النور والفراشة: رؤية جوته للإسلام وللأدبين العربي والفارسي مع النص الكامل للديوان الشرقي
تصانيف
والإسكندر بكى رفيق عمره الذي قتله بنفسه
دعوني أبكي، إن الدموع تحيي التراب،
وها هو ذا يخضر.
فالموضوع هنا هو فراق الأحباب، والعاطفة الغالبة هي الرغبة في إطلاق الدموع دون حاجة إلى خجل أو تبرير. وغني عن الذكر أن هذا الموضوع الأساسي الذي تبدأ به المعلقات، ألا وهو البكاء على الأطلال، وسواء أكان جوته قد تنبه إليه بإحساسه كشاعر أم عرفه من ملاحظات المستشرق الألماني تيودور هارتمان ومن مقدمة ترجمته للمعلقات التي عكف عليها جوته في الفترة التي كان فيها مشغولا بتأليف ديوانه الشرقي، فإن تأثير معلقة امرئ القيس على قصيدة السالفة وكذلك مطلع معلقتي «طرفة بن العبد» و«الحارث بن حلزة» تأثير واضح لا شكل فيه. ولست أحب أن أحسب هذا التأثير بطريقة تشبه أن تكون رياضية كما فعلت الباحثة كاترينا مومزن التي أخذت توازن موازنة دقيقة بين أبيات قصيدة جوته وبين أبيات امرئ القيس وطرفة وغيرهما من شعراء المعلقات. ففي اعتقادي أن مثل هذه الطريقة المضنية ربما لا تؤتي الثمار التي توازي ما بذل فيها من جهد وعناء. إن الشاعر العظيم يتأثر من هنا ومن هناك، ومن العبث أن نحسب مقدار هذا التأثر بالقلم والمسطرة. ثم إن القصيدة الشعرية الجديرة بهذا الاسم تنطوي على شيء لا يمكن قياسه أو تحليله وتشريحه، شيء ينبعث من انطباعها الإنساني والجمالي في نفوسنا؛ لأنه كالحياة ذاتها لا سبيل إلى قياسه أو تحديده. والمهم على كل حال أن نعرف أن المعلقات كانت الأثر الأدبي الذي استطاع أكثر من أي أثر في الأدب العالمي أن يلفت انتباه شاعرنا إلى هذه التجربة الخالدة، تجربة فراق الأحباب والبكاء عليهم، وليس هذا بالشيء القليل.
وهناك قصيدتان أخريان من قصائد الديوان الشرقي، الأولى: هي قصيدة «هجرة» التي يفتتح بها الديوان، والثانية هي قصيدة «من أين لك هذا، وكيف جاء إليك» من كتاب الضيق أو كتاب السخط وسوء المزاج (رنج نامه) في نفس الديوان. والقصيدة الأولى توحي بجو الشرق عامة وبالحياة البدوية بوجه خاص بكل ما فيها من شهامة وكرم وشجاعة ونزوع إلى الحرب والأخذ بالثأر. وكلتا القصيدتين تشير إلى الجو العربي الذي عاش فيه الشاعر في أثناء تفكيره فيهما وكتابته لهما. وسأكتفي هنا بالقصيدة الأولى نظرا لضيق المقام. وأكرر ما ذكرته من أنني لا أحب أن أضل بالقراء في متاهات البحث والمقارنة والتحليل التفصيلي لهذه القصيدة، فأنا من المؤمنين بأن الخلق الفني - بعد كل تحليل ودراسة علمية مشروعة ! - ينبغي أن يحتفظ بسره المعجز، ولو جردناه من هذا السر لفقد أغلى ما فيه، ولذلك فسوف أكتفي بذكر الأثر العام الذي تركته الحياة البدوية والفطرية على هذه القصيدة؛ لأعفي القراء من تفصيلات مرهقة.
تقول قصيدة الهجرة (وهي من كتاب المغني):
الشمال والغرب والجنوب تتناثر وتنهار
العروش تثل، والممالك تضطرب،
فهاجر أنت إلى الشرق الطهور
لتستروح نسيم الآباء الأولين،
صفحة غير معروفة