ومن هذه المحاكية ما هو أتم محاكاة، ومنها ما هو أنقص محاكاة. والاستقصاء فى الأتم منها والأنقص إنما يليق بالشعراء وأهل المعرفة بأشعار لسان لسان ولغة لغة، ولذلك ما يخلى عن القول فيها لأولئك — ولا يظنن ظان أن المغلط والمحاكى قول واحد، وذلك أنهما مختلفان بوجوه: منها أن غرض المغلط غير غرض المحاكى، إذ المغلط هو الذى يغلط السامع إلى نقيض الشىء حتى يوهمه أن الموجود غير موجود وأن غير الموجود موجود. فأما المحاكى للشىء فليس يوهم النقيض، لكن الشبيه. ويوجد نظير ذلك فى الحس، وذلك أن الحال التى توجب إيهام الساكن أنه متحرك، مثل ما يعرض لراكب السفينة عند نظره إلى الأشخاص التى هى على الشطوط، أو لمن على الأرض فى وقت الربيع عند نظره إلى القمر والكواكب من وراء الغيوم السريعة السير — هى الحال المغلطة للحس؛ فأما الحال التى تعرض للناظر فى المرآئى والأجسام الصقيلة فهى الحال الموهمة شبيه الشىء.
وقد يمكن أن تقسم الأقاويل بقسمة أخرى وهى أن نقول: القول لا يخلو من أن يكون: إما جازما، وإما غير جازم. والجازم: منه ما يكون قياسا، ومنه ما يكون غير قياس. والقياس: منه ما هو بالقوة، ومنه ما هو بالفعل. وما هو بالقوة: إما أن يكون استقراء، وإما أن يكون تمثيلا . والتمثيل أكثر ما يستعمل إنما يستعمل فى صناعة الشعر. فقد تبين أن القول الشعرى هو التمثيل.
وقد يمكن أن تقسم القياسات، وبالجملة الأقاويل ، بقسمة أخرى ميقال: إن الأقاويل إما أن تكون صادقة لا محالة بالكل، وإما أن تكون كاذبة لا محالة بالكل، وإما أن تكون صادقة بالأكثر كاذبة بالأقل، وإما عكس ذلك، وإما أن تكون متساوية الصدق والكذب. فالصادقة بالكل لا محالة هى البرهانية، والصادقة بالبعض على الأكثر فهى الجدلية، والصادقة بالمساواة فهى الخطبية، والصادقة فى البعض على الأقل فهى السوفسطائية، والكاذبة بالكل لا محالة فهى الشعرية. — وقد تبين من هذه القسمة أن القول الشعرى هو الذى ليس بالبرهانية ولا الجدلية ولا الخطابية ولا المغالطية، وهو مع ذلك يرجع إلى نوع من أنواع السولوجسموس أو ما يتبع السولوجسموس — وأعنى بقولى: « ما يتبعه »: الاستقراء والمثال والفراسة، وما أشبهها مما قوته قوة قياس.
صفحة ١٥١