وأجاب إمام الحرمين عن سؤال الاستقراء بأن قال نحن لم نستقر الحال في الشاهد ولا نحكم على الغائب بحكم الشاهد لكنا نقول قام الدليل على حدوث العالم واحتياجه من حيث إمكانه إلى مرجح لأحد طرفي الإمكان والمرجح إما أن يرجح بذاته ولذاته أو بذاته على صفة أو بصفة وراء الذات واستحال الترجيح والتخصيص بالوجود بالذات من حيث هو ذات بأن الموجب بالذات لا يخصص مثلا عن مثل فإن نسبة الذات إلى هذا المثل كنسبته إلى المثل الثاني فيجب أن يكون بصفة وراء الذات أو بذات على صفة وقد ورد التنزيل والشرع بتسمية تلك الصفة التي يتأتى بها التخصيص إرادة ثم الإرادة تخصص ولا توقع فالصفة التي يتأتى بها الإيقاع والإيجاد هي القدرة والفعل إذا اشتمل على إتقان وإحكام وجب بالضرورة كون الصانع عالما والإرادة أيضا لا تتعلق بشيء إلا بعد أن يكون المريد عالما وهذه الصفات تستدعي في ثبوتها الحياة فوجب أن يكون الصانع حيا وقد نازعوه في تماثل الأشكال وتشابه الأمثال وذلك عنادا وجدال لكن الخصم يقول نسبة الصنع عندنا إلى الذات كنسبته إلى الإرداة والقدرة عندكم فإن الإرادة عندكم واحدة وهي في ذاتها صفة صالحة يتأتى بها التخصيص مطلقا ونسبتها إلى هذا المثل كنسبتها إلى مثل آخر وكذلك القدرة ولأنهما لا يتعلقان بالمرادات والمقدورات قبل الإيجاد فما الموجب لتخصيص حال الوجود بالإيقاع ونسبة الإرادة والقدرة إلى هذه الحال كنسبتها إلى حال أخرى فجوابكم عن تعلق الصفات بالمتعلقات إيجادا هو جوابنا عنا نسبة إلى الموجبات إيجابا والسؤال مشكل وقد أشرنا إلى حل الإشكال في حدث العالم وربما يقول الخصم ألستم رددتم معنى كونه حكيما إلى كونه مريدا أو فاعلا على مقتضى العلم ورد الكعبي كونه مريدا إلى كونه قادرا عالما ورد أبو الحسين البصري جملة الصفات إلى كونه قادرا عالما على رأي وإلى كونه قادرا على رأي وإلى كونه عالما على رأي فنحن رددنا جملة الصفات إلى كونه ذاتا واجبة الوجود على جلال وكمال تصدر منه الموجودات على أحسن نظام وأتقن أحكام ثم يشتق له اسم من نحو آثاره لذاته أو اسم لذاته أو اسم من حيث تقدسه عن سمات مخلوقاته ويسمى الأول أسماء إضافية كالعلة والمبدأ والصانع ويسمى الثاني أسماء سلبية كالواحد والعقل والعاقل والواجب وأشتهي أن تجري في هذه الأسامي مباحثة عقلية للإنصاف والانتصاف.
فأقول العلة والمبدأ عندكم يقال على كل ما استمر له وجود في ذاته ثم حصل منه وجود شيء آخر ويقوم به وقد يكون الشيء علة للشيء بالذات وقد يكون بالعرض وقد تكون علة قريبة وقد تكون علة بعيدة وواجب الوجود لذاته تام الوجود في ذاته وحصل منه العقل الأول أهو علة له بالذات أم بالعرض فإن كان علة له بالذات لا بالعرض فهو مبدأ له بالقصد الأول لا بالقصد الثاني ولم يكن واجب الوجود غنيا مطلقا بل فقيرا محتاجا إلى كسب ولم يكن كاملا مطلقا بذاته لولا معلولة بل كاملا بغيره ناقصا باعتبار ذاته كيف وهم يأبون أن يكون المعلول الأول وسائر الموجودات إلا من لوازم تعقله بذاته فلا يكون توجيه واجب الوجود الأزلي إلا إلى ذاته على سبيل الاستغناء المطلق عن الكل ووجوه سائر الموجودات إليه على سبيل احتياج الكل إليه وإن قالوا هو علة بالعرض لا بالذات مبدأ بالقصد الثاني لا بالقصد الأول قلنا فما لم تكن العلة علة لشيء بالذات لا تكون علة لشيء آخر بالعرض وما لم يكن مبدأ الشيء بالقصد الأول لا يكون مبدأ الشيء بالقصد الثاني فيلزم ما لزم في الأول فيبطل إطلاق لفظ العلة والمبدأ عليه.
صفحة ٥٩