المقدمة
أولاد حواء
الطريق من الأرض للسماء
قيمة الحياة
في الأدب الياباني
تاغورى
قصة البحار المصري
في المدينة الخاطئة
مذكرات مكسيم جوركي
قصة الكافر
صفحة غير معروفة
في أدب الزنوج
لمحة في الأدب الروسي
كيف صار المالك أجيرا
المقدمة
أولاد حواء
الطريق من الأرض للسماء
قيمة الحياة
في الأدب الياباني
تاغورى
قصة البحار المصري
صفحة غير معروفة
في المدينة الخاطئة
مذكرات مكسيم جوركي
قصة الكافر
في أدب الزنوج
لمحة في الأدب الروسي
كيف صار المالك أجيرا
قصص مختلفة
قصص مختلفة
مجموعة قصص مثالية حديثة لأمم مختلفة
تأليف
صفحة غير معروفة
سلامة موسي
المقدمة
هذه القصص كنت قد تخيرتها من آداب الأمم المختلفة؛ لكى أجعل منها مثالا طرازيا، وقد جمعتها في هذا السفر مع مقدمات صغيرة إيضاحية، يجد فيها القارئ لذة وفائدة.
والقليل من هذه القصص مؤلف والكثير منها مترجم.
أولاد حواء
للكاتب الإسباني إيبانيز
كانت قدر الرز موضوعة فوق النار، وقد التف حولها الحصادون عند الغروب بعدما انتهوا من شغلهم، وكانوا جالسين في المطبخ والسكوت يشملهم، لا يسمع بينهم سوى صوت الشيخ كورا كولا، وأزيز القدر.
وكان كورا كولا رجلا مسنا نحيفا يحسب الناظر إليه كأن صدره العاري حصير؛ لكثرة ما نبت فيه من الشعر الأشمط.
وكانت النار تسطع على وجوه الحصادين التي لفحتها شمس الجنوب حتى لتظهر كأنها سوداء، وكان سهك العرق يخرج من أجسامهم حاذيا، فيتشبع منه هواء المطبخ، وكانت النجوم تظهر من باب المطبخ واحدة بعد أخرى كلما تقدم الغسق، وكانت غبشة الغسق قد غمرت الأراضي، وكان بعضها قد حصد والبعض لم يحصد بعد، وهبت على الحصادين رياح ساخنة من الأرض الحصيدة، وماجت أغصان الحنطة تحت هفيف نسيم الليل.
فتململ كورا كولا في مقعده يشكو من آلام في عظامه، ثم قال: «ما أشق هذا العيش، ولكن هذا هو الحظ، هذا حظنا لا مفر منه، فإنه لا بد للعالم من أغنياء وفقراء، وعلى الفقير الذي يولد للآلام أن يتعودها، نعم يا أولادي، هل سمعتم قصة حواء وغلطتها، فإنها هي السبب في هذا البلاء الذي نقاسيه الآن».
صفحة غير معروفة
رأى من الحاضرين قبولا لكلامه، فانساب في حديثه البلنسي يقص عليهم قصة البلية التي أورثتها حواء أم البشر للفقراء.
فإن آدم لما أطاع حواء وطرده الله من الفردوس لعصيانه، خرج إلى العالم مع زوجته، وكان قد حكم عليه الله بأنه لن ينال عيشه إلا من عرق جبينه، فجعل يقطع الأشجار والأثمار ويأتي بها لحواء، وصارت حواء تخيط الملابس لأولادها من ورق التين، ومرت السنون فكثر الأولاد حتى ضاق زرع آدم بهم، وكانت حواء تلد ولدا في كل عام.
وكان يأتي إليهم من عند الله ملك كل عام فيعاينهم، ويكتب تقريرا عنهم ويقدمه لمولاه. وكانت حواء كلما أتى ملك تهش وتبتسم وتتقدم إليه وتقول: «هل أنت من فوق؟ كيف حال الله؟ عندما ترجع إليه اذكر له أني ندمت على عصياني، ما أثمن الرفاهية التي كنا فيها في الجنة! قل له: إن العيش هنا صعب، وإننا في اشتياق لرؤيته حتى نتأكد أنه ليس غاضبا علينا». وكان كل ملك يجيبها بالإيجاب، ثم يصفق بجناحيه ويطير في أسرع من لمح البصر حتى يختفي في السحب.
وتواتر مجيء الملائكة وذهابهم على حواء لغير ما فائدة، فإنه يظهر أن الله كان مشغولا بإدارة الكون، حتى لم يعد له من الوقت متسع لينظر في شئون الأرض، ولكن حدث أنه في صبح أحد الأيام انسل ملك إلى كوخ حواء، وقال لها: «أصغي إلي يا حواء، فإنه ربما أتى الله هذا المساء لزيارتكم إذا كان الجو جميلا، فإني سمعته أمس يحادث ميكائيل ويقول له: «كيف حال هذين الخاطئين؟».
فدهشت حواء من هذه المفاجأة وراحت تجري إلى آدم، وكان كعادته مقوس الظهر يشتغل في زرع قطعة أرض فأخبرته الخبر، وعاد الاثنان إلى الكوخ فكنسا ما أمامه ورشاه بالماء، ونظفا غرفة الجلوس، ولبسا أحسن ثيابهما، ثم جلسا ينتظرا زيارة المولى العظيم، وإذا بصوت مرعب قد نفذ إلى أذن حواء فانتبهت، وكان صوت أبنائها الذين كانوا يبلغون الآن عشرين أو ثلاثين نفسا. ولم تكن قد افتكرت بهم للآن، فكانت عيونهم رمضة، وأنوفهم وسخة ، وأجسادهم قد علتها طبقة من الأقذار، فقالت: «وكيف لي أن أريه هذا القطيع؟ إنه إذا رآهم يحكم عليهم بالإهمال، فإن الرجال عادة لا يعرفون مبلغ التعب الذي تتعبه المرأة مع أولادها».
وبعد أن ترددت طويلا قامت وانتخبت ثلاثة منهم، وغسلتهم، ونظفتهم، ثم طردت الباقين إلى حظيرة الخنازير، وأقفلت عليهم بالرغم من صراخهم.
وما هدأت قليلا حتى رأت سحابة بيضاء كبيرة تنزل إلى الأرض، وسمعت حفيف الفضاء من كثرة خفيق أجنحة الملائكة ورفرفتها، ونزل أولئك الزوار السماويون ومشوا في حقول الحنطة، فتراءوا لها كأنهم نجوم تسري في الأرض، ورأت الملائكة وقد استلوا سيوفهم النارية وجاء إليها بعضهم، وأقسموا لها أنها لا تزال في صباها جميلة فتية، وقام البعض الآخر يقفز من شجرة إلى أخرى، ويأكل ما يشاء من الأثمار مما جعل آدم يتسخط ويحسب أنه لن يبقى له شيء على الشجر بعد ذهابهم.
ثم جاء الله بعدهم، وكانت قصائب شعر رأسه بيضاء، كالفضة وكان لابسا تاجا لامعا كالشمس، وكان محفوفا بجميع كبار موظفي السماء، فحيا الله آدم ثم ربت لحواء على خدها، وقال: «كيف حالك؟ هل صرت أكثر عقلا من قبل؟».
فتأثر أبوانا الأولان من مجاملة الله لهما، وقدما له كرسيا كبيرا مصنوعا من أحسن الخشب، ومحشوا بأجود القش، فلما جلس عليه سأل آدم عن حاله فأخبره بالمشاق التي يعانيها.
فقال الله: «هذا حسن فإنك ستعلم من ذلك ألا تطيع زوجتك في ما تشير عليك به، فاشتغل واعرق وإياك أن تقاوم الذين هم أعلى منك».
صفحة غير معروفة
وكأن الله قد أسف على لهجته الحادة هذه فتلطف، وقال: «ما فات قد فات، وأنا لا أغير كلامي وبما أني قد دخلت بيتكما، فإني سأترك أثرا جميلا لزيارتي، قدمي إلي أولادك يا حواء».
فقدمت إليه أولادها الثلاثة الذين كانت قد هيأتهم لمقابلته.
فنظر إلى أولهم وكان صبيا تبين عليه دلائل الجد وقد عقد حاجبيه، ووضع أصبعه على فمه، وقال له: «إنك ستكون قاضيا على الناس فتعمل لهم القوانين وتغيرها من وقت لآخر، ولكنك تعاقب كل من يخالفها بعقاب واحد، كالطبيب الذي يداوي جميع الأمراض بدواء واحد».
ثم نظر إلى الآخر وكان خفيفا نشيطا يحمل في يده عصا يضرب بها إخوته، وقال: «وأنت ستكون قائدا على الجيوش، وستجمع الرجال أمامك وتحشدهم في جيش وتسوقهم إلى الحرب، كما تساق البهائم إلى المجزرة، وهؤلاء الرجال وإن كانوا هم فرائسك فسيهتفون لك، وعندما يراك الناس ملطخا بالدم سيسجدون لك ويعتبرونك ملكا، وكل من يقتل من الناس سيعتبر مجرما، وأما أنت إذا قتلت فستعتبر بطلا، فارو الأرض بالدماء وأعمل السيف والنار في المدن، واقتل واحرق وانهب فالشعراء ستتغنى بك، والمؤرخون سيذكرون مآثرك، وأما الباقون الذين يعملون هذه الأعمال وليس في يدهم رخصة العساكر فسيسجنون ويعدمون».
ثم تفكر الله قليلا ونظر إلى الثالث، وقال: «إنك ستكون ممولا عظيما فتملك ثروات العالم، وستفتح البنوك وتقرض الناس الأموال بالربا، وإذا خربت البلاد من ذلك فإن إعجاب الناس بكفاءتك المالية لن ينقص».
وكان آدم يبكي من الشكر، وكانت حواء قلقة تريد أن تقول شيئا ولكنها لا تعرف كيف تقوله، فإن قلبها كان يتقطع أسى على حال أولئك المساكين الذين حبستهم في حظيرة الخنازير، ولم يمنحهم الله حقوقا مثل إخوتهم، فهمست في أذن آدم قائلة: «إني لا أبالي، سأخبره عنهم».
وكان آدم جبانا فثبطها، وتقدم ميكائيل وكان قد سئم قعوده في هذا الكوخ الحقير وقال مخاطبا الله: «لقد أمسينا يا مولاي».
فوقف الرب وقفزت الملائكة من الأشجار واستلت سيوفها كالعادة.
فهرولت حواء إلى حظيرة الخنازير وفتحت بابها وقالت لله: «ربنا، قل شيئا لهؤلاء المساكين».
فدهش الله من هؤلاء الأولاد القذرين وكانت الحظيرة تنتغش بهم كما تنتغش بدود، فقال: «لم يعد عندي شيء أقوله، فقد منحت كل شيء لإخوتهم، ولكني سأتدبر». ولكن حواء بالرغم من منع ميكائيل لها صارت تلح على الله ليقول لهم كلمة، وكان الله يريد الذهاب سريعا، فقال: «لا بأس، إنهم سيخدمون إخوتهم ويشتغلون في الأرض».
صفحة غير معروفة
وقال كورا كولا عندما انتهى من القصة: «فنحن الذين نحني ظهورنا كل يوم ونعمل في الأرض ونخدم الآخرين - نحن أبناء هؤلاء الأولاد الذين حجزتهم حواء في حظيرة الخنازير».
الطريق من الأرض للسماء
سلمى لاجرلوف مؤلفة قصصية أسوجية لها شهرة أوروبية، وقد حازت جائزة نوبل في سنة 1909، وأشهر قصصها قصة «أورشليم» التي وضعتها بعد أن زارت مصر وفلسطين، وقد رأينا أن نقدم للقارئ إحدى قصصها نموذجا لأدبها، وقد ظهرت هذه القصة أول مرة في ستوكهولم سنة 1922. •••
لما كان لزوجة البكباشي دار مفتوحة كان الضابط برنكرتز يقطن أكبى في ذلك الجزء الخاص بالخيالة من دارها، فلما ماتت وانتهت تلك المعيشة السعيدة التي كان يعيشها الخيالة معا انتقل الضابط برنكرتز إلى قرية واقعة على شاطئ بحيرة لوفن.
وكان له غرفتان في الطابق الثاني من أحد المنازل إحداهما كبرى يجوزها الإنسان إلى صغرى، وكان بالطابق الأرضي فلاحون وعاش الضابط هنا إلى أن بلغ الخامسة والسبعين يعتمل لنفسه، وليس له من يخدمه. وكان يقول: إن اشتغاله بخدمة نفسه يساعده على قضاء الوقت، ولكن الحقيقة أنه كان من الفقر بحيث لا يمكنه استخدام خادم، وكان على الدوام مشتغلا بشيء لا يجد مشقة في إتمام الأعمال المختلفة التي بين يديه.
وكان للضابط بساط كان يصنعه بنفسه وقد بسط خيوطه على حيطان الغرفة الكبرى وأرضها، وكان هذا البساط حديث أهل القرية، فإنه لم ينسجه على منوال كما هي العادة، وإنما مد خيوطه من حائط إلى حائط بحيث أن من كان يدخل إلى هذه الغرفة كان يشعر أنه قد اشتبك في نسيج عنكبوت عظيم، وبين هذه الخيوط كان الضابط يروح ويجيء بين الحيطان يعقد خيطا أو يفرز لونا خاصا، ولو كمل هذا البساط لنافس في جودة الصنعة السجاد المصنوع في قندهار أو بخارى، ولكن طريقة الضابط التي اتبعها كانت بطيئة، بحيث إنه على طول ما اشتغل فيه لم يكمل سوى مربعين اثنين منه.
وكان ينام في الغرفة الصغيرة الأخرى على سرير من أسرة المعسكرات، وقد نام عليه في حروبه في ألمانيا عندما كان يقاتل جيوش نابليون، ولكن سائر الأثاث في الغرفة كان جيدا.
وفي إحدى ليالي الصيف كان الضابط نائما، فاستيقظ على صوت شخص يصعد على الدرج المؤدي إلى غرفتيه، وكان في وقع أقدامه الثقيلة ما يشبه مشية الجندي القديم وفكر في الوقت فقرر أنه حوالي منتصف الليل.
فقال في نفسه: «العجب لهؤلاء الفلاحين كيف ينسون على الدوام إغلاق الباب الخارجي». وكان هو يحب النظام وكثيرا ما عنف الفلاحين الساكنين تحته؛ لأنهم لا يقفلون الباب بالمزلاج، وترجح لديه أن هذا الغريب إنما يصعد على الدرج لوجود الباب مفتوحا، وليس ثم مجال للظن بأنه لص فإن وقع أقدامه عال، كذلك لا يمكن أن يكون سكران يبحث عن مأوى.
وكان الضابط ينتظر من هذا الغريب أن يستمر في صعوده حتى يصل إلى أعلى طابق في المنزل، ولكنه أخطأ فإن هذا الغريب وقف عند باب مسكن الضابط وسمع الضابط بأذنيه حركة المفتاح وهو يدور في القفل.
صفحة غير معروفة
فقال في نفسه: «افعل ما تشاء فإنك لن تقدر على الدخول». فقد كان موقنا بأنه قد أقفل الباب وأزلجه أيضا قبل أن يذهب إلى فراشه، وكان يعنى بهذا العمل كل ليلة لاعتقاده الإهمال في السكان الفلاحين الذين تحته، ولكنه سمع الآن هذا الغريب يمشي في الليل في الغرفة الكبرى، فإن خيوط البساط الذي يصنعه كانت منتشرة وممدودة في كل مكان.
وقال الضابط في نفسه: «هذا الوغد سيمشي الآن في وسط خيوط النسيج، ويشتبك فيها فتلتبس فلا أعرف كيف أخلصها في الصباح».
قال هذا وهم بالقيام يريد طرده وإخراجه، ولكنه سمع هذا الغريب يمشي نحو غرفة نومه كأنه جندي في عرض، وكأن خيوط النسيج لم تمسه فنظر الملازم إلى الباب فوجده مزلجا، فقال في نفسه: «ولكنك الآن لن تعرف كيف تدخل».
وآخذ يلعن ويشتم ولكنه سكت فجأة؛ إذ رأى الباب قد فتح ثم أغلق باصطفاق، كأن الريح قد دفعته.
فنهض الضابط برنكرتز في فراشه قاعدا، وقال بلهجة عالية اهتزت لها الحيطان: «فيردا» من أنت؟
فضم الغريب قدميه فحيا الملازم تحية الجندي، وقعقع أسلحته وقال: «أنا الموت».
وكان الصوت الذي خرجت به هذه الكلمات غير عادي ؛ إذ لم يكن صوتا إنسانيا ولكنه لم يكن ذلك مرعبا، وشعر الضابط كأن الصوت قد خرج من آلة موسيقية كالأرغن، ولكن نغمته كانت حلوة مطربة حتى أحس كأنه في اشتياق لرؤية تلك البلاد التي جاء منها هذا الصوت الجميل.
فقال الضابط: «أسرع وانته من عملك». ثم شق قميصه واستعد لأن يطعن في قلبه.
ولكن الغريب الواقف أمامه لم يوافقه على ذلك بل قال: سأرجع قبل منتصف الليلة الآتية، ثم عاد وقع الأقدام وقعقعة الأسلحة عندما خرج الغريب، واصطفقت الأبواب بالثاني وردت المزاليج إلى مكانها.
وتهافت الملازم وقد ملكه الرعب في فراشه، فرقد ينصت لوقع الأقدام وهي تبعد وتخفت، وما هو أن خرج الغريب من المنزل وصار في الصحن الخارجي حيث الضوء أكثر نورا حتى هرع الضابط إلى النافذة لكي يلمح وجهه، ولكنه مع قدرته على رؤية شوارع القرية لم ير أحدا يسير فيها، وكان مع ذلك يسمع وقع أقدامه ويكاد يحدد المكان الآتي منه، ولكنه لم يكن يرى مع ذلك شيئا.
صفحة غير معروفة
وهز برنكرتز كتفيه، وكان قد وطن نفسه من مدة على حدوث هذا الحادث يوما ما، ثم أخذ يوهم نفسه بأن لعبة لعبها عليه أحد الشباب الماكرين الذين يلذ لهم إلقاء الرعب في قلبه، ولكنه كان في قلبه يحس بالحقيقة، فإن الصوت الذي سمعه لم يكن صوت إنسان، ووضح أمامه تمام الوضوح ما سيحصل في الغد، ومع أنه كان ينظر إلى الحالة باطمئنان كما هو الشأن في جندي قديم مثله، فإنه مع ذلك لم يشعر بالرغبة في النوم ثانية، فهب من فراشه ولبس أحسن ملابسه، واحتلق ورتب شعره الذي كان يلمع كأنه الفضة، فقد تذكر أنه بعد يوم سيكلف أحد الناس بتهيئة جسمه للقبر، وعلى ذلك ينبغي أن يجد هذا الجسم في حالة حسنة.
ووضع الضابط كرسيا بجانب النافذة وقعد عليه، وعلى حجره الكتاب المقدس الذي تركته له أمه وصار ينتظر انتشار الضوء لكي يتمكن القراءة، وبعد هنيهة انتشر في الشرق سحاب أحمر ثم انقشع الظلام، ولكن الشمس لم تكن قد أشرقت بعد، فرفع رأسه وأخذ يتأمل ويفكر، ولم يكن ثم كاهن يساعده على إدراك موقفه هذا وعلى ذلك فهو مضطر إلى أن يتفاهم وحده مع الخالق.
وأخيرا وقف الضابط وأقفل الكتاب وهو يقول: «لست أفهمك، ولكن أسهل أن نتفاهم في محكمة عليا من أن نتفاهم هنا في هذه المحكمة الدنيا».
وثابت إليه سكينة عقله فقعد إلى منضدته يكتب ترتيب المشهد، وشرط أن يضرب جواده المسن بالرصاص، وأن من يطلق عليه النار يكافأ بكأس فضي، وجمع حساباته ودون ما له وما عليه، وأوصى بأثاثه وسائر أمتعته وأعطى معظمها لصبية صغيرة في القرية، وكانت هذه الصبية تحبه وتقضي الساعات الطوال في الجلوس في غرفته فأراد أن يكافئها، وقبل أن ينتهي من تسوية حساباته كانت الساعة ثمانية تقريبا، فأدى واجباته الاعتيادية، وبعد ساعتين وجد نفسه حرا يمكنه أن يقضي سائر يومه الأخير كما يشاء، وكان قد قرر في نفسه أن يحتفل في هذا اليوم بعمل شيء غير عادي.
وخرج يمشي حتى انتهى إلى مقعد في حديقة وقعد يفكر، ثم قال لنفسه: «من المؤكد أني لا أشعر بالميل لنسج البساط اليوم، وعلى كل حال فإن هذا البساط لن يتم، فيجب إذن أن أركب العربة وأسير بها إلى أي مكان، هذا يومي الأخير، فليس من الرأي أن أقضيه في قرية لا يعرف أحد من سكانها ماضي حياتي».
وهنا ت«.نبه ذهنه كأنما قد اشتغل بذكرياته القديمة، وقر رأيه على أن يكون هذا اليوم حافلا بالمسرات، وكان في أشد الاشتياق لأن يدخل في العالم ويشترك للمرة الأخيرة في مسراته، ولم يكن من الممكن أن يتمتع بها كلها، ولكنه قد يتمكن من التمتع ببعضها أحبها إلى نفسه وأحسنها.
وهب من مقعده مسارعا إلى جواده فقرنه إلى العربة ووضع عباءته خلفه، وكانت هذه العباءة قد خدمته طول حياته العسكرية الماضية، ولكنها لم تبل بعد، ثم ساق الجواد إلى تقاطع خمس طرق، ووقف لكي يقر قراره على نوع المتعة التي يريد أن يتمتع بها هذا اليوم، وهو آخر أيامه على الأرض، فإن هذه الطرق الخمس كانت كل منها تؤدي إلى شيء يحبه، فقد كانت الطريق الرأسية تؤدي إلى كارلستاد، ولو اتخذها لبلغها بعد ساعات قليلة، فقد كان يقيم فيها بعض أصدقائه، فلو ذهب إليها لجمعهم وقضوا يوما معا، ثم يلعبون الورق بعد ذلك، ولقد كان يفكر في الورق اللامع ويده ترتعش من الحماسة والفرح.
أما إلى اليمين فكانت الطريق تؤدي إلى تروسناس حيث معسكر الجنود المشاة الذين يدربون هناك، وكان يعرف أنه إذا ذهب هناك فإن جميع الفرقة تقف أمامه صفوفا وتحييه، وكان يخيل لنفسه الجنود الفتيان وهم في لباسهم الأزرق يبتسمون له، ويعرفون فيه الجندي القديم ذا الشهرة العظيمة، ثم تقرع الطبول ويرفرف علمهم القديم، ومرت ثانية شعر الضابط برنكرتز فيها كأنه يرغب في اتخاذ هذه الطريق، ولكن عاد فتردد، فقد قامت في نفسه شهوة غامضة أجبرته علي يتخذ طريقا أخرى.
وكان على يساره سكة قد قامت على جانبها الأشجار، وكانت تؤدي إلى قصر قديم تملكه سيدة عظيمة، كانت في شبابها من أجمل فتيات عصرها، وأجذبهن وأخفهن روحا، وقد صارت في الشيخوخة كما صار هو فيها أيضا، ولكنها كانت مع ذلك أصغر منه سنا ومهما بلغ عمرها فإن مثلها لا تفقد الجاذبية والفتنة، وكان يعرف أنه إذا زارها في ذلك اليوم على الرغم من الفراق الطويل، فإنها لن تبخل عليه بأن تجعل يومه الأخير يوم نعيم له، وخيل لنفسه كيف يجول معها في القصر من غرفة إلى أخرى كما كانا يفعلان أيام شبابهما، وكيف يحوطه البذخ والطرف فينسى أيام الوحدة والفقر التي عاشها.
وكان أمامه أيضا طريق يتجه إلى الشمال الغربي وتؤدي إلى مصانع الحديد في أكبى، وهي بلدة كان يحبها ويذكرها بأيام الهناء التي قضاها مع الخيالة في دار زوجة البكباشي، ولم يكن بالدار أحد الآن ولكنه شعر أنه إذا ذهب إليها فإن الأبواب تفتح له هو آخر رجال الخيالة الذي لم يمت بعد والذي يعد بمثابة آخر حلقة الاتصال بينه وبين ذلك العهد الذي قضوه جميعا في أكبى عهد الفرح والغناء والرقص والمجازفات...
صفحة غير معروفة
فتحول إلى هذه الطريق، وكان يعرف أنه إذا سار عليها فإنه لن يصل إلى ضيعة لوفن إلا عند الغروب، وكان صاحب هذه الضيعة رجل يدعى ليلجيرونا، وكان بارعا في الضرب على الكمنجة، وكانت الضيعة في ذاتها حقيرة، ولكن جذبته إليها موسيقى صاحبها، وما هو أن فكر فيها حتى رأى أنه لا محيص له عن الذهاب إليها.
ودهش الضابط لاختياره هذه الطريق ولكنه لم يتردد هذه المرة، ووصل عند المساء إلى لوفن؛ حيث سر بلقائه ليلجيرونا، وحياه أجمل تحية ودعاه إلى النزول عنده، وقد بدا السرور عليه للقائه رجلا يذكره بالذكريات القديمة في أكبى، وكان إذا طرب ذهب وأخذ كمنجته وأخذ يضرب، ولكن ليلجيرونا كان قد أسن فلم يكن عزفه على ما عهده منه قديما الضابط برنكرتز، فقد كان في نغماته شيء يوهم أن اليد تتردد، كأنه يحاول أن يبلغ أشياء لا تعبر عنها الألفاظ، وكان البعض يقول: إن عزفه قد انحط وقد سمع الملازم هذه الإشاعات قبلا، ولكنه وهو يسمع له الآن شعر كأنه سيسمع منه لحنا حلوا جذابا، بل وضح في ذهنه وهو يوشك أن يموت بعد ساعات أن ليلجيرونا يمهد له الطريق، وهي طريق لا غاية لها؛ إذ هي تؤدي إلى الفضاء، وبينما وهو يسمع الموسيقى تتحسس أنغامها طريقها في الظلام إلى ما وراء فكر الإنسان، وخياله شعر بوقعها في نفسه شديدا حتى باح رب البيت بأن هذا اليوم هو آخر أيام حياته.
فقال ليلجيرونا وهو في غاية الانفعال: «وهل هذا هو سبب مجيئك إلي اليوم؟».
وقال برنكرتز وكأن عينيه تنظران من بعيد: «لم أجئ من أجلك وحدك، إنما جئت أيضا لكي أسمع ضربك على الكمنجة، والآن أشعر إني لم أرغب إلا في هذا اليوم، ألست ترى في الموسيقى شيئا غريبا».
فقال ليلجيرونا: إنك تقول حقا في الموسيقى أشياء غريبة. فقال برنكرتز: أجل لعلها كذلك؛ لأنها لا تتعلق بهذا العالم، يا للعجب! كلما تأملت في الموسيقى لا نعرف علتها ولا نرى فيها شيئا محسوسا نفهمها منه، ألست تظن يا أخي أن الموسيقى هي اللغة التي يتفاهمون بها فوق».
قال ذلك وأشار إلى السماء ثم استمر في حديثه قائلا: ومع ذلك لا يصلنا نحن هنا على الأرض إلا الصدى الضعيف».
فقال ليلجيرونا: «تعني أن تقول ...» ولكنه وقف هنا وشعر بعجزه عن التعبير عن أشياء لا تعبر عنها إلا نغمات الموسيقى.
فقال برنكرتز: «أعني أن أقول: إن الموسيقى تخص السماء والأرض معا. وربما كان القصد منها أن تكون طريقا بينهما، والآن يجب أن تعزف وتمهد لي هذه الطريق لكي أسير عليها إلى الأبدية».
وطفق ليلجيرونا يعزف بكل ما في نفسه وقلبه من قوة والضابط منصت في هدوء الليل، ثم تهافت فجأة ووقع على الأرض فقفز ليلجيرونا إليه ورفعه إلى الفراش فقال الضابط: «ما بي من بأس، إني أجوز الآن الطريق بين الأرض والسماء، أشكرك يا أخي». ولم ينطق بعدها بكلمة، وبعد ساعتين أسلم الروح.
قيمة الحياة
صفحة غير معروفة
حدث أن غنيا من ذوي الملايين أسعدته الأقدار ذات مرة بمولود جديد، فأولم لأصدقائه وليمة شائقة، ودعا إليها نخبة من الأدباء والغانيات ليزينوا الوليمة بالأدب والجمال.
فجلسوا وشربوا وأكلوا، ولما انتهوا من المائدة طفقوا يسمرون، فأراد الغني أن يملق الأدباء من جهة، ويتظاهر بميزة أخرى غير الغنى من جهة أخرى، فقال: «ليست السعادة في الغنى بل هي أكثر في الحب والعلم والأخلاق».
ولمح أحد الأدباء الشبان الدعوى في هذا الكلام فتهوعت نفسه منه، وود لو يقوم ويصفع الغني عليه، ولكنه أنأد وقال مكابرا: «لا بل كل السعادة في الغنى فقط».
فقال الغني متحذلقا، وقد أوهمه الشراب ببراعة غير مألوفة: «ما هذا؟ أتظن أنك تكون سعيدا إذا كنت غنيا، وبقيت بلا امرأة تحبها أو كتاب تقرؤه أو أنيس تحادثه؟»
فقال الشاب وكان غيظه قد دفعه إلى العنت: «أكون».
فاحتد الغني حدة مصطنعة، وقال: «كأنك تقول: إنا لو دفعنا إليك خمسين ألف جنيه، وحبسناك في سجن عشر سنوات لا ترى فيها كتابا أو امرأة أو أنسيا لرضيت إذ تكون غنيا وبذا سعيدا، فقال الشاب: «نعم».
فقال الغني مستشهدا الحضور: «أنا مستعد بأن أدفع لك خمسين ألف جنيه إذا كتبت لي عقدا بأن تبقى عشر سنوات محبوسا في غرفة، لا ترى منها رجلا أو امرأة أو كتابا».
فقام الشاب وكتب العقد.
وفي اليوم التالي أدخلوه في الغرفة وأغلقوا عليه وكانوا يناولونه الخبز من كوة صغيرة بحيث لا يرى منها أحدا.
وبقي الشاب كذلك عشر سنوات، وهو لا يرى رجلا أو امرأة أو كتابا.
صفحة غير معروفة
وشعر الغني في الأسبوع الأخير أنه أخطأ أن سكرة ساعة قد أعقبت خسارة مبلغ جسيم فاستحضر رجلين قويين، وأجرهما على قتل الشاب في آخر يوم من سجنه.
وجاء هذا اليوم فدخل الرجلان إلى غرفة الشاب، وكان مستلقيا بهيئة النائم فمشيا إليه فورا حتى لا ينبهاه، وهم أحدهما بخنقه، فانتبه إليه الآخر ومنعه، وأشار إلى يد الشاب فجساها وإذا هي باردة تارزة، فقلباه فوجداه مائتا.
فأسرعا إلى الغني وبشراه بالخير، فجاء متهللا وقد كلح وجهه من السرور الوحشي، وجعلوا يفتشون الشاب فوجدوا في جيبه رقعة كتب عليها ما يأتي: «انتحرت اليوم؛ لأنه ميعاد رجوعي إلى العالم بعد أن استرحت منه عشر سنوات، أيها البشر، إني أكره سخافاتكم وغباواتكم وجهالاتكم، ونفسي تتقزز من علمكم وأدبكم وحكوماتكم وأديانكم وآلهتكم وصحافتكم، وكل ما تحسبونه سعادة وجاها وشرفا وغنى».
في الأدب الياباني
يعتقد كثيرون أن اليابان كانت بلادا منحطة فاعتنقت الحضارة الأوروبية، ثم وثبت إلى التقدم فصارت الآن في طليعة الأمم الراقية.
والحقيقة أنها لم تكن قط منحطة أو متدهورة، وإنما كانت تسير على مبادئ المدينة الشرقية التي نشأت عليها، ثم وجدت باحتكاكها بأوربا أن حضارة أوروبا تفوق حضارتها فاصطنعتها وسارت عليها.
ومما يدل على صحة قولنا هذا هذه القصة التالية التي ألفها أحد أدباء اليابان في أواخر القرن السابع عشر، والمؤلف يقصد منها بيان الآداب الفاشلة بين طبقة الأشراف الحربيين المسمين ساموراء، قال:
منذ زمن غير بعيد كان رجل يدعى هارادا نيسوك، يسكن هو وزوجته في بلدة شنجاوة، وكانا فقيرين معدمين، وكانت السنة قد أوشكت أن تنتهي، فكانا لذلك يترقبان نهايتها بخوف وقلق؛ لأنه لم يكن عندهما شيء من المال لكي يقوما بما يتطلبه منهما ختام العام.
وكان للزوجة قريب يشتغل بحرفة الطب، وكان يعيش في حالة اليسر، فلما بلغ منها اليأس كتبت إليه ترجوه أن يقرضها شيئا لعيد ختام العام، وكان هذا الأخ سخي النفس فلما جاء خطاب شقيقته أزعجه فقال في نفسه: «لا بد من مساعدتهما ولا بد أن أبعث لهما بشيء».
فأخذ عشرة نقود ذهبية ووضعها في علبة، وأخذ يربطها وهو يضحك، ثم أرسلها لأخته في شنجاوة.
صفحة غير معروفة
وحمل صبي الطبيب هذه العلبة إلى منزل هارادا نيسوك في الوقت المناسب، فقابل الزوجان هذا الصبي بالحفاوة والشكر، وما كاد يتركهما ويعود إلى منزل الطبيب حتى فتحا العلبة، فوجدا داخلها ورقة تشبه الورق الذي يكتب عليه الأطباء وصفات الدواء: وكان مكتوب عليها ما يلي:
المرض: الفقر.
الدواء: عشرة نقود ذهبية.
الجرعة: أحسنا الاستعمال فتشفيا.
فضحك الزوجان فرحا لهذا المزاح اللطيف، ولم يكادا يصدقان أعينهما عندما رأيا في العلبة عشرة نقود ذهبية، وكان هذا المبلغ بالنسبة إليهما ثروة كبيرة، فرأيا جريا على سنة الساموراء أن يشتركا مع غيرهم في التنعم بهذه السعادة، وفي الحال أخذ الزوج يكتب إلى جميع أصدقائه يدعوهم إلى وليمة في منزله في ختام العام.
وجاء المساء الذي ضرب فيه معاد الوليمة وكان البرد شديدا قارسا والثلج يتساقط، ومع ذلك قد حضر سبعة من أصدقائه، فلما اجتمعوا وأعدت المائدة وأخذ المدعوون يعجبون للبذخ الذي لم يألفوه سابقا من صديقهم، فقال لهم هارادا نيسوك: «لقد جاءني بعض المال، ولذلك إني أستطيع أن أحتفل بالسنة الجديدة احتفالا عظيما».
ثم طاف عليهم يريهم وصفة صهره الطبيب، فضحكوا وسروا من دعابة هذا الطبيب، وأخذوا يتأملون بعين الإعجاب النقود الذهبية العشرة، وهي شفاء أكيد لذلك المرض الذي قد عمتهم إصابته.
ولما دارت عليهم العلبة بنقودها قال رب البيت: «والآن دعوني أرد هذه النقود إلى العلبة وأغلقها»، ثم عد النقود فوجدها تسعة فقط.
فوقف الضيوف في الحال وجعلوا ينفضون ملابسهم، ولكن النقد المفقود لم يظهر، وكذلك بحثوا عنه بين الوسائد فلم يجدوه.
فتهامسوا قائلين: «هذا غريب، أين هو إذن؟» وبقوا في حيرة.
صفحة غير معروفة
ثم تظاهر هارادا نيسوك بأنه قد تذكر شيئا وضرب جبهته بيده قائلا: «صحيح صحيح، ما أشد بلاهتي، إني آسف جدا لأني أزعجتكم، فقد نسيت أننا أنفقنا نقدا من هذه النقود فلم يبق سوى تسعة».
قال ذلك ثم لف العلبة، ولكن الضيوف لم يطمئنوا إلى هذا القول، وعدوه منه لطفا وأدبا اقتضاه الحال. وقال كل منهم للآخر: «النقود عشرة».
ثم خلع أحدهم ملابسه كلها ونفضها ووقف عريانا، وفعل الثاني فعله، أما الثالث فقد بقي صامتا ساكنا لا يتحرك، ثم انتقل من مكانه وجلس القرفصاء وبسط أمامه ذراعيه، وقال: «في هذه الحياة كثير من الارتباكات، ولست في حاجة إلى أن أخلع ملابسي، فإن الشر الذي يلازمني قد قضى أن يكون معي هذه الليلة نقد ذهبي، وبما أن نحسي قد قضى علي فها أنا ذا أقضي على حياتي».
وما انتهى من هذا الكلام حتى أعد عدته لكي يقتل نفسه على طريقة الساموراء ولكن الآخرين قالوا: «إنه يقول الحق، فإننا على فاقتنا البالغة قد يملك كل منا نقدا ذهبيا واحدا وإن كنا لا نحمله معنا».
فقال الرجل: «أمس بعت خنجري وهذا النقد هو ثمنه، ولكني لا أنجو بشرفي إلا بقتل نفسي الآن، ولكني أرجوكم أن تذهبوا غدا إلى جوزمون الذي بعت له هذا الخنجر واسألوه عن صحة ما قلته».
وهم بوضع السيف في بطنه، ولكن أحد الضيوف صاح قائلا: «هاكم النقد، لقد وجدته في ظل هذا المصباح».
فتنهد جميعهم تنهد الراحة، ووقف الرجل الذي هم بالانتحار عن إتمام عمله، وقالوا: «كان يجب علينا أن نبحث جيدا».
ثم هنأ بعضهم بعضا، وبينما هم يفعلون ذلك إذا بربة الدار قد جاءت تهرول وهي تقول: «لقد وجدت النقد، وجدته لاصقا في غطاء صندوق الكعك».
فدهش الجميع أشد دهشة، وما روته الزوجة هو الحقيقة، ولكنهم وجدوا الآن أن بين أيديهم أحد عشر نقدا ذهبيا، في حين أنه كان ينبغي ألا يوجد سوى عشرة، فمن أين إذن جاء النقد الذي وجد في ظل المصباح؟ فلا بد أن أحدا منهم وضعه، ولكن من هو؟ وقال واحد منهم: «إذا كانت عشرة النقود قد صارت أحد عشر فيجب أن نفرح».
وأخذوا يهنئون هاردارا نيسوك الذي وقف مدهوشا من هذه الحوادث، وقال أحد الضيوف: «من الطبيعي أن تصير التسعة عشرة، ولكن من الغريب جدا أن تصير العشرة أحد عشر، فنرجو ذلك الذي دفع هذا النقد الزائد أن يتكلم حتى يرد إليه».
صفحة غير معروفة
فلم يجبه أحد مع تكراره وإلحاحه، ومضى الليل وصاحت الديكة، وليس فيهم من يعرض لأخذ هذا النقد الزائد، وبدأ الاكتئاب عليهم جميعا لهذا الحادث الذي نتج عن سوء التقدير، وأخيرا عرض عليهم رب البيت أن يقترح عليهم اقتراحا ويدعوهم إلى قبوله، ثم سألهم هل يوافقونه؟ فوافقوه جميعا.
فقال: «انظروا إلي الآن، فإني سأضع هذا النقد في صندوق الكعك، وسأضع الصندوق بجانب البئر عند باب الجنينة، وستخرجون أنتم وتذهبون إلى دوركم واحدا بعد الآخر، وكلما يخرج واحد منكم من الجنينة يقفل الباب وراءه، ولن يتحرك أحد منكم من هنا حتى نسمع صرير الباب وهو يقفل، فيمكن للشخص الذي دفع النقد الزائد أن يأخذه من الصندوق ويذهب إلى بيته».
ووضع النقد في الصندوق بجانب البئر، وخرج الضيوف فرادى، الواحد بعد الآخر، ولما خرجوا جميعا ذهب صاحب الحفلة وزوجته فحصا الصندوق فلم يجدا فيه النقد.
فمن هو الذي أخذه؟ ليس أحد يعرف ذلك، ولكن بدهي أن الرجل الذي وضعه قبلا لكي ينجى ذلك الضيف الآخر من القتل هو الذي أخذه، وإنما سلكوا جميعا هذا السلوك؛ لأنهم كانوا من رجال الحرب الأشراف من ذوي الخلق العظيم، الذين يعرفون واجباتهم وتبعاتهم، وكانت لهم على الرغم من فاقتهم شجاعة وإيمان بمبادئ شيعتهم الساموراء.
تاغورى
لمحة في شاعر الهند
دعنا من شعرائنا وما قالوه من مديح ورثاء وهجاء، وقصائد الاحتفالات، وأشعار ترتب على البحر والقافية كأنما قد قدمت بحساب، ولننظر الآن قليلا في شاعر الهند تاغورى، عسانا نجد فيه بعض ما يرفه عن النفس، ويبعث عن الأمل ويحرك فينا خاطر الاقتداء الشريف بمن يعد الآن في مقدمة شعراء العالم بشهادة أدباء أوروبا أنفسهم.
وقبل أن أترجم للقارئ بعض مقطوعاته أقول: إنها قد ترجمت للإنجليزية نثرا ولم تترجم نظما، وليس ذلك إلا لأن النثر يؤدي المعنى أكثر مما يؤديه النظم، ولذلك آثرت الترجمة بالنثر مع علمي بوجود بعض هذه المقطوعات منظومة في العربية، ولكن نظمها لا يرضي من يتوخى الدقة ومطابقة الأصل.
قال تاغورى:
عندما انتصف الليل قال رجل قد أزمع أن يشرع في حياة النسك: «هذا هو الوقت لكي أترك بيتي وأنشد ربي، آه، من هذا الذي ربطني بهذا الباطل طول هذه المدة؟».
صفحة غير معروفة
فهمس إليه الله قائلا: «أنا» ولكن آذان الرجل كانت مسدودة
وكانت امرأته نائمة وإلى صدرها طفلها على الفراش
ثم قال الرجل: «من هذا الذي غرني وخدعني طول حياتي؟»
فقال الصوت ثانيا: «هو الله»، ولكنه لم يسمع.
ثم صاح «الطفل» في أحلامه ولصق بصدر أمه.
وأمره الله قائلا: «قف أيها الأحمق، ولا تترك بيتك». ولكنه لم يسمع أيضا، فتنهد الله وقال: «لم يخرج هذا العبد يجول ويطوف ليبحث عني وهو يهجرني؟ •••
ليس ثراؤك ثراء لا حد له أيتها الأرض أيتها الأم الصبور الغبراء
فإنك تكدين لكي تملأي أفواه أبنائك، ولكن الطعام قليل
وعطية السرور التي تدخرينها لنا لم تكن قط كاملة
وهذه اللعب التي تصنعينها لأطفالك قصفة سريعة الانكسار
صفحة غير معروفة
إنك لن تستطيعي أن ترضي أطماعنا ولكن هل لي أن أهجرك لهذا السبب؟
إن ابتسامتك المظلمة بالألم حلوة في عيني وحبك الذي لا يعرف وصالا عزيز على قلبي
لقد أطعمتنا الحياة من صدرك ولكنك لم تطعمينا الخلود، وهذه هي العلة في أن عينيك أبدا يقظتان
لقد مضت دهور وأنت تعملين بالألوان والأغاني، ولكن ها هي ذي سماؤك لم يتم بناؤها بعد، فإننا لا نعرف منها سوى الإيحاء الحزين
وفوق ما أحدثته من الجمال سحابة من الدموع
وها أنا ذا أصب أغاني على قلبك الأخرس، وحبي على حبك
وسأعبدك بالعمل
لقد رأيت وجهك الحنون أيتها الأرض، أيتها الأم، وإني أحب غباؤك الكامد •••
لقد همس إلي قائلا: «حبيبتي ارفعي عينيك»
فوبخته بحدة وقلت: «اذهب» ولكنه لم يتحرك
صفحة غير معروفة
ووقف أمامي وقبض على كلتا يدي، فقلت: «اذهب عني» ولكنه لم يذهب
ثم وضع وجهه قريبا من أذني، فنظرت إليه وقلت: «يا للعار» ولكنه لم يتحرك
ثم لمست شفتاه خدي: فارتعشت وقلت: «إنك لجسور» ولكنه لم يخجل
ثم وضع زهرة في شعري فقلت: «لا فائدة من هذا ولكنه وقف دون أن يتأثر»،
ثم نزع عقد الزهر من عنقي وأخذه ومضى، وها أنا ذا أبكي وأسأل قلبي: «لم لا يرجع إلي؟» •••
أحبك يا حبيبي فاغفر لي حبي لقد وقعت كما يقع العصفور ضل عن طريقه
وعندما ارتعش قلبي تمزق حجابه فتجرد فجلله بالحنان يا حبيبي واغفر لي حبي
وإذا لم تقدر يا حبيبي أن تحبني فاغفر لي ألمي
ولا تنظر إلي نظرة الشرير من بعيد فإني سأذهب إلى الزاوية وأجلس في الظلام
وبكلتا يدي سأخفي خجلي العاري، أديري وجهك عنك يا حبيبتي، واغفر لي ألمي،
صفحة غير معروفة
وإذا كنت تحبيني يا حبيبتي، فاغفر لي فرحي
وعندما يحمل تيار السعادة قلبي فلا تبتسمي على استرسالي الخطر
وعندما ما أجلس على عرشي وأتحكم فيك بجوار الحب وأعاملك كما تعامل الربة من تحابيه فتحملني كبريائي واغفري لي فرحي •••
لا تحتفظ بأسرار قلبك يا صديقي، بح بها سرا إلي إلي وحدي
أنت يا من يبتسم بهذا اللطف، اهمس لي فإني أسمعك بقلبي لا بأذني
الليل عميق والمنزل صامت وأعشاش الطيور قد نسجت بالنوم
تكلم إلي من بين الدموع المترددة والابتسامات المتعثرة والخجل الحلو والألم الحلو وأخبرني بأسرار قلبك •••
هو: إني آخذ ما ترضخ به يدك لي، ولست أسألك أكثر من ذلك
هي: أجل أجل، إني أعرفك أيها السائل المتواضع، أنت تطلب كل ما عندي
هو: أما من زهرة تستغنين عنها أضعها في قلبي؟
صفحة غير معروفة
هي: ولكن هبني أعطيتك شوكا؟
هو: سأتحمله
هي: أجل أجل، إني أعرفك أيها السائل المتواضع أنت تطلب كل ما عندي
هو: لو أنك ترفعين عينيك العزيزتين إلى وجهي مرة واحدة فإنك تجعلينني أشعر بحلاوة الحياة التي لا يصل إليها الموت
هي: ولكن هبك وجدت نظرات قاسية فقط؟
هو: أحتفظ بها في قلبي الذي تخترقه
هي: أجل أجل، إني أعرف أيها السائل المتواضع أنت تطلب كل ما عندي •••
وحسب القارئ هذه المقطوعات نموذجا لشاعرية تاغورى، وأقول في الختام لبعض شعرائنا: إنهم قد يستغربون أنه ليس في دواوين تاغورى المطبوعة رثاء أو مديح، وإنه لم يتقرب بشعره لأمير أو غني أو شريف، ولم يؤجر عليها عند وضعها، وإنما هي عفو الخاطر وفيض العبقرية.
قصة البحار المصري
لكل أمة أساطيرها التي يؤثرها الخلف عن السلف تحكى للأطفال قبيل النوم، ويروع بها الآباء أبناءهم الصغار عند المخالفة والعصيان، فلكل أمة بعبع وغول، ولكل أمة أيضا طبعة خاصة عن البنت الفقيرة اليتيمة التي يسعدها الحظ وتتزوج من أحد الأمراء، أو عن ذلك الشاب الشجاع الذي يخاطر بحياته لكي يأتي لبنت الملك بما تشتهيه، فينال بذلك يدها ويتزوجها.
صفحة غير معروفة