشاش الطيور قد نسجت بالنوم
تكلم إلي من بين الدموع المترددة والابتسامات المتعثرة والخجل الحلو والألم الحلو وأخبرني بأسرار قلبك •••
هو: إني آخذ ما ترضخ به يدك لي، ولست أسألك أكثر من ذلك
هي: أجل أجل، إني أعرفك أيها السائل المتواضع، أنت تطلب كل ما عندي
هو: أما من زهرة تستغنين عنها أضعها في قلبي؟
هي: ولكن هبني أعطيتك شوكا؟
هو: سأتحمله
هي: أجل أجل، إني أعرفك أيها السائل المتواضع أنت تطلب كل ما عندي
هو: لو أنك ترفعين عينيك العزيزتين إلى وجهي مرة واحدة فإنك تجعلينني أشعر بحلاوة الحياة التي لا يصل إليها الموت
هي: ولكن هبك وجدت نظرات قاسية فقط؟
هو: أحتفظ بها في قلبي الذي تخترقه
هي: أجل أجل، إني أعرف أيها السائل المتواضع أنت تطلب كل ما عندي •••
وحسب القارئ هذه المقطوعات نموذجا لشاعرية تاغورى، وأقول في الختام لبعض شعرائنا: إنهم قد يستغربون أنه ليس في دواوين تاغورى المطبوعة رثاء أو مديح، وإنه لم يتقرب بشعره لأمير أو غني أو شريف، ولم يؤجر عليها عند وضعها، وإنما هي عفو الخاطر وفيض العبقرية.
قصة البحار المصري
لكل أمة أساطيرها التي يؤثرها الخلف عن السلف تحكى للأطفال قبيل النوم، ويروع بها الآباء أبناءهم الصغار عند المخالفة والعصيان، فلكل أمة بعبع وغول، ولكل أمة أيضا طبعة خاصة عن البنت الفقيرة اليتيمة التي يسعدها الحظ وتتزوج من أحد الأمراء، أو عن ذلك الشاب الشجاع الذي يخاطر بحياته لكي يأتي لبنت الملك بما تشتهيه، فينال بذلك يدها ويتزوجها.
وقد صار لهذه الأساطير علم خاص ويدعى في الإنجليزية والفرنسية: «فوكلور» ويرمي إلى البحث عن أصل هذه الأساطير ومنشأها الأول، ومبلغ انتشارها، وما طرأ عليها من التغير عند انتقالها من أمة إلى أخرى، وعلة هذا التغيير ودلالته على مزاج الأمة أو تاريخها.
ومن يستقص الأساطير الشائعة بين فلاحينا التي يروونها لأطفالهم يجد عددا كبيرا منها قد نزل إلينا من المصريين القدماء؛ فإن هذه الأسطورة التي سنرويها الآن للقارئ قد وجدت مكتوبة على بردي لا يقل عمره عن أربعة آلاف عام، وهو موجود الآن في بطرسبرج، ومن يقرأها لا بد أنه يذكر أنه سمع أمثالها من مربيته أو والدته وهو بعد طفل.
قال الراوي وهو بحار: «ذهبت إلى البحر الأخضر العظيم في سفينة يبلغ طولها مئة وخمسين ذراعا في عرض خمسين ذراعا وكان فيها مئة وخمسون بحارا من نخبة البحارة المصريين. وكانوا يرقبون السماء ويرقبون الأرض. وكانت قلوبهم أجرأ من الأسود. وكانوا يتنبئون عن العاصفة قبل مجيئها ويخبرون عن الزوبعة قبل حدوثها».
وكانت غاية السفينة بلاد البونت وهي أرض المصريين القدماء المقدسة، ومكانها قطر الصومال الآن، ثم حدثت الزوبعة وتحطمت السفينة قريبا من الشاطئ وهلك جميع البحارة ولم ينج سوى الراوي الذي يقول: «إني نجوت وحدي ولم يكن لي رفيق سوى قلبي».
ثم هدأت العاصفة وصحا الجو فعاد إلى البحار روعه، فقام وأخذ يسعى يفتش عما يقتات به فوجد أن سفينته قد تحطمت على شاطئ جزيرة غير مأهولة، ولكن أشجار الفاكهة زاكية تشتبك فيها دوالي الكروم بأغصان الرمان والتين، وكانت الأسماك تروح وتغدو إلى جانب الشاطئ والبحر منبسط حول الجزيرة هادئ لا يقلق هدوءه سوى ظهور الدلافين التي كانت تثب ثم تغوص فتترك وراءها رشاشا من الماء يلتمع في ضوء الشمس.
قال الراوي: «وجدت هناك تينا وعنبا وبصلا جيدا وبطيخا ورمانا وقرعا من جميع الأصناف، وكان هناك أسماك وطيور وكل ما اشتهيته وجدته هناك؛ فأكلت وشعت، ووضعت على الأرض ما جمعته بين ذراعي ثم أخرجت زندي وأشعلت نارا وقدمت قربانا للآلهة».
وبينما هو يأكل سمع صوتا كالرعد ظنه أولا صوت أمواج البحر ولكنه عاد، فرأى أيضا أن الأرض ترتجف والأشجار تصطك ونظر فإذا بشيء رائع جعله ينبطح على وجهه ويخفي رأسه في الأرض قال: «ثم كشفت عن وجهي فرأيت ثعبانا طوله ثلاثون ذراعا وكان ذنبه ذراعين وكان جلده مغطى بالذهب وعيناه من الفيروز الحقيقي. فكان بذلك كاملا من جميع الجهات ففتح فمه وأنا منبطح على وجهي وقال لي: «من أتى بك هنا أيها الصغير. من أتى بك هنا؟» إذا لم تقل لي حالا من أتى بك إلى هذه الجزيرة فإني أعرفك مقدارك بعد إذ تكون رمادا وتصير شيئا لا يرى».
ولكنه لفرط فزعه لم يقدر على الجواب، ورق قلب الثعبان له فحمله في فمه وسار إلى أن وصل إلى مسكنه فوضعه هناك، وكان البحار لا يزال مروعا، فقال له الثعبان: «من أتي بك إلى هنا أيها الصغير. من أتي بك إلى جزيرة البحر الأخضر العظيم التي تطفو على الماء؟» فقال البحار: «كنت مسافرا إلى المناجم بأمر الملك في سفينة يبلغ طولها مئة وخمسين ذراعا في عرض خمسين ذراعا، وكان فيها مئة وخمسين بحارا من نخبة البحارة المصريين، وكانوا يرقبون السماء ويرقبون الأرض، وكانت قلوبهم أجرأ من الأسود، وكانوا يتنبئون عن العاصفة قبل مجيئتها ويخبرون عن الزوبعة قبل حدوثها، وكان لكل منهم قلب جرئ وذراع عبل وكلهم مجرب، وثارت العاصفة ونحن بعد في البحر الأخضر العظيم قبلما نصل إلى الشاطئ، ثم تضاعفت هبوط العاصفة، وكانت الأمواج ترتفع ثمانية أذرع، فتعلقت أنا بلوح من الخشب، وتحطمت السفينة وهلك جميع من كان فيها سواي أنا وحدي الذي أقف الآن إلى جانبك، وحملتني أمواج البحر الأخضر العظيم إلى هذه الجزيرة».
فتحنن عليه الثعبان وقال له: «لا تخف أيها الصغير لا تخف ولا يغلبك اليأس، فإذا كنت قد أتيت إلي فإن الله هو الذي أبقى على حياتك وحملك إلى هذه الجزيرة التي لا ينقصها شيء بل يوجد فيها كل شيء حسن، وستقضي هنا شهرا بعد شهر حتى تنتهي أربعة أشهر، ثم ترد إلينا سفينة من بلادك تعرف بحارتها وتعود معهم حيث تموت وتدفن في بلدك».
وأنس به الثعبان وأقبل إليه يحدثه عن ماضيه حتى يسري عنه فقال له: «لقد نزل بي مثل ما نزل بك؛ فقد كنت أسكن أنا وأخوتي وأولادي هنا في هذه الجزيرة وكنا جميعا 72 ثعبانا غير بنت جاءتنا علي سبيل الصدفة، فنزل علينا نجم فاحترق الجميع وذهبوا، وكنت وقت أن احترقوا بعيدا عنهم ولم أكن بينهم، وعندما عدت ورأيتهم كومة من الجثث أوشكت أن أموت جزعا عليهم».
ثم قال الثعبان للبحار: «إذا كنت شجاعا قادرا على ضبط شوقك فإنك سوف تضم أولادك إلى صدرك وتقبل زوجتك وترى بيتك وهو خير ما تحب، وسوف تصل إلى وطنك وتعيش بين إخوانك».
فقال البحار: «وهنا انبطحت على وجهي ولمست الأرض أمامه وقلت له: سأخبر الملك عن قوتك وعظمتك، وسأعرفه عن مقدارك، وسأجعله يرسل إليك الطيوب والتوابل والمر والعود والبخور وسائر ما يتقرب به إلى الآلهة، وسأخبرهم عما حدث لي وما رأيت من قوتك، وسوف يحمدونك أمام جميع قضاة البلاد، وسأضحي لك بالثيران والأوز وأرسل إليك بالسفن التي تحمل أحسن ما في مصر كما يجب أن نعمل لإله يحب الناس ويعيش في جزيرة لا يعرفها الناس».
ولكن الثعبان استغرق في الضحك وقال له: «ألا ترى هنا أشياء البخور؟ ألست أنا هنا رب البونت وعندي بخوري؟ أما التوابل ففي الجزيرة منها الشيء الكثير. ولكن عندما يترك هذا المكان فإنك لن ترى الجزيرة ثانيا إذ تصير أمواجا».
ثم مضت الأشهر الأربعة وجاءت السفينة كما تنبأ الثعبان قال الراوي: «صعدت على شجرة وعرفت من في السفينة فذهبت لكي أخبر الثعبان فوجدته كان يعرف ذلك».
ثم ودعه الثعبان وقال له: «لتصحبك السلامة يا بني، لتصحبك السلامة إلى منزلك. وإني أدعو لك أن ترى أولادك وأن يكون لك اسم طيب في بلدك، هذه هي دعواتي لك».
قال البحار: «فانبطحت أمامه وطويت ذراعي، فأعطاني شحنة من البخور والطيوب والمر والعود والكحل وأذناب الزرافة وأنياب الفيل والكلاب والقردة وأشياء أخرى ثمينة، ووضعتها جميعها في السفينة، ثم نزلت وانطرحت لكي أشكره فقال لي: «ستصل بلادك بعد شهرين وتضم أولادك إليك وتعيش في خير وبركة وهناك تدفن».
قال البحار: «فسارت سفينتنا نحو الشمال إلى مكان الملك ووصلنا بعد شهرين كما قيل لنا، ودخلت على الملك وقدمت له ما أحضرناه معنا من الجزيرة فشكرني الملك أمام جميع قضاة البلاد، وصرت من الحاشية وكوفئت بعدد من الموالي».
في المدينة الخاطئة
جمهورية تشكو سلوفاكيا من الجمهوريات الحديثة التي ظهرت عقب الحرب، وكان أهلها قبلا من رعايا النمسا والمجر، وأهل هذه الجموهرية الجديدة أقوام حديثو العهد بالوطنية إذ كانوا قبلا ملكا مشاعا بين النمسا والمجر، فحكومتهم وأدباؤهم وساستهم يجهدون أنفسهم لإيجاد عاطفة التماسك والوطنية فيهم الآن.
والقصة التالية وضعها أحد أدبائهم المدعو كاريل كابيك وهو يرمي إلى هذه الغاية، وقد جعل موضوعها قصة النبي لوط وخروجه من مدينة سدوم إذ أمر الله بإهلاك قومها لطغيانهم وانغماسهم في الخطايا والموبقات. قال الكاتب:
نزل سدوم ملكان وقت المساء فرآهما لوط ووقف لكي يستقبلهما ثم انحنى أمامهما ووجهه إلى الأرض.
ثم قال لهما «انزلا في منزل خادمكم واقضيا الليل واغسلا أقدامكما فإذا جاء الصباح فذهبا إلى حيثما تشاءان».
ولكنهما أجاباه قائلين: «سنقضي الليل في طرق المدينة».
ثم قال له: «أهنا أحد غير هؤلاء الذين نراهم؟ زوج ابنتك وأبناؤك وبناتك وغيرهم ممن يوجودون في المدينة؟ اجمعهم جميعا وأخرجهم من هذا المكان فإننا سنهلك من فيه من السكان لانغماسهم في الدنس والخطيئة حتى صار الله يمقتهم».
وسمع لوط هذا الكلام فاغتم غما شديدا فسألهم قائلا: «ولماذا أترك هذا المكان؟».
فقالا: «لأن يهوه (الله) لا يريد أن يهلك الصالحين».
فوجم لوط طويلا ثم قال: «اسمحا لي أن أغادركما حتى أخبر أصهاري وبناتي كي يتهيئوا لترك المدينة».
فأجاباه إلى ما طلب فخرج يهرول إلى شوارع المدينة، وصار يعدو ويصيح في الناس: «أيها الناس! اخرجوا من هذا المكان فإن الله سيدمر المدينة».
ولكن الناس حسبوه يسخر منهم فلم يلتفتوا إليه، فعاد لوط إلى منزله ولكنه لم ينم بل قضى الليل قاعدا يفكر، فلما انتشر ضوء الفجر جاء الملكان إلى لوط ثانيا وقالا له: «قم خذ امرأتك وبنتيك واخرجوا لئلا تهلكوا مع الذين سيهلكون لذنوبهم».
فقال لوط: «كلا، لن أخرج، لقد استشرت نفسي طول الليل ورأيت أني لا أقدر على ترك المدينة لأني واحد من أهلها».
فقال الملكان: «أنت رجل صالح ولكن أهل سدوم جائرون طغاة وقد أغضبت ذنوبهم الله، فما يعنيك من أمرهم؟».
فقال لوط: «لست أعرف ما يعنيني وإنما أقول إني فكرت فيما يجب أن أعمله مع أهل سدوم، فرأيت أني قد قضيت حياتي وأنا أشكو منهم وأحكم على أفعالهم وأقسو في الحكم، ولكني أراني الآن حزينا لأنهم قد قضي عليهم بالهلاك، أجل إني قد ذهبت إلى أهل مدينة سيجور فرأيت أنهم أكثر صلاحا وتقى من أهل سدوم».
فقال الملكان: «قم واذهب إلى سيجور فإنها لن تهلك».
فقال لوط: «وما يعنيني من شأن سيجور؟ إني أعرف رجلا صالحا هناك كان يشكو من أهل مدينته كما أشكو أنا من أهل سدوم، والآن اتركاني فلست أقدر على ترك سدوم».
فعاد الملكان يلحان عليه بالخروج وقالا له: «قد أمرنا الله بأن ندمر سدوم» فقال لوط وهو هادئ: «فلتكن مشيئة الله، لقد فكرت طول الليل وتذكرت عدة أشياء جعلتني أبكي، هل سمعتم أهل سدوم وهم يغنون؟ كلا، إنكم لا تعرفونهم ولو عرفتم لما جئتم إليهم بهذه المهمة، فإن فتيات هذه المدينة إذا سرن في الطرق تبخترن في مشيتهن وتغنين بالأغاني العجيبة ويضحكن عندما يستيقن من الآبار. وليس في العالم ماء أصفى من ماء سدوم، وليس في العالم لغة أحلى من لغة سدوم، وإذا تكلم طفل فهمته كأنه ابني، وإذا لعب فإنما يلعب ما كنت ألعبه في طفولتي.
وكنت وأنا طفل إذا بكيت لاطفتني أمي بلغة سدوم. آه يا ربى إني أشعر كأن هذا قد حدث أمس فقط».
فقال أحد الملكين: «إن أهل سدوم قد أذنبوا وذنوبهم تعدو حدود الغفران ولذلك ...».
فقاطعه لوط قائلا: «أجل إنهم أذنبوا ولكنك هل لاحظت بعينك صناع المدينة؟ فهم يشتغلون كأنهم يلعبون فإذا صنعوا قدرا جميلة أو نسجوا قطعة من المدينة الكتان فليس يملك أحد قلبه من أن يطفر عندما يرى هذه الأيدي الصناع الماكرة وهي تشتغل، وقد يجلس الإنسان أمامهم طول النهار لا يسأم لفرط ما يبدونه من المهارة، وإذا أخطئوا غضب الإنسان لخطئهم أكثر مما يغضب لخطأ الصناع في سيجور. بل يشعر الإنسان بعذاب هذا الخطأ كأنه هو نفسه قد أخطأ فما هي قيمة صلاحي إذا كنت من أهل سدوم؟ فإذا كنتم ستقضون على سدوم فاقضوا علي أنا أيضا فلست رجلا صالحا بل واحد منهم؛ ولذلك إني لن أترك هذا المكان».
فاربد وجه الملك وقال مغضبا: «إنك ستهلك إذن معهم».
فأجاب لوط: «قد يكون ذلك، ولكني سأعمل جهدي كي أنجيهم من الدمار، ولست أعرف ما سأفعله ولكني أعتقد أن واجبي يحتم علي مساعدتهم إلى النهاية. أتظن أنه من السهل علي أن أتركهم؟ إني أخالف إرادة الله فهو لا يسمع لي، ولو سمع الدعوات إليه أن يمنحني ثلاثة أعوام أو ثلاثة أيام أو حتى ثلاث ساعات. وما قيمة ثلاث ساعات في عين الله؟ لو أن الله أمرني أمس بترك المدينة لقلت له: أمهلني يا ربى حتى أتكلم مع هذا وأخاطب ذاك، أجل إني قضيت حياتي أحكم عليهم بدلا من أن أتوسل إليهم وأغريهم بالصلاح فكيف أتركهم الآن ليهلكوا؟! ألست أنا أيضا مسئولا عن انغماسهم في الخطيئة، لست أحب أن أموت لكني لا أستطيع رؤيتهم يهلكون ولذلك سأبقى هنا.
فقال الملك: «ولكنك لن تستطيع تخليص سدوم».
فأجابه لوط قائلا: «أعرف ذلك ولكني سأحاول. لقد كنت قاسيا عليهم طول حياتي وحملت معهم أثقل أعبائهم وهو طغيانهم، ولكني يا ربي لست أقدر على التعبير عن مكانهم في قلبي وقصاراي أن أمكث معهم».
فقال الملك: «إن قومك هم الصالحون الذين يؤمنون بالرب الذي تؤمن به أما أهل الخطيئة والشر وعبدة الأوثان فليسوا من قومك».
فقال لوط: «كيف لا يكونون قومي وهم أهل سدوم، إنك لا تدرك معنى ما أقول لأنك لا تسمع إلى صوت الدم والأرض، تقول عن سدوم إنها مدينة الإثم والشر، ولكن أهل سدوم عندما ينفخ بوق الحرب لا يقاتلون من أجل إثمهم وشرهم، بل يقاتلون من أجل أشياء ثمينة، حتى أشرارهم يستطيعون أن يموتوا من أجل الغير؛ فسدوم هي كل شيء، وإذا كان الله يرى في بعض المزايا فليعزها إلى سدوم لا إلي وماذا أن قائل بعد هذا؟ ألا قل لربك: إن عبدك لوط قد وضع نفسه بين رجال سدوم يدافع عنهم ويحميهم منك أنت كأنك عدوه.
فصاح به الملك: «قف ما أفظع خطيئتك ولكن الله لم يسمعك، قم واستعد لترك المدينة وانج بزوجتك وابنتيك».
فتفجرت عينا لوط بالدموع وقال: «أجل يجب أن أنجيهم، أنت محق في هذا أرشدني».
ولكنه تلكأ، فأخذه الملكان من ذراعيه وأخذا زوجته وابنتيه وقادوهم إلى الخارج؛ وذلك لأن الله كان يرحم لوطا.
فلما خرج لوط بأهله صلى قائلا: «كل ما بي من حياة فهو من سدوم، فلحمي من أرضها ولغتي هي لغة رجالها ونسائها، وما لعنت هؤلاء الرجال والنساء مرة إلا وأنا أقبلهم، أجل يا سدوم إني أراك عندما أغمض عيني لأنك كائنة في نفسي كما كنت أنا كائنا فيك. سدوم. سدوم ألست أجمل بلاد العالم؟
لو أني رأيت نافذة من نوافذ بيوتك عليها غطاء من الكتان لعرفتك منها وقلت هذه نافذة بيت من بيوت سدوم، إني كالكلب يؤخذ من صاحبه ويبعد عنه فيضع أنفه في التراب فيشم رائحة صاحبه، إني أؤمن بالله ونواميسه ولم أؤمن بك سدوم ولكنك كائنة، أما البلاد الأخرى فظل زائل لست أرتاح إذا جلست إلى حائط من حيطانها أو شجرة من أشجارها.
إني أؤمن بالله لأنه رب سدوم فإذا ذهبت سدوم فسيذهب إيماني. «أبواب سدوم. إلى أين أذهب عنك؟ وفي أي فراغ أضع قدمي؟ أجل ليس تحت قدمي أرض فإنا أقف وكأني لست أقف، اذهبن عني يا بناتي فلست أقدر على أن أسير أكثر مما سرت».
فحملوه إلى خارج المدينة وقال الملكان: «انجوا بحياتكم ولا تلتفوا إلى الوراء ولا تمكثوا في هذا السهل، بل فروا إلى الجبال حتى لا تهلكوا».
وكانت الشمس قد طلعت عندما قالا ذلك، ثم دمر الله مدينة سدوم ومدينة عمورة وأمطرهما وابلا من النار والحمم، ورأى لوط ذلك فصاح صيحة الألم وجرى عائدا إلى المدينة.
فعدا وراءه الملكان وصاحا به: «ماذا تفعل؟!».
فقال لوط: «أذهب لكي أساعد أهل سدوم» ثم دخل إلى المدينة وهي تحترق.
مذكرات مكسيم جوركي
أنقل للقراء فيما يلي نموذجا من الأدب الروسي في قطعة مختارة من مذكرات مكسيم جوركي، ويذكر القراء أن هذا الأديب الشهير قد عين في بدء الحركة البولشفية مديرا لإدارة الفنون الجميلة، ثم لم يطق استبداد لنين فاستقال ورحل من روسيا إلى بلاد أوروبا، والقطعة التالية تبين للقارئ ذلك القلق الذهني الذي أصاب أدباء روسيا من تأثير الصدمة التي نالتهم في ذلك الانقلاب الهائل عند انتقال الأمة الروسية من أوتوقراطية القيصر إلى ديمقراطية البولشفيين، أو بالأحرى فوضاهم.
قال جوركي:
تحدثت أمس إلى الشاعر إسكندر بلوك، وقد خرجنا معا من إدارة الآداب فسألني رأيي عن محاضرته التي ألقاها من مدة وكان موضوعها: «تحطم آداب الإنسانيات».
فقد ألقى هذه المحاضرة منذ أيام وقد كانت أشبه بمقالة منها بمحاضرة، وشعرت وأنا أصغي إليه كأن معناها كان غامضا ولكنه كان ذا مغزى سيئ ونذير شؤم. وكان بلوك وهو يقرؤها يذكرني بذلك الطفل في تلك الأسطورة الشهيرة حيث يضل في الغابة فيشعر كأن الجن المردة تقترب منه، وتحدثه نفسه بأن يقول تعويذة قد حفظها لطرد هؤلاء الجن فيدمدم بها وهو خائف مذعور، فكانت أصابعه ترتجف وهو يقبض بها على أوراق المحاضرة.
وتساءلت وأنا أنظر إليه وقتئذ عما إذا كان هو قد سره تحطم هذه الآداب أو أساءه، وهو في النثر قليل الحظ بخلافه هو في الشعر، فأسلوبه جامد ولكنه عميق الشعور يميل إلى الهدم والتدمير، وأقول بعبارة أخرى إن بلوك من رجال «الانحطاط» واعتقادي أن آراء بلوك غير واضحة في ذهنه؛ فكلماته كالأعشاب التي تنبت الأحجار ليس لها جذور عميقة في ذهنه، فهي لا تغور إلى ذلك العمق الذي لو بلغه لتحطم هو أيضا مع ما يسميه «تحطم آداب الإنسانيات».
وبعض الآراء التي أدلى بها في المحاضرة تراءى لي عندئذ كأنه فج لم ينضج، مثال ذلك قوله: «إن نشر الحضارة بين سواد الأمة ليس من المستطاع ولا هو من الضروري». وقوله أيضا: «إن المخترعات قد أخذت مكان المستكشفات».
فإني أعرف أن القرن التاسع عشر والقرن العشرين إنما كان غنيين بالمخترعات لأنهما كانا أعظم العصور وأخصبها في المستكشفات، ثم القول بأن الحضارة غير ضرورية للأمة الروسية وغير ممكنة هو نوع من الهمجية.
وقد أخذت أوضح له رأيي في حذر وحيطة؛ لأن من الصعب أن يناقشه الإنسان في موضوع ما، فإنه يزدري بجميع الناس الذين لا يأنسون إلى عالمه الذهني فينظرون إليه نظرة الاستغراب ويرون أنه غير واضح، وقد كنت أنا أحد هؤلاء، وقد اعتدت أن أجتمع به مرتين في الأسبوع في إدارة الآداب.
وقد تناقشت معه غير مرة عن نقص الترجمة من حيث روح اللغة الروسية، ومثل هذه المناقشات لا تقرب الناس بعضهم من بعض، وكان مثل سائر الموظفين في إدارة الآداب ينظر إلى الأعمال نظرا رسميا فلا يكترث لها.
وقد قال لي إحدى المرات إنه قد سر لأنه رآني قد تخلصت من تلك العادة التي يقع فيها رجال الذهن في روسيا، وهي ميلهم إلى حل المسائل الاجتماعية، وكانت كلماته لي وقتئذ: «لقد كنت على الدوام أشك في حقيقة هذا الميل فيك، وظاهر من قصتك «مدينة أوركوروف» أن المسائل الصبيانية تقلقك وتزعجك، وهي في الواقع أهم االمسائل وأروعها وأعمقها».
وقد كان مخطئا في هذا الزعم ولكني لم أناقشه وقلت في نفسي: «فليعتقد في ما شاء إذا كان هذا الاعتقاد يسره أو إذا كان يضطر إليه اضطرارا».
ولكنه لج في السؤال حتى قال لي: «لماذا لا تكتب عن هذه المسائل؟».
فقلت له: إن مثل هذه المسائل كمعنى الحياة والموت والحب، هي مسائل شخصية تلصق بي أنا وحدي، فلا أحب أن أنشرها على الناس في الأسواق، وإذا اتفق في النادر أنى أفعل ذلك على الرغم مني فإني عندئذ أراني لا أحسن البيان، وكلام الإنسان عن نفسه نوع من الفنون الجميلة لا أزال أجهله.
ثم سرنا إلى بستان الصيف وجلسنا على أحد المقاعد، فكانت عينا بلوك زائغتين، وكانت فيهما لمعة وفي وجهه اختلاجات تنبئ عن حيرة أدركت منها أنه في اشتياق إلى الكلام وإلى السؤال، فحرك قدميه على الأرض، ثم التف إلي وقال بلهجة العتاب: «لماذا تخفي؟ أنت تخفي أفكارك عن الروح وعن الحقيقة، فلماذا تفعل ذلك؟».
وقبلما أجيبه على سؤاله اندفع ينكر على رجال الذهن الروسيين طريقتهم وخطتهم، وينتقدهم بألفاظ لم يعد لها موضع بعد الثورة. فقلت له: إني أعتقد أن الموقف الانتقادي الذي يتخذه ضد رجال الذهن هو في الحقيقة موقف ذهني؛ لأن هذا الموقف الانتقادي لم يكن ليأتي عن طريق الفلاحين الذين لا يعرفون من رجال الذهن سوى الطبيب الذي يبذل نفسه في خدمتهم ومعلم القرية في الأحوال النادرة، وليس هذا موقف عمال المدن الذين لا يعزون فضل رقيهم وتعلمهم إلا إلى رجال الذهن. وهذا الموقف خطأ في ذاته ثم هو قد أزال من رجال الذهن احترامهم لأنفسهم وأتلف عليهم عملهم التاريخي باعتبارهم حفظة الثقافة ووكلاءها؛ فإن مهمتهم في التاريخ وفي المستقبل بل هي الآن تنحصر في القيام بعمل الجواد الذي يجر المركبات، فقد رفعوا العمال بجهودهم التي لا تعرف الكلال إلى مستوى الثورة التي لم يسبق لها مثيل من حيث مدى المسائل التي تحاول حلها الآن وغورها.
فشعرت كأنه لم يكن ينصت إلي، ولكني عندما سكت عاد إلى نغمته الأولى عن رجال الذهن، فأشار إلى تذبذبهم نحو البولشفية ثم التفت إلي وقال هذه الكلمة الصادقة: «لقد أخرجنا روح التدمير من الظلمة وأوجدناه، فليس من الحق بعد ذلك أن ننكر أننا نحن علة وجوده؛ فالبولشفية هي النتيجة التي لم يكن ثم مناص منها لجميع ما قام به رجال الذهن في محاضراتهم في الجامعات وفي مقالاتهم في الصحف وفيما كانوا ينشرونه سرا».
وهنا مرت بنا امرأة جميلة فحيته تحية الوداد، فنظر إليها نظرة جافية كأنه لا يكترث لها. فتركتنا وعلى شفتيها ابتسامة الارتباك. ثم أتبعها بعينيه ينظر إلى قدميها الصغيرتين المترددتين وقال لي: «ماذا تظن في الخلود. في إمكان الخلود؟».
وكان في سؤاله لهجة إلحاح تتبين العناد من نظرته، فقلت له: ربما كان لاميناس صادقا في قوله بأنه ما دامت المادة الموجودة في الكون محدودة فيجب أن يتكرر امتزاج هذه المواد عدة مرار على مدى الأبدية؛ وعلى هذا فمن الممكن أنه بعد ملايين من السنين في مساء أحد الأيام سيجلس هنا في «بستان الصيف» بلوك وجوركي يتحدثان عن الخلود مرة أخرى.
فقال: «هل تتكلم بجد؟».
فدهشت من إلحاحه بل شعرت كأنه يحرجني، ولو أني شعرت أنه لم يسألني عن فضول بل عن رغبته في إزالة خاطر قد علق به كالوسواس يزعجه ويقلقه.
فقلت له ليس هناك من سبب يدعوني إلى اعتقاد أن رأي لاميناس في هذا الموضوع أقل وجاهه من رأي الآخرين الذين كتبوا فيه.
فصك الأرض بقدمه وهو يتململ مع أنه قبل هذه الليلة لم أكن أعهد فيه سوى الصمت والتحفظ. ثم قال: «ولكن عن نفسك. عن نفسك ماذا تعتقد؟».
فقلت: «أما عن شخصي فإني أعتقد أن الإنسان هو أداة تتحول بواسطتها المادة الميتة إلى قوة نفسية، وأنه في أحد الأزمنة الآتية بعد دهر طويل في المستقبل البعيد سيحول الإنسان هذا الكون بأجمعه إلى قوة نفسية لا مادة فيها».
فقال: «لست أفهم ما تعني: تريد عالما روحانيا؟» فقلت: «كلا، فإن الكون كله سينقلب فكرا مجردا، وستزول كل مادة لأنها ستصير فكرا مجردا، فلا يبقى غير الفكر الإنساني يحتوي على لمحات الإنسان الأولى إلى اللحظة الأخيرة حين يتفجر».
فقال وهو يهز رأسه «لست أفهم ما تعني» فأشرت إليه بأن يتوهم الكون باعتباره انحلالا دائما للمادة، والمادة في هذا الانحلال تصدر عنها قوات مختلفة مثل الضوء والأمواج الكهربائية المغنطيسية والأمواج الهرتزية وما إلى ذلك؛ فالفكر هو أيضا انحلال مادة الدماغ، وليس الدماغ سوى تآلف بعض المواد الميتة، ففي دماغ الإنسان تتحول هذه المادة على الدوام إلى قوة نفسية، وهذه القوة ستتآلف أجزاؤها وترتاح إلى التأمل في ذاتها وفى قواها المبتكرة العديدة المختبئة فيها.
فتبسم بلوك وقال: «خيال كامل رديء، ومن حسن الحظ أن الناموس القائل أن المادة لا تفنى يعارض ما تقول» فقلت: «وأنا أيضا أعتقد أن من حسن الحظ أن القوانين التي تصدر عن معامل التدريب لا تتفق ونواميس هذا الكون المجهولة؛ فإني مقتنع بأنه إذا كنا نستطيع وزن هذا الكوكب الذي نسكنه وجدناه يقل بالتدريج».
فهز بلوك رأسه ثانيا وقال: «هذا عبث، فالمسألة أبسط جدا مما ذكرت، وهي تتلخص في أننا قد بلغنا من البراعة حدا صرنا لا نؤمن فيه بالله ثم لم نقو بعد على الإيمان بأنفسنا، أما أساس الحياة والإيمان فوالله ونفسي. تقول النوع البشري؟ ولكن هل تقدر أن تؤمن بالنوع البشري بعد هذه الحرب وهذه الحروب القاسية التي نحن على وشك النزول فيها؟ كلا. إن خيالك غريب وأظن أنك تعبث».
ثم تنهد وقال: «آه لو استطعنا أن نقف عن التفكير مدة عشر سنوات حتى ينطفئ هذا الضوء الخالب، هذه اليراعة التي تسوقنا نحو الظلام، ما أحوجنا إلى أن نصغي بقلوبنا إلى أنغام هذا الكون! يا لهذا الدماغ! إنه عضو لا يصح أن يؤتمن قد عدا طوره في الضخامة والنمو كأنه ورم».
ثم سكت برهة وشفتاه مطبقتان ثم قال في هدوء: «لو وقفت كل حركة ...».
فقلت: «الحركة تقف إذا كان كل شيء حولها يسير بسرعتها».
فنظر إلي بلوك ورفع حاجبيه وأخذ يتكلم بل يهذي بكلمات غامضة لم أفهمها، وشعرت شعورا غريبا، شعرت كأنه يمزق من نفسه خرقا بالية.
ثم وقف فجأة ومد إلي يده مودعا وسار نحو الترام، وقد تشعر وأنت تنظر إليه أن خطواته ثابتة ولكنك متى دققت النظر ألفيتها مضطربة متزعزعة، ومهما كان لباسه من حيث الجودة والنظافة فإنك تشعر أنه يجب أن يختلف الناس في لباسه وهندامه، بخلاف سائر الناس فإنهم مهما لبسوا ومهما كان زيهم لا يختلفون عن غيرهم، ولكن بلوك يختلف عنهم فهو يحتاج إلى زي آخر.
قصة الكافر
دخلت المسيحية مصر في القرن الأول الميلاد، فآمن بها الفقراء أولا، وكانوا يجتمعون اجتماعات سرية فيأخذون في الصلاة وسب الأوثان والأغنياء، ثم قوي فصاروا يجهرون بإيمانهم ويلعنون الأغنياء في الشوارع ويتصدون لهم بالسب والتشهير، وكان بعضهم يذهب خلسة إلى المعابد فيضع الأقذار على الآلهة.
وكان من مبادئ المسيحية ألا يقاوم الشر بالشر، فامتنع المسيحيون من دخول الجيش الروماني وصاروا يحضون الرومانيين على ذلك.
فهاجت لذلك الحكومة الرومانية في مصر ورومية وهاجت الطبقات الغنية، فقد كان لا يمضي يوم إلا ويسمع الأغنياء بأن المسيحيين سيذبحونهم ويوزعون أموالهم على السواء بينهم ويعيشون في شبه شيوعية كما كان يعيش حواريو المسيح.
فأخذ نيرون ودقلديانوس في الضرب على أيدي النصارى ومكافحة هذا الدين الجديد، وصارت الحكومات الرومانية تضطهد المسحيين وتقبض عليهم في كل مكان، وتأمر بقتلهم أو رجوعهم إلى ديانة الأوثان، فكان ضعاف القلوب والإيمان وذوو المسئوليات العائلية ينكرون إيمانهم جهرا ويؤمنون به سرا، وهم في كل ذلك ينتظرون الزمن السعيد الذي يزول فيه عن الناس حكم الناس ولا يبقى سوى حكم الله.
وكان في إحدى مدن الصعيد شاب يدعى جورجي، وكان من أسرة غنية إذ كان أبوه قاضيا في المدينة، وكان الأغنياء يشبهون بالرومانيين في التسمي بأسمائهم دون الأسماء المصرية، ونشأ جرجي معبدا يغشى المعابد ويصلي أمام الآلهة وكثيرا ما كان يقضي طول نهاره وهو قائم يتعبد وكان يتهجد أيضا بعض الليل.
وكان يكره المسيحيين ويعتبرهم كفرة طغاة يجب أن يتقرب الإنسان إلى الآلهة بذبحهم، وكان يلاحظ أحوال الخدم في بيت أبيه ويحذرهم من الانضمام إلى تلك الشيعة الجديدة التي تدعي أنها مؤمنة بإله لا يرى ولا يحس.
وكان الخدم يعرفون تعصبه للأوثان فيتظاهرون بالطاعة ويضمرون بالمسيحية، ولكن كان من بينهم خادم حصيف رأى من حرارته الدينية وشدة إيمانه مادة غفلا يمكن استعمالها في نشر المسيحية، فصار يتقرب إليه ويتلطف له في الحوار، يراجعه بالحسنى ويداوره بالمكر حتى استطاع أن يأخذه إلى أحد أندية المسيحيين بعد أن استوثق منه ألا يفشي سرهم.
وذهب جرجي مع الخادم إلى حيث يجتمع المسيحيون، وكانوا يجتمعون في جبانة قديمة مهجورة، وكان أكثر قبورها مكشوفا محطما، فرأى هناك شيئا غريبا لم ير مثله قط بين عبدة الأوثان.
فقد اعتاد أن يرى كهنة الأوثان يضعون أفخر الحلل ويأكلون أشهى الأطعمة ويعيشون أنعم عيشة يتقلبون في الترف واللذة، عليهم الديباج والذهب ولهم الخدم والحشم والضياع الواسعة العامرة تأتيهم بالريع الكثير والخير العميم، أما هؤلاء المسيحيون فكانوا في خرق بالية قد خرجوا من كل ما يملكون إلا إيمانهم بربهم وحبهم للناس ورغبتهم في خدمة الفقير، وكانوا إذا وقفوا للصلاة أداموا الوقوف والسجود ساعات متوالية فإذا وعظهم واحد منهم خروا على وجوههم وبكوا أحر البكاء، يفعلون ذلك حتى يطلع الفجر فيعودون إلى أعمالهم بالنهار.
فأخذ جرجي في محاجة شيوخهم عن الإيمان الحقيقي فلم يدم الحال طويلا حتى آمن إيمانهم.
ولكنه لم يكن خائر النفس ضعيف الإيمان حتى يضمره ويظهر الوثنية، فإنه جهر بدينه الجديد وصار يتصدى للأغنياء ويدعوهم إلى ترك أموالهم للفقراء والإيمان بالمسيحية، وينذرهم بالعقاب العاجل الذي سينزل من السماء ويحل بهم إذا هم أصروا على عبادة الأوثان، ولو كانت الدعوة إلى المسيحية في تلك الأيام مقصورة على الإيمان فقط لما وجد المسيحيون عناء في هدم الأصنام وتعميم المسيحية، ولكنهم كانوا يطلبون من الأغنياء ترك أموالهم وتوزيعها بين الفقراء.
فهاج الأغنياء لهذه الدعوة الجديدة، وعقدوا محفلا أوضح فيه خطباؤهم أن جرجي قد أثار الفقراء علي الأغنياء وأنه كسر بعض الأصنام، وأنه يعتز بوجود أبيه في كرسي قضاة المدينة فهو لا يقبض عليه ولا يحكم عليه بالموت مع أن غيره ممن جهر بهذه الدعوة قد حكم عليه بالموت.
وانقسمت المدينة حزبين: حزب الفقراء النصارى وهم يؤيدون جرجي، وحزب الأغنياء والموظفين والكهنة وهم يطلبون قتل جرجي بلا محاباة لأنه قد كفر بدين الآباء وحرض الفقراء على العصيان واغتصاب أموال الأغنياء.
وكان جرجي وحيد أبيه، وكان أبوه رجلا مستنيرا قد قرأ بعض الكتب الإغريقية، ففتقت ذهنه وصبغت مزاجه وعقله بصبغة التساهل والتفكير الحر، فلم يكن يبالي بإيمان الناس ويعتقد أن الإيمان يفيد العامة والرعاع ويزعهم عن ارتكاب الموبقات كائنا ما كان هذا الإيمان وثنيا أم مسيحيا.
فلما أحرج علي محاكمة ابنه لم يجد بدا من هذه المحاكمة، ولكنه أراد أن يبرئه فعقد المحاكمة وقضى بأن جرجي قد كفر بديانة الآباء، ولكنه لم يحكم بقتله لهذا السبب بل خيره في أن يأتي بمعجزة إن كان دينه صادقا.
وكان خارج المحكمة زير كبير قد حفر له في الأرض ووضع فيها إلى نصفه، فقال القاضي: «سنملأ هذا الزير ماء فإذا كان دينك الجديد حقا فنحن نتركك يوما كاملا مع هذا الزير فإذا نزحته دون أن تعتمد على كوز أو أي شيء آخر فإننا نؤمن بإلهك ونترك أوثاننا».
وكان المسيحيون مشهورين في ذلك الوقت بقوة الإيمان، وكانوا يقولون بأن الإيمان إذا كان خالصا لا شائبة فيه يزحزح الجبال.
وفرح الأغنياء لهذا الحكم ورأوا أنه بمثابة القتل؛ لأن المعجزات والكرامات لا تحصل للناس في ضوء النهار، وكان أكثرهم تأكدا من ذلك هم الكهنة.
ولكن جرجي كان قوي الإيمان فقبل وقت المحاكمة هذا الشرط، ورضي أن يقتل إذا لم يقم به.
وجاء يوم المحنة فخرج الحرس وساقوا جرجي مغلولا إلى جانب الزير، ووقفوا هم بعيدا عنه، واجتمع إليهم كثير من المسحيين والوثنيين وكلهم بين الرجاء والخوف وان اختلفت نياتهم.
ونظر جرجي إلى الزير فدب في قلبه الشك، فقد كان ضخما كبير البطن ثابتا في الأرض إلى نصفه.
وكان قد أقيم بين المتهم والحرس والجمهور حاجز يخفيه عنهم، وكانوا جميعا ينتظرون آخر النهار لكي يروا هل تتم الكرامة أو لا.
وشعر جرجي بالخزي والعار لقلة إيمانه ولقتله علنا أمام إخوانه المسحيين ثانيا، فاخرج مدية من تحت ملابسه وضرب بها نفسه.
وجاء آخر النهار فذهب الحرس إلى الزير فلم يجدوا به ماء ولكنهم وجدوا جرجي مقتولا مضرجا بدمه إلى جانب الزير.
فذهبوا إلى القاضي وقالوا وهم يتعجبون: «لقد تمت المعجزة ولكن جرجي قد قتل نفسه». •••
وعندما اختلى القاضي بزوجته أخذ الاثنان يتناجيان الحديث عن حوادث ذلك اليوم المشئوم قال القاضي: «لقد كان قليل الإيمان؛ فقد كان الزير مكسورا فلا بد أن الماء كان سيرشح إلى الأرض ويذهب فيها، ولكنه كان قليل الإيمان قليل الصبر».
ثم أخذ يبكي.
ولم تزد هذه المعجزة المسيحيين سوى زيادة تشبثهم بإيمانهم، ولكن الوثنيين زادوا أيضا تمسكا بإيمانهم وتعلقا بأموالهم.
في أدب الزنوج
القصة التالية من القصص المنظومة التي يتغنى بها المنشدون الجائلون في بلاد الزنج الواقعة بين نهر النيجر وبين الصحراء الكبرى الغربية الإفريقية، فإذا دخل المنشد القرية انعقد حوله سامر وأخذ يقص على المجتمعين أقاصيص النجدة والبسالة التي يتصف بها أبطال الزنج.
ويرى القارئ في هذه القصة أن الزنج يشتركون وسائر الأمم في تلك الأحدوثة القديمة التي كنا نسمعها ونحن أطفال عن ابن الملك الذي يهجر أباه ويتزوج من ابنة ملك آخر ويظفر في القتال وما إلى ذلك. قال:
كان سمبا جبانا، وكان منذ طفولته إذا رأى أحدا يرفع يده يصيح من الخوف، وكان إذا صرخ في وجهه أحد جرى منه مرعوبا، ونشأ على هذه الحال حتى صار رجلا، وأعطاه أبوه فرسا وسائسا وعين له أيضا منشدا لكي يقص عليه الأقاصيص ويؤدبه، وكان جميع الناس يحتقرونه لجبنه، فقالت أمه لمؤدبه: «جميع الناس يسخرون من ابني فهل لك من سبيل إلى إصلاحه؟».
فأجابها المؤدب قائلا: «لا يمكن إصلاحه فإني كل يوم أعلمه الشجاعة وأقص عليه جميع الملاحم العظمى لكي أبعث في نفسه روح المنافسة، ولكنه كان جبانا في صغره وسيبقى كذلك في كبره».
فقالت أمه: «يا لفضيحة أسرتنا! لست أطيق هذا. يا للعار!».
وبعد ذلك بأيام قرع طبل الحرب لأن معركة كانت على وشك النشوب قريبا من مكانهم، فقال المؤدب لسمبا: «لقد قرع طبل الحرب» فلم يجبه سمبا. وبعد صمت قليل عاد المؤدب وقال: «لقد قرعت الطبول، فهلا ذهبنا إلى المعركة؟».
فقال سمبا: «ما ظنك بي؟ هل تظن أني سأذهب إلى الحرب لأنك قصصت علي الأقاصيص؟ كلا. إني سأبقى هنا».
ثم جاء والد سمبا وقال له: «اصغ إلي يا بني. ألست تذهب إلى الحرب مع الآخرين».
فقال سمبا: «كلا. إني أفضل البقاء هنا في البيت».
فصاح به أبوه عندئذ قائلا: «لقد فضحتني. اذهب عني. فلا أراك بعد الآن».
قالت أمه: «عندما أنظر إليك أشعر بالفضيحة والعار، فاذهب عنا».
فخرج سمبا وهتف بالسائس فلباه، فقال له: «لقد طردني أبواي لأني أكره الذهاب إلى الحرب، أسرج لي فرسي فإني سأبحث عن بلاد لا يكون فيها حرب أو قتال».
وأسرج الفرس وجاء المؤدب وقال: «اني أرغب في أن أذهب معك إلى بلاد نائية».
وخرج الثلاثة معا وصاروا يجوبون البراري حتى مضى شهر ونصف، وأخيرا انتهيا إلى جوار قرية كبيرة، وكان يحكم هذه القرية حاكم شديد وكانت له ابنة لم تزل بكرا، وكانت أمة هذه الفتاة في الغابة قد خرجت تحتطب، وما كادت تضع الحطب على رأسها وتسير نحو البيت حتى وقعت عينها على سامبا فافتتنت بجماله وهو ممتط صهوة جواده، حتى ألقت بالحطب على الأرض وجرت إلى البيت فقالت لسيدتها: «وصل إلى القرية فارس جميل معه مؤدبه وسائسه، اسألي والدك أن يحتفي بزيارتهم بمكان طيب ينزل فيه».
فذهبت الفتاة إلى والدها وطلبت إليه ما أشارت عليها به الأمة.
وجاء سمبا واستقبله الحاكم وأنزله في عشة كبيرة وذبح له خروفا إكراما لمقدمه: ونزل سمبا وعاش في هذه القرية وتزوج من ابنة الحاكم.
وفى أحد الأيام دقت طبول الحرب، وكان سمبا راقدا في بيته لا يبالي بصيحة الحرب، وجاءت إليه زوجته وركعت أمام باب غرفته احتراما له ثم قالت: «سمبا. أتسمع طبول الحرب؟ ألست ذاهبا إلى القتال».
فنهض سمبا وقال «ما هذا؟ أتظنين أني أذهب إلى الحرب لأن أباك ذبح لي خروفا؟ كلا. لن أفعل هذا فإني أكره الحرب؛ فإني سمبا الجبان، طردني أبواي لأني جبان أرفض القتال».
فنهضت ابنة الحاكم وقد أخذ منها الحنق وقالت: «هل أنت هذا الرجل؟ هل أنت سمبا الجبان؟ إذن هذه قطيعة بيني وبينك وقد طلقتك، فاذهب في تجوالك فإني لا أحبك».
فصاح سمبا بسائسه وأمره أن يسرج فرسه وهم بركوبه لكي يذهب، فقال له مؤدبه: «سأعود إلى قريتنا فإني أكره البقاء معك إذ لا فائدة من ذلك، فلست أنتظر منك سوى العار والفضيحة».
ورجع المؤدب إلى قريته، أما سمبا وسائسه فأخذا في تجوالهما حتى انتهيا إلى قرية كبيرة وكان يحكمها ملك عظيم، وكان لهذا الملك ابنة عاقلة جميلة لم تتزوج بعد. وكانت أمة هذه الفتاة قد خرجت لكي تغسل ملابس مولاتها على شاطئ النهر قريبا من باب المدينة، فما هو أن رأت الفارس ووراءه سائسه حتى أخذ جماله ببصرها فافتتنت وتركت الملابس وجرت إلى سيدتها فدخلت عليها في غرفتها، وقالت لها: «رأيت فارسا جميلا يقترب من المدينة، اطلبي إلى أبيك أن يستقبله ويحتفي به فإني لم أر أجمل منه في حياتي»
وذهبت الفتاة إلى والدها الملك وقالت له: لقد أخبروني أن فارسا جميلا قد اقترب من المدينة فأرجوك أن تستقبله وتحتفي به.
فأعد له الملك مكانا شريفا، وعندما وصل سمبا ذبح له ثورا، وقالت الفتاة لأمتها: «لقد قلت صدقا فإنه أجمل من رأت عيناي» ثم كافأتها بثوب جميل.
فانشرح صدر سمبا لهذا الاستقبال وعاش في المدينة كأنه من أهلها، وكانت الأطعمة الفاخرة تقدم إليه كل يوم. وتزوج ابنة الملك وأولمت الولائم المطهمة في عرسهما، ولكن لم تمض أيام بعد ذلك حتى قرعت طبول الحرب وتصايح الناس: «العدو على الأبواب. العدو على الأبواب!» وتصامم سمبا عن هذه الصيحة.
ووقفت زوجته تراقب ما يفعل زوجها وما أزمع، ولما لم تر شيئا ركعت أمامه وقالت له: «سمبا لقد قرعت طبول، فاذهب مع رجال الملك لكي تقاتل العدو»
فقال سمبا: «لن أذهب. فقد طردني أبواي لخوفي من الحرب؛ ولذلك هم يسمونني سمبا الجبان، وقد طلقتني امرأتي الأولى لأني جبان، فهل تظنين أني تغيرت وأني أذهب إلى القتال لأن أباك ذبح لي ثورا؟ كلا لن أذهب. وإذا لم ترغبي ببقائي فإني أرحل عنك».
وكانت الفتاة مع جمالها وكبريائها ذكية وقد تحدثت كثيرا إلى سمبا منذ زواجهما، وعرفت سريرته وكانت متعلقة به لفرط جماله. فقالت له: «لن أتركك ولو أنك تقول إنك سمبا الجبان، فإني سأرتدي ملابسك وأذهب بنفسي إلى العدو، والظلام ينتشر الآن فلن يعرفني أحد».
وكان هناك عبيد سمعوا وعرفوا كل ما قيل ولبست ابنة الملك ملابس زوجها وقالت لهم: «إن من يبوح منكم بما رأى فإني سأقطع رأسه».
ثم امتطت جواد سمبا وركضته في الظلام، وصار سمبا ينظر إليها وهو غارق في التفكير.
وتبين بعد ذلك أن صيحة الحرب كانت هرجا لا أصل له إذ لم يكن هناك قتال، وعاد المقاتلون في نصف الليل ومعهم ابنة الملك التي خلعت ملابس زوجها عند وصولها ولبست ملابسها، وكان سمبا يعبر أحد ميادين المدينة فسمع منشدا يتغنى ويقول: «رأيت فارسا شجاعا ليس من أهل مدينتنا يخرج إلى العدو وكله شجاعة ونجدة، ولو وقعت الوقعة لأبلى فيها وقتل الكثيرين ونشر جثثهم على الأرض».
وسمع سمبا هذا المنشد ثم عاد إلى منزله، وكانت زوجته حزينة لأنها لم تستطع أن تجعل من زوجها مقاتلا.
وأخذت تفكر في هذا الموضوع وتدرس أخلاق سمبا وكان مما يرجيها في ذلك أنه كان لا يزال صغير السن.
وحدث بعد ذلك في أحد الأيام أن جاء الملك وقال لابنته: «إذا لم أكن مخطئا فإني أتوقع أن نقاتل أعداءنا هذا المساء. فأخبري سمبا بذلك ولكن احذري من أن يفشوا الخبر بين أهل المدينة».
فذهبت وأخبرت زوجها، ثم اشترت قرعة مملوءة بخمر العسل، فلما أمسى المساء ذهبت إلى سمبا فلم يعرف سمبا ما معها لأنه كان ساذج القلب لم يكن يدري أن هناك من الأشربة ما يسكر، فسألها عنه فقالت: «هذا شراب ينفع البدن، اشرب قليلا منه».
فجرع سمبا منه قليلا ثم قال: «لم تخبريني قبلا عن هذا الشراب الفاخر؟»
وصار يشرب حتى صعد الشراب إلى رأسه فلما رأت ذلك زوجته قالت له: «يعتقد الناس هنا أنك قوي وأنك يمكنك أن تقتل عصابة لصوص بأكملها» فتبسم سمبا وأخذ يوالي الشرب.
وقرعت طبول الحرب فهمت زوجته بأن تلبس ملابسه وتخرج، ولكنه أوقفها قائلا: «هل تبغين الذهاب بدلا مني إلى الحرب؟ كلا. فإن الطبول تقرع لأجلي أنا وحدي والناس يقولون إني يمكنني أن أهزم عصابة لصوص بأجمعها».
ثم نادى سائسه وأمره بتهيئة جواده لأنه يريد الذهاب إلى الحرب.
وذهب إلى المعركة وقتل أحد الأعداء وعاد إلى زوجته وقال: «لقد ساء حظي هذا اليوم إذ لم أقتل غير واحد» ثم رقد ونام.
وكان بجانب المدينة التي يسكن فيها صهر سمبا رجل مشهور بشراسته وجبروته وسعة أراضيه، وكان يدعى جومبل وكان عنده من العبيد الذين يشتغلون في أرضه عدد كبير، وكان يقتل كل من يطأ أرضه عمدا وسهوا ويعلق رءوسهم على الأشجار حول أملاكه، وكان من الشهرة والشجاعة بحيث كان الجميع يخشون اسمه ويتفادون السير على الطرق التي تؤدي إلى أرضه.
ولما رأت ابنة الملك أثر الخمر على سمبا اشترت شعيرا وخمرته جعة قوية في بيتها وصارت تناوله وهو يشرب حتى إذا انتشى قالت له: «الناس جميعهم يطرون شجاعتك».
فقال سمبا: «كلا. إني ما فعلت شيئا. فإني أسمع عن رجل يدعى جومبل».
فقالت زوجته: «لا تذكر اسمه؛ فإن الجميع يخافونه».
فأخذ سمبا قرعة الجعة وجرع جرعة كبيرة ثم نهض وقال: «هلمي إلى أبيك أخبريه بأن يأمر بقرع الطبول لأني أريد أن أقاتل جومبل».
فسارعت إلى أبيها وأخبرته بذلك فسر لهذا الخبر وأمر بقرع الطبول.
ثم امتطى سمبا صهوة جواده واستصحب معه مئة مقاتل ومئة منشد ومئة عبد ومئة نعال ممن ينعلون الخيل، فلما ساروا بعض المسافة انشعب الطريق طريقين، يمينهما رحب ممهد ويسارهما ضيق يؤدي إلى أرض جومبل، فأخذ سمبا طريق اليسار، فلما سار هنيهة وقف العبيد وقالوا: «هذه حرب جنونية فلنتركها ولنعد».
ثم تفرقوا وعادوا من حيث أتوا، وبعد مدة وقف المنشدون والنعالون وقالوا: «حسبنا سيرا؛ فإن أرض جومبل تقع وراء هذه الأكمة».
فلم يبق معه سوى المقاتلين وهؤلاء ساروا قليلا ثم وقفوا أيضا، فسار سمبا بمفرده حتى أوطأ جواده أرض جومبل وكان يشتغل فيها سبعمئة من أولاده وعبيده، وكان جومبل نفسه راقدا في ظل شجرة على شاطئ جدول، فسار إليه سمبا وكأنه لا يراه ونظر إليه جومبل وهو لا يكاد ينطق من الدهشة، ثم صاح فيه قائلا. «أيها الفتى العجيب، هل أنت غريب عن هذه البلاد؟».
فقال سمبا: «أجل أنا غريب».
فقال جومبل. «وكيف ذلك؟ ألم يخبرك أحد من شيوخ بلادك عما يحصل لمن يطأ أرضي؟ ألا فاعلم أني قتلت جميع من مست نعال خيولهم أرضي. قبضت عليهم وقطعت رءوسهم وعلقتها في تلك الأشجار التي أمامك، فاعلم بمكانك الآن»
فقال سمبا: «أراني قد بلغت المكان الذي أردته، فأنا في طلب جومبل».
فقال جومبل. «هأنذا، قل ما تريده فإنك فتى جميل لك ملامح حسنة، ولكن انزل عن جوادك وأخرجه من أرضي أولا ثم اجمع التراب الذي داس عليه وذره في الرياح خارج أرضي، وأنا أطلب إليك هذا قبل أن نصير صديقين».
فقال سمبا: «إنك لم تفهم غرضي، دعك من كل هذا، إني إنما جئت لكي أقتلك أيها الوغد».
فقال جومبل: «كن لطيفا في مزاحك فإنك لو لم تكن فتى جميلا لكنت علقت رأسك إلى تلك الشجرة، ولكني سأمنحك فرصة أخرى؛ فلعلك جائع تبحث عن عمل ترتزق منه، فإذا كنت كذلك فهناك عبدين أعطيهما لك هدية فإني أحب ملامح وجهك».
فقال سمبا. «أرى أنك لا تريد أن تفهم ما أريده منك؛ فإني لا أقصد سوى قتلك».
وفي الحال قفز جومبل على بندقيته وأطلقها على سمبا ولكنه أخطأ، فقبض سمبا عليه وحمله وأداره بين يديه، وهم أولاد جومبل وعبيده بالهجوم على سمبا ولكن جومبل منعهم وقال لسمبا: «لقد اغتنمت انطلاق البندقية وخطأها».
فتركه سمبا حتى أطلق البندقية مرة أخرى عليه ولكنه أخطأ أيضا، إذ أصابت لباس رأسه فقط، وقبض عليه سمبا مرة ثانية وأداره في الهواء ثم قال له: «هبني غلبتك مرة ثالثة هل تصير سائسا عندي؟»
فقال جومبل: «لا يمكنك أن تغلبني مرة ثالثة»
فافترقا، وهم جومبل بإطلاق البندقية ولكن سمبا قفز عليه وقبض عليه قبل أن يطلقها وأداره في الهواء المرة الثالثة، وحاول أولاد جومبل وعبيده السبعمئة أن يهجموا على سمبا ولكن جومبل منعهم وقال لسمبا: «لقد غلبتني وسأكون سائس جوادك وخادمك، أفعل ما تريد».
فعاد سمبا ووراءه جومبل حتى وصل إلى حيث كان المئة المقاتلون، وصاحوا بنصر سمبا وهزيمة جومبل، ولكن جومبل قال لهم: «لا تهزءوا بي وإلا رأيتم مني ما تأسفون له فأنا خادم سمبا ولست خادمكم، وحسبكم أن تمدحوا سيدكم لأنه شجاع قوي جميل».
وعاد الجميع إلى ابنة الملك حيث عاش جومبل خادما لسمبا.
لمحة في الأدب الروسي
من سمات الأدب الروسي تلك السذاجة النادرة التي لا تكاد توجد في أدب الأمم الأخرى، فالألفاظ على قدر المعاني والمجازات والاستعارات وسائر ألاعيب البديع لا وجود لها إلا في النادر الأقل.
ومن سماته أيضا تلك النزعة التقريرية والاقتصار على وصف حادثة أو حالة دون تمهيد أو استنتاج، فالمؤلف لا يعظ ولا يعلق ولا يشرح، وإنما يقرر ويترك الصورة الذهنية التي يرسمها بقلمه تفعل فعلها في ذهن القارئ.
ومن سمات الأدب الروسي أيضا نزعة أخرى هي النظر إلى الجوانب المظلمة والتلذذ بوصف الأمراض والكوارث والفاقة والتعس وما إلى ذلك، ولكن ليس كل أدباء روسيا سواء في ذلك، فمن أشدهم ميلا إلى هذه النزعة دستؤفسكي وأندرييف، ولكن تشيهوف وتولستوي لم تخل قصصهما من هذه النزعة أيضا.
وتشيهوف هذا هو من الذين أتقنوا فن القصة الصغيرة، وأظن أن أكبر ما جعله يملك ناصية هذا الفن هو أنه يمتاز حتى على سائر أدباء الروس بمبالغته في السذاجة، فهو لا يتكلف إحساسا كاذبا ولا يداري ولا يبالغ، وقد قال عنه الأديب المعروف مكسيم جوركي. «أظن أن كل من حضر أنطون تشيهوف كان يشعر دون أن يعي برغبته في أن يكون أكثر سذاجة وأصدق مظهرا مما كان قبلا، وكثيرا ما كنت أرى الناس يخلعون عن أنفسهم ذلك الكساء المزخرف الرخيص من عبارات الكتب والألفاظ المنمقة، وسائر تلك الحيل التي يتحلى بها الروسي لكي يظهر بمظهر الأوروبي كما يزين المتوحشون أنفسهم بالصدف وأسنان السمك، فكان تشيهوف يكره أسنان السمك وريش الديكة، فكان ينزعج إذا رأى أحدا قد وضع على نفسه كساء لامعا غريبا لكي يظهر بذلك ضخما في أعين الناس، وكنت ألاحظ أنه عندما كان يرى رجلا في هذا الزي يحاول أن ينفذ من هذا البهرج إلى نفسه الحية، وقد عاش تشيهوف طول حياته صريحا حرا في قرارة نفسه ولم يكن يبالي بما كان ينتظره الناس منه أو بما يطالبه به أناس آخرون أخشن منهم طبعا».
وفيما يلي يرى القارئ إحدى قصص تشيهوف وهو يمثل فيها سذاجة طفل قد هجر أبوه أمه لعلاقتها برجل أخر يزور البيت ويجالس هذا الطفل. قال:
كان بيلاييف شابا في الثانية والثلاثين، أحمر الوجه، عليه دلائل الشبع والعافية، وكان يملك بعض الأملاك في بطرسبرج، ويقصد أكثر أوقاته لزيارة مضمار سباق الخيول، فلما كان مساء أحد الأيام توجه إلى منزل مدام أولجا حيث كان يقيم معها أو كما كان يقول هو أنه كان يمثل معها قصة غرامية طويلة متعبة. والحقيقة أنه كان في هذا الوقت قد انتهى من قراءة الصفحات الأولى اللذيذة من هذه القصة، ولم يبق سوى صفحات لا تنتهي وليس فيها شيء من اللذة والطلاوة.
ولما لم يجد مدام أولجا في المنزل جلس على ديوان في غرفة الاستقبال ينتظر مجيئها، فما هو أن فعل ذلك حتى سمع صوت طفل يقول: «مساء الخير يا بيلاييف، ستكون أمي هنا حالا، فقد ذهبت مع سونية إلى الخياطة».
وكان صاحب هذا الصوت طفلا يدعى اليوشا وهو ابن مدام أولجا، وكان في الثامنة من عمره حسن الهيئة جميل اللباس، فكانت سترته من القطيفة، يغطي ساقيه جورب أسود، وجاء وجلس على ديوان آخر في الغرفة نفسها، ثم تولاه مرح الطفولة وكأنه أراد أن يقلد بهلوانا رآه يلعب من مدة في أحد الملاهي، فرفع ساقه في الهواء ثم رفع الأخرى، فلما تعبت ساقاه الجميلتان عاد إلى يديه وحاول أن يمشي عليهما، وكان يفعل ذلك بجد واهتمام وهو يلهث ويئن كأنه يأسف لأن الله قد أعطاه هذا الجسم المرح.
فقال بيلاييف: «مساء الخير يا بني، أأنت اليوشا؟ إني لم أراك، كيف والدتك؟»
فقبض اليوشا على قدمه اليسري بيده اليمنى وجذبها وهو يتلوى في ذلك ثم وثب على قدميه، ونظر إلى بيلاييف من خلال ظل المصباح وقال: «لا أدري كيف والدتي، فهي امرأة وكل امرأة تشكو من شيء ما».
وأخذ بيلاييف ينظر إلى وجه اليوشا، ولم يكن قد انتبه إلى هذا الصبي قبلا طول مدة علاقته بمدام أولجا، بل كان يتجاهل وجوده، وكان اليوشا أمامه كل يوم، ولكن بيلاييف لم يسأل نفسه مرة عن سبب وجوده أو عن الدور الذي يمثله.
وكان وجه اليوشا في غسق ذلك المساء يشبه بجبهته البيضاء وعينيه السوداوين وجه مدام أولجا في الصفحات الأولى من تلك القصة الغرامية، فشعر بيلاييف وهو ينظر إليه بعاطفة الصداقة نحوه، وقال له: «تعال إلى هنا أيها الصغير، تعال هنا لكي أراك جيدا».
فقفز اليوشا من الديوان إلى بيلاييف فوضع بيلاييف يده على كتف الصبي النحيف وقال: «كيف حالكم الآن؟». «كان حالنا أحسن من الماضي». - «ولم؟» «مسألة بسيطة. كنت أنا وسونية لا نحفظ سوى الموسيقى والقراءة أما الآن فهم يجعلوننا نحفظ الألفاظ الفرنسية، هل حلقت لحيتك؟» - «نعم» «هذا صحيح، لحيتك قصيرة. دعني ألمسها. هل تؤلمك؟» - «كلا». «لماذا إذا شددنا شعرة واحدة تؤلمنا وإذا شددنا خصلة كبيرة لا تتألم؟ ولماذا لا تربي شعرك في عارضيك؟ هنا يجب أن تحلق شعرك أما هنا في الجوانب فيجب أن تتركه».
ثم أخذ يلعب في سلسلة بيلاييف وقال: «عندما أذهب إلى المدرسة العليا ستشتري أمي لي ساعة وسأجعلها تشتري لي سلسلة مثل هذه ... ماما ... نوط، نعم نوط، أبي له نوط مثل هذا في سلسلة، ولكن نوط أبي عليه حروف أما هذا فعليه قضبان صغيرة ... وصورة أمي في وسط نوطه، وأبي له سلسلة مختلفة ليس فيها حلقات ... تشبه الشريط ...». - «وكيف تعرف؟ هل ترى أباك؟» «أنا، نعم ... كلا ... أمي».
احتقن وجهه بالحياء وارتبك وشعر كأن كذبته قد بانت، فأخذ يمسح النوط بشدة، فأحد بيلاييف نظره فيه وقال: «هل ترى أباك؟». «لا ... لا ... لا». «قل الحق بشرفك، فإنه ظاهر أنك تكذب، فما دمت قد فلتت الحقيقة من لسانك فلا تحاول الإنكار الآن، قل هل تراه؟ قل لي الآن أنت صديقي».
فتردد اليوشا ثم قال: «ولكنك لا تخبر أمي؟». - «كلا، أبدا». - «بشرفك». - «بشرفي». - «احلف». - «إنك لطفل غريب، ماذا تظنني؟».
فنظر اليوشا إلى ما حوله ثم فتح عينيه وهمس إلى بيلاييف قائلا: «ولكن أرجوك ألا تخبر أمي، ولا تخبر أحدا لأن هذا سر، وإذا عرفت أمي نقع كلنا أنا وسونية وبيلاجيه، اسمع الآن: أنا وسونيه نذهب كل يوم ثلاثاء وجمعة ونقابل أبانا فإن بيلاجيه تأخذنا قبل العشاء للتنزه فنجد أبانا ينتظرنا في مطعم إيفل، وهو يجلس في غرفة وحده وأمامه مائدة من الرخام عليها منفضة في شكل أوزة بدون ظهر». - «وماذا تفعلون هناك؟» - «لا شيء، نقول أولا: كيف حالك؟ ثم نجلس حول المائدة ويشتري لنا أبونا الفطائر والقهوة، وسونية تأكل الفطير المحشو باللحم، أما أنا فلا أطيق ذلك لأني لا أحب سوى عصيدة الكرنب الأبيض، ونحن نأكل كثيرا عند أبي حتى إننا عندما نجلس مع والدتنا في العشاء نجتهد في أن نأكل شيئا حتى لا تلحظ أننا أكلنا قبلا» - «وعن أي شيء تتكلمون؟» «مع أبي؟ نتكلم عن أي شيء، فهو يقبلنا ويعانقنا ويذكر لنا نوادر مضحكة، وهو يقول لنا أننا عندما نكبر سيأخذنا لكي نعيش معه، وسونية تقول إنها لا ترغب في الذهاب أما أنا فأرغب ذلك، وطبعا سأشتاق لرؤية والدتي ولكني سأكتب إليها خطابات، ويمكننا أن نأتي ونزورها في وقت الإجازات. ألا يمكن ذلك؟ إنها فكرة غريبة، وأبي يقول أيضا إنه سيشتري لي جوادا، وهو كثير الحنان علينا، ولا أدري لماذا لا تطلب إليه أمي أن يأتي ويسكن معنا هنا، ولماذا تمنعنا من أن نزوره، أتعرف أنه يحب والدتي جدا؟ فهو يسألنا دائما عن صحتها وعما تفعل، ولما كانت مريضة أمسك رأسه بيديه هكذا ... ثم. ثم أخذ يمشي بسرعة في الغرفة، وهو يطلب منا أن نطيعها ونحترمها على الدوام، اسمع هذا: هل صحيح إننا تعساء؟» - «أهم ... لماذا؟» - «هذا ما يقوله أبي، يقول: «أنتم أطفال تعساء» أليس كلامه هذا غريبا؟ فهو يقول: «أنتم تعساء وأنا تعيس وأمكم تعيسة» ويقول لنا أيضا: «يجب أن تصلوا لأجل أنفسكم ولأجل والدتكم»
ثم نظر اليوشا إلى طائر محنط في الغرفة واستسلم للخواطر.
فقال بيلاييف وصوته يتهدج: «إذن ... هذا ما تفعلونه، تلتقون في المطاعم وأمكم لا تدري شيئا». - لا، لا تدري شيئا وكيف تدري؟ فإن بيلاجيه لا تخبرها، وقد أعطانا أول من أمس بعضا من الكمثرى، كانت حلوة كالمربى فأكلت منها اثنتين». - «أهم اسمع لي ... اسمع، هل قال أبوك شيئا عني» - «عنك؟ ماذا أقول؟».
ونظر الصغير إلى وجه بيلاييف كأنه يتفرسه ثم هز كتفيه وقال: «لم يقل شيئا مهما». - «مثال ذلك، ماذا قال؟». - «ألا تغضب إذا قلت لك؟». - «وماذا بعد ذلك؟ ولم؟ هل يسبني أمامكم؟». - «لا. لايسبك ولكنه مغضب، ويقول إنك علة شقاء أمي وإنك سبب خراب بيتها، وكلامه من هذا الموضوع غريب، فإني أقول له إنك حنون شفيق وإنك لا توبخ أمي مطلقا، ولكنه يهز رأسه». - «فهو إذن يقول إني خربت بيتها؟» - «نعم. ولكن لا تغضب».
فنهض بيلاييف ووقف قليلا ثم أخذ يمشي في الغرفة ذهابا وإيابا، ثم جعل يدمدم قائلا: «كل اللوم عليه، ومع ذلك يقول إني خربت بيتها، ألعله الحمل البريء؟ فهو إذن يقول لكم إني خربت بيت والدتكم؟» - «نعم. لكنك قلت إنك لن تغضب، ألم تقل ذلك؟» - «لم أغضب، وليس هذا شأنك، إن هذا لأمر عجب، لقد وضعوني هم أنفسهم في المسألة كما توضع الدجاجة في الحساء والآن يقع علي اللوم».
ثم سمع طرقات على الباب، فقفز اليوشا وجرى إلى خارج الغرفة، وبعد لحظة دخلت سيدة تصحبها صبية صغيرة، وكانت السيدة مدام أولجا والصبية ابنتها سونية، ودخل في أثرهما اليوشا وهو يقفز ويمرح ويلوح بيده، فلما رآهما بيلاييف هز رأسه واستمر في مشيه في الغرفة، ثم دمدم قائلا: «طبعا إن الذنب ذنبي وإلا فعلى من يقع أنه صادق فهو زوج قد ثلم عرضه».
فقالت مدام أولجا: «عم تتكلم؟» - «عم أتكلم؟ ألم تسمعي ما يشيعه زوجك عني؟ يقول إني وغد سافل خربت بيتك وأشقيت أبناءك، فكلكم في شقاء وأنا وحدي السعيد، سعيد جدا جدا». - «لا أفهم ما تقول، ماذا جرى؟» - «اسمعي أنت لما يقوله هذا الصغير».
فاحتقن وجه اليوشا ثم عراه الشحوب وصارت عضلات وجه تختلج من الخوف، ثم نظر إلى بيلاييف وقال وهو يهمس همسا عاليا: «اسكت».
ونظرت مدام أولجا إلى اليوشا وهى مدهوشة ثم إلى بيلاييف ثم إلى اليوشا ثانيا.
فقال بيلاييف: «اسأليه؛ فإن هذه المجنونة بيلاجيه تأخذ الطفلين وتذهب بهما إلى المطاعم ويجلسون جميعا مع زوجك، ولكن ليس هذا محور الموضوع.
فمحور الموضوع أن زوجك يعد نفسه ضحية وأني أنا الشقي الذي خربت بيتكم».
فتنهد اليوشا وقال: «ألم تعدني بشرفك يا بيلاييف؟» فأبعده بيلاييف عنه وقال: «شرفي! أي شرف إن هذا النفاق هذا الكذب ...»
فقالت مدام أولجا وعيناها تغصان بالدموع: «لا أفهم هذا. أخبرني يا اليوشا هل تزور أباك؟»
ولكن اليوشا لم يسمع هذا السؤال لأنه كان ينظر والرعب قد ملك عليه كل حواسه إلى بيلاييف، ثم قالت أمه: «هذا محال سأذهب إلى بيلاجيه وأسألها».
وخرجت مدام أولجا من الغرفة فقال اليوشا وجسمه كله ينتفض: «لقد وعدتني بشرفك».
فأبعده بيلاييف عنه بيده وأخذ يمشي في الغرفة، وكان قد تملكه الغضب حتى أنساه وجود الطفل كما كانت عادته قبلا فقد كان يعتبر نفسه رجلا كبيرا ذا خطر، فلم يكن في أفكاره ما يتسع للانتباه للأطفال وجلس اليوشا مع سونية في إحدى زوايا الغرفة، وجعل يقص عليها كيف خدعه بيلاييف، وكان طول الوقت يرتعش ويتلعثم ويبكي، وكانت هذه هي أول مرة في حياته واجه فيها الكذب مواجهة خشنة، ولم يكن يعرف قبل هذا الوقت أنه يوجد في هذا العالم بجانب الكمثرى الحلوة والفطائر والساعات الغالية أشياء أخرى عديدة لا تستطيع لغة الأطفال أن تعبر عنها.
كيف صار المالك أجيرا
كنت أعرف الشيخ حسين ولي جارا لنا يسكن في قرية قريبة من كفرنا في الشرقية، وكان له ما يقرب من الفدان يزرعه ويعيش منه، فكنت وأنا صغير أخرج مع أخي أو ابن عمي فنسير في الحقول حتى نبلغ أرض هذا الجار فنقعد عند ساقية كان يسقي منها زرعه ونتحادث معه في شئون شتى. وكان حول الساقية حرجة من الأشجار المتكاثفة من السنط والجميز، وكان لها ظل سابغ إذا بلغناه قعدنا فيه وارتوينا بجرعات الماء نحمله بأيدينا من قناة الساقية إلى أفواهنا.
وكان الشيخ حسين فوق الخمسين معروق الوجه قليل شعر اللحية آدم اللون، وكان يقعد أحيانا معنا يحدثنا عن كل شيء يخطر في باله، وكان إذا تكلم نكت الأرض بعصاه وابتسم وأبرقت أساريره، فنرى في وجهه بشاشة حلوة نأنس بها.
ولم يكن حديثه يلذ لنا كثيرا لأنه كان يتكلم على الدوام عن الزراعة والغلات، وهذه كلها لم نكن في سننا تلك نأبه لها، وإنما كنا نحب منه تلك الأنسة التي كان يلقانا بها وأيضا ذلك الخيار أو القثاء الطازجة يقطعها من أرضه ويقدمها لنا.
وكانت هذه الساقية وما حولها من الأشجار والشيخ حسين وأولاده وما انطبع على وجوههم من هناء العيش وطمأنينة الحياة كلها كانت تجذبنا، فلا يكاد يمر علينا يوم بالكفر إلا ونزورها.
وشببنا ودخلنا المدارس واغتربنا بعضنا في القاهرة وبعضنا في المدن الأخرى، فكنت لا أذكر أيام صباي وحلاوتها إلا مقرونة بساقية الشيخ حسين وتلك الساعات التي قضيناها في ظلال أشجارها، وما كنت أنسى وأنا أزور الكفر زيارة الشيخ حسين فأقعد معه وأحاوره في الزراعة التي صرت أفهم فيه شيئا، وإن كانت «الدورة الزراعية» لم تكن قد وضحت بعد في ذهني مع أني كنت قد جزت الخامسة عشرة. فكنت أحرص على ألا يظهر جهلي بها أمام أحد الفلاحين.
وحدث وأنا حول العشرين أني زرت الشيخ حسين فألفيت الأحوال قد حالت، وما كنت أراه من طمأنينة في وجوه العائلة وانبساط وأنسة في كلا الشيخ حسين قد تبدل كله شيئا من الكآبة والصمت والشكوى.
فاستوضحته عن حقيقة شكواه فأخبرني، وهو يحيل كل شيء إلى إرادة الله: أن أرضه مرهونة وأن قيمة الرهن كبيرة تبلغ نحو 80 جنيها، وأنه يلقى صعوبات كثيرة في دفع القسط، ولكنه يعتمد على الله في وفاء الدين وتخليص الأرض، وكان يروى لي قصة الدين وهو ينظر إلى الأرض ينكتها بعصاه على عادته، وتبين لي من هذه القصة أن أرض الشيخ حسين كانت في الأصل غير مربعة تستطيل قليلا ثم يدخل طرفها في أرض الجار، وكان يحلم على الدوام بادخار شيء من المال لكي يشتري بضعة قراريط ويدفع عوضا للجار فتصير العشرين القيراط التي معه نحو ثمانية وعشرين قيراطا مربعة. وادخر بالفعل مقدارا من المال وشرع في مفاوضة جاره في شراء ثمانية قراريط منه وفي عمل الاستبدالات اللازمة لكى تصير القطعة مربعة. ولكن الثمن لم يكن كله حاضرا فاحتاج إلى الاقتراض من بنك فريد أحد المرابين في المدينة.
وكان فريد هذا مرابيا معروفا في المدينة، فلما ذكر اسمه التفت إلي ابن الشيخ حسين وكان يدعى محمودا وكان في سني تقريبا وقال: «أنا حذرته منه يا أفندي، والله العظيم أنا حذرته منه» قال هذا وزفر زفرة تشبه التأوه.
فقال الشيخ حسين وهو يرد على ابنه أكثر مما يروي لي: «لما قلت نعمل القطعة مربعة كلكم وافقتوني، حد منكم قال لا؟ الدين ده أصله إيه؟ أنا عشت بعشرين قيراط وطول عمري أنتم اللي طمعتم».
ورأيت المحاورة بين الأب والابن توشك أن تحتدم وكل منهما يتهم الآخر بالطمع وبأنه السبب في الدين، فهونت عليهما وارتجلت لهما حسابا يمكنهما من دفع القسط واستهلاك شيء من رأس المال كل عام، فلا تمضي ست أو سبع سنوات حتى تكون الأرض خالصة من الدين، فوافقني كلاهما معتمدين على الله وما يكتبه لهما في لوح القدر.
وتركتهما وفي نفسي كمود أفكر في طريقي وأنا عائد إلى الكفر، وأتأمل في هذا الشيخ الذي كنت أتمثل السعادة الريفية فيه وأذكر قناة ساقيته بمائها الصافي والظل الوارف الذي تسبغه الأشجار عليها كأنها لازمة من لوازم السعادة. وأذكر البشاشة التي كانت تكسو وجهه كيف تبدلت الآن هما عظيما يأخذ عليه مسالك تفكيره ويملأ حياته نكدا ونغاصة، ما كان أسعده وهو في تلك العشرين القيراط وإن لم تكن في ذلك الوقت مربعة، وما أشقاه الآن بهموم الدين ولو أن القطعة مربعة وتبلغ ثمانية وعشرين قيراطا.
والحق أني تمنيت لهذا المسكين أمنية خالصة أن يخلص من دينه ويعود إلى حياته الساذجة وأن يفرغ من هذه الهموم التي طرأت عليه في شيخوخته وسودت عليه أيامه.
واغتربت أنا عن الكفر نحو ست سنوات عدت بعدها إليه، فما كان أشد استغرابي وألمي عندما سمعت أن الشيخ حسين ولي وأولاده قد انتقلوا إلى كفرنا بعد أن بيعت أرضهم وبيع بيتهم في القرية المجاورة، وأنهم الآن يشتغلون بالأجرة، وكانت خلاصة ذلك أنهم لم يقدروا على دفع الدين فبيعت الأرض فلم تف بالدين فبيع البيت أيضا.
هذه هي خلاصة القصة التي رواها لي أهل كفرنا، ولكني أردت أن أستقيها من معينها الأصلي، فانتهزت فرصة وجود الشيخ حسين بالغيط وخرجت لكى أقعد معه قليلا وأهون عليه هذه الحالة الجديدة التي ألقاه فيها القدر، ولكن ما أشد ما كانت دهشتي عندما رأيت الشيخ حسين قد عادت إليه بشاشته ووجهه متهلل ينبسط في الحديث ويروي ماضيه رواية موضوعية كأن لا شأن له في وقائعها، فذكرت حاله هذه بحاله تلك عندما زرته عند الساقية وهو مثقل بالدين مشتت الفكر حائر في كيفية دفعه فقلت في نفسي: «هذا هو برد اليقين تطمئن إليه النفس بعد هموم الحيرة، فإن المصيبة مهما ثقلت وفدحت أهون على النفس عند التحقق من وقوعها مما هي عند الشك في وقوعها والنجاة منها».
وقعدت أمامه على العشب أغذو عيني من هيئته الساذجة واستسلامه لحكم الأقدار، وكانت عصاه معه ينكت بها الأرض وساقاه عاريتين إلى الركب وعروقهما بارزة، أما وجهه فلم يتغير عما عهدته منذ صباي لولا أن الشيب قد وخطه قليلا وأسنانه الأمامية قد زالت إلا اثنتين ضلتا أخواتهما ووقفتا مفردتين معلقتين.
فأبديت شوقي لرؤيته وذكرت له أسفي عن فقدانه أرضه، فضحك ونظر إلى الأرض ونكتها بعصاه وقال: «هيه. عمرك طويل كلها فانية، واهو عمر ويفوت»
قلت: «ولكن أرضك يا شيخ حسين كانت جيدة وغلتها كبيرة، وكان يمكنك دفع الأقساط كلها».
فقال: «كان يمكني، لكن حصل غش وسرقوا منا الأرض سرقة، الله يجازيهم».
فلما ذكر الغش مالت نفسي إلى سماع القصة؛ لأن بيع الأرض لم يجر على الطرق المألوفة في مثل هذه الحالات: عجز عن الدفع ثم البيع، فسألته أن يحكي لى القصة من أولها.
فقال: «لما اشترينا الأرض استلفنا من بنك فريد 40 جنيها ندفعها 80 في خمس سنوات كل سنة 16 جنيها، وكنا وقت التيسير ندفع القسط، وكان الكاتب رجلا كلامه حلو لكن قلبه أسود، يرخي لنا الحبل ويطلب منا في مقابل ذلك شيئا من الجبن والزبد، وحصلت بيننا وبينه مودة فلم نطلب منه كتابة إيصالات».
فتجسم في ذهني نوع «الغش» الذي سرقوا به الأرض منه فقلت: «ولم لم تكتب إيصالا؟»
فقال: «والله يا أفندي عمري ما كتبت وظني أن الدنيا سلام وأمان، ولكن بعد ثلاث سنوات جاءني إعلان دعوى بالدفع وفيه أنى متأخر لم أدفع شيئا قط».
قلت: «وماذا قلت في المحكمة؟»
فقال: «أنا عمري ما دخلت محكمة، كنت أظن أن المحكمة واسعة والقاضي رجل شيخ يلبس عمامة كبيرة وأمامه كتاب الله يحلف عليه بالحق، لكن لما دخلت لقيت واحد أفندي شاب صغير، كنت أفتكر في الأول إنه لما يشوفني يشتمني ويقول لي: ليه ما دفعتش يا ابن الكلب؟ زي العساكر ما بتقول للفلاحين، ولكن هو أول ما شافني تلطف وقال لي: يا عم يا بوي. فارتحت ورجع لي نفسي وقلت له: أنا دفعت الأقساط كلها للكاتب فلان. وكان الكاتب جنبي، فسأله القاضي فأنكر وعرض على القاضي أنه يحلف اليمين».
وهنا تجسم في ذهني «غش» آخر وقع فيه هذا المسكين لأن اليمين قاطعة وتمنع السير في التحقيق فقلت: «وهل حلف؟ وهل رضيت أن يحلف؟»
فمد ساقه على العشب ورفع عصاه وقال: «أنا قلت للقاضي: يحلف؟ إن كان يحلف يحلف. هو ودينه ومنه لله. وأمره القاضي أن يحلف فحلف بأسرع من البرق وأنكر كل شىء أخذه مني، وتشمرت أنا وبدأت أبين وأوضح، ولكن القاضي هنا قال لي: اسكت يا شيخ؛ انت قبلت اليمين، القضية انتهت. قلت: قضية ايه يا حضرة القاضي؟ للساعة ابتدينا؟! ولكن كل كلامي كان غير مفيد، حكم علينا بالمبلغ والفوائد ورفضت الخروج ولكن الحاجب جاء وأخرجني».
قلت: «وبعد ذلك؟»
فمسح جبهته كأنه يمحو ذكرى قديمة مؤلمة، وتنهد ثم نظر إلى الأرض وعاد إلى نكتها بعصاه وقال: «عمرك طويل، بعد الحكم الحجز والعمدة يعين الخفراء على المحصول ياكلوه، وارتباك في ذيل ارتباك حتى البيع، واهو عمر ويفوت».
صفحة غير معروفة