فقال الشيخ حسين وهو يرد على ابنه أكثر مما يروي لي: «لما قلت نعمل القطعة مربعة كلكم وافقتوني، حد منكم قال لا؟ الدين ده أصله إيه؟ أنا عشت بعشرين قيراط وطول عمري أنتم اللي طمعتم».
ورأيت المحاورة بين الأب والابن توشك أن تحتدم وكل منهما يتهم الآخر بالطمع وبأنه السبب في الدين، فهونت عليهما وارتجلت لهما حسابا يمكنهما من دفع القسط واستهلاك شيء من رأس المال كل عام، فلا تمضي ست أو سبع سنوات حتى تكون الأرض خالصة من الدين، فوافقني كلاهما معتمدين على الله وما يكتبه لهما في لوح القدر.
وتركتهما وفي نفسي كمود أفكر في طريقي وأنا عائد إلى الكفر، وأتأمل في هذا الشيخ الذي كنت أتمثل السعادة الريفية فيه وأذكر قناة ساقيته بمائها الصافي والظل الوارف الذي تسبغه الأشجار عليها كأنها لازمة من لوازم السعادة. وأذكر البشاشة التي كانت تكسو وجهه كيف تبدلت الآن هما عظيما يأخذ عليه مسالك تفكيره ويملأ حياته نكدا ونغاصة، ما كان أسعده وهو في تلك العشرين القيراط وإن لم تكن في ذلك الوقت مربعة، وما أشقاه الآن بهموم الدين ولو أن القطعة مربعة وتبلغ ثمانية وعشرين قيراطا.
والحق أني تمنيت لهذا المسكين أمنية خالصة أن يخلص من دينه ويعود إلى حياته الساذجة وأن يفرغ من هذه الهموم التي طرأت عليه في شيخوخته وسودت عليه أيامه.
واغتربت أنا عن الكفر نحو ست سنوات عدت بعدها إليه، فما كان أشد استغرابي وألمي عندما سمعت أن الشيخ حسين ولي وأولاده قد انتقلوا إلى كفرنا بعد أن بيعت أرضهم وبيع بيتهم في القرية المجاورة، وأنهم الآن يشتغلون بالأجرة، وكانت خلاصة ذلك أنهم لم يقدروا على دفع الدين فبيعت الأرض فلم تف بالدين فبيع البيت أيضا.
هذه هي خلاصة القصة التي رواها لي أهل كفرنا، ولكني أردت أن أستقيها من معينها الأصلي، فانتهزت فرصة وجود الشيخ حسين بالغيط وخرجت لكى أقعد معه قليلا وأهون عليه هذه الحالة الجديدة التي ألقاه فيها القدر، ولكن ما أشد ما كانت دهشتي عندما رأيت الشيخ حسين قد عادت إليه بشاشته ووجهه متهلل ينبسط في الحديث ويروي ماضيه رواية موضوعية كأن لا شأن له في وقائعها، فذكرت حاله هذه بحاله تلك عندما زرته عند الساقية وهو مثقل بالدين مشتت الفكر حائر في كيفية دفعه فقلت في نفسي: «هذا هو برد اليقين تطمئن إليه النفس بعد هموم الحيرة، فإن المصيبة مهما ثقلت وفدحت أهون على النفس عند التحقق من وقوعها مما هي عند الشك في وقوعها والنجاة منها».
وقعدت أمامه على العشب أغذو عيني من هيئته الساذجة واستسلامه لحكم الأقدار، وكانت عصاه معه ينكت بها الأرض وساقاه عاريتين إلى الركب وعروقهما بارزة، أما وجهه فلم يتغير عما عهدته منذ صباي لولا أن الشيب قد وخطه قليلا وأسنانه الأمامية قد زالت إلا اثنتين ضلتا أخواتهما ووقفتا مفردتين معلقتين.
فأبديت شوقي لرؤيته وذكرت له أسفي عن فقدانه أرضه، فضحك ونظر إلى الأرض ونكتها بعصاه وقال: «هيه. عمرك طويل كلها فانية، واهو عمر ويفوت»
قلت: «ولكن أرضك يا شيخ حسين كانت جيدة وغلتها كبيرة، وكان يمكنك دفع الأقساط كلها».
فقال: «كان يمكني، لكن حصل غش وسرقوا منا الأرض سرقة، الله يجازيهم».
صفحة غير معروفة