القاعدة الأولى
في حدث العالم وبيان استحالة حوادث لا أول لها واستحالة وجود
أجسام لا تتناهى مكانا
مذهب أهل الحق من أهل الملل كلها أن العالم محدث ومخلوق أحدثه الباري تعالى وأبدعه وكان الله تعالى ولم يكن معه شيء ووافقتهم على ذلك جماعة من أساطين الحكمة وقدماء الفلاسفة مثل تاليس وانكساغورس وانكسمايس ومن تابعهم م أهل ملطية ومثل فيثاغورس وأنبدقلس وسقراط وأفلاطن من أثينية ويونان وجماعة من الشعراء والنساك ولهم تفصيل مذهب في كيفية الإبداع واختلاف رأي في المبادي الأول شرحناها في كتابنا الموسوم بالملل والنحل ومذهب أرسطاطاليس ومن شايعه مثل برقلس والاسكندر الافروديسي وثامسطيوس ومن نصر مذهبه من المتأخرين مثل أبي نصر الفارابي وأبي علي الحسين بن عبد الله بن سينا وغيرهما من فلاسفة الإسلام أن للعالم صانعا مبدعا وهو واجب بذاته والعالم ممكن الوجود بذاته واجب الوجود بالواجب بذاته غير محدث حدوثا يسبقه عدم بل معنى حدوثه وجوبه به وصدوره عنه واحتياجه إليه وهو جوهر مجرد قائم بذاته مجرد عن المادة وبتوسط ذلك أوجب عقلا آخر ونفسا وجرما سماويا وبتوسطهما وجدت العناصر والمركبات وليس يجوز أن يصدر عن الواحد إلا واحد ومعنى الصدور عنه وجوبه به ولا يتصور موجب بغير موجب فالعالم سرمدي وحركات الأفلاك سرمدية لا أول لها تنتهي إليه فلا تكون حركة إلا وحركة قبلها فهي لا تتناهى مدة وعدة واتفقوا على استحالة وجود علل ومعلولات لا تتناهى واتفقوا أيضا على استحالة وجود أجسام لا تنتهي بالفعل والضابط لمذهبهم فيما يتناهى وما لا يتناهى إن كل عدد فرضت آحاده موجودة معا وله ترتيب وضعي أو فرضت آحاده متعاقبة في الوجود وله ترتيب طبيعي فإن وجود ما لا نهاية له فيه مستحيل.
مثال القسم الأول جسم أو بعد لا يتناهى ومثال القسم الثاني علل ومعلولات لا تتناهى وما عدى ذلك كل جملة وعدد فرضت آحاده معا أو متعاقبة لا ترتيب لها وضعا ولا طبعا فإن وجود ما لا نهاية له فيه غير مستحيل مثال القسم الأول نفوس إنسانية لا تناهى وهي معا في الوجود بعد مفارقة الأبدان.
صفحة ١
ومثال القسم الثاني: حركات دورية وهي متعاقبة في الوجود ومدار المسئلة على الفرق بين الإيجاد والإيجاب وبين التقدم والتأخر وإن ما حصره الوجود فهو متناه من غير فرق بين الأقسام وما لا يتناهى قط لا يتصور إلا في الوهم والتخيل دون الحسن والعقل ولا بد من بحث على محل النزاع حتى يتخلص فيكون التوارد بالنفي والإثبات على محل واحد من وجه واحد فيصبح انقسام الصدق والكذب والحق والباطل ولا يتبين محل النزاع إلا بالبحث عن أقسام التقدم والتأخر فقال القوم التقدم والتأخر يطلق ويراد به التقدم بالزمان كتقدم الوالد على الولد ويطلق ويراد به التقدم بالمكان والتأخر به كتقدم الإمام على المأموم وقد يسمى هذا القسم متقدما بالرتبة وقد يطلق ويراد به الفضيلة كتقدم العالم على الجاهل وقد يطلق ويراد به التقدم بالذات والتأخر بها كتقدم العلة على المعلول وهؤلاء قصدوا في إطلاق لفظ الذات فإنهم أرادوا به العلية والذات أعم من العلية فكان من حقهم أن يقولوا التقدم بالعلية ثم العلية الغايية تتقدم على المعلول في الذهن والتصور لا في الوجود فهي متأخرة في الوجود متقدمة في الذهن بخلاف العلة الفاعلية والعلل الصورية فإنها لا تكون مقارنة في الوجود فافهم هذا فإنه ينفعك في نفس المسئلة حيث يستشهدون بشعاع الشمس مع الشمس وحركة الكم مع حركة اليد فإنهما وإن تقارنا في الزمان أنهما إذا أخذا على أن أحدهما سبب والثاني مسبب لم يتقارنا في الوجود لأن وجود أحدهما مستفاد من وجود الآخر فوجود المفيد كيف يقارن وجود المستفيد لكن إذا أخذا على أن وجودهما مستفاد من وجود واهب الصور فحينئذ يتقارنان في الوجود وهناك لا يكون أحدهما سببا والثاني مسببا ومنهم من زاد قسما خامسا وهو التقدم بالطبع كتقدم الواحد على الاثنين ولو طالبهم مطالب لم حصرتم الأقسام في أربعة أو خمسة لم يجدوا على الحصر دليلا سوى الاستقراء حتى لو قيل لهم ما الذي أنكرتم على من زاد قسما سادسا وهو التقدم والتأخر في الوجود من غير التفات إلى الإيجاب بالذات ولا التفات إلى الزمان والمكان والتقدم للواحد على الاثنين شديد الشبه بهذا القبيل فإن الواحد ليس بعلة يلزم منه وجود الاثنين ضرورة بل يمكن أن يتصور شيآن أحدهما وجوده بذاته والثاني وجوده مستفاد من غيره ثم بعد ذلك يقع البحث في انه يستفيد وجوده منه اختيارا أو طبعا أو ذاتا هذا معقول بالضرورة ثم يجب أن يفرض تقدم وجود المفيد على وجود المستفيد من حيث الوجود فقط من غير أن يخطر بالبال كون المفيد علة لذاته أو موجدا له بصفة ثم يقع بعد ذلك التفات إلى أن الوجود المستفيد وجود واجب به لأنه علته أو لا يحب به وذلك لأن الوجوب بالغير لازم به فإنه يحسن أن يقال هذا قد وجد عنه فوجب به ولا يجوز أن يقال وجب به فوجد عنه ولكل معنى من معاني التقدم والتأخر معية في مرتبته لا يجامع التقدم والتأخر في تلك المرتبة ويجامع في مرتبة أخرى مثاله تقدم السبب على المسبب ذاتا ووجودا أو مقارنته معا وزمانا أو مكانا ولكن لا يجوز أن تطلق معية ما على الباري تعالى والعالم فإذا ثبت هذا قلنا إما التقدم والتأخر الزماني فيجب نفيهما عن الباري تعالى وكما لا يجوز أن يتقدم على العالم زمانا لم يجز أن يكون مع العالم زمانا فإنا كما نفينا التقدم الزماني نفينا المعية الزمانية ومثار الشبهة ومجال الخيال هاهنا فإن فازت سفينة النظر عن هذه الغمرة فاز أهل الحق بقصب السبق في المسئلة فإن ما لا يقبل الزمان ولم يكن وجوده زمانيا لم يجز عليه التقدم والتأخر والمعية الزمانية كما أن ما لا يقبل المكان ولم يكن وجوده وجودا مكانيا لم يجز عليه التقدم والتأخر والمعية المكانية فقول الخصم إن العالم معه دايم الوجود إيهام بالزمان فيقال يجوز أن يكون موجودان أحدهما متقدم بالذات والآخر متأخر بالذات ويكونان معا في الزمان فإن التقدم بالذات لا ينافي المعية في الزمان كتقدم السبب على المسبب وحركة اليد على حركة المفتاح في الكم لكن إذا كان وجودهما زمانين فإما وجود لا يقبل الزمان أصلا كيف يطلق عليه معية بالزمان وذلك كالتقدم بالمكان والمعية به فإن السبب والمسبب قد يكونان معا في المكان ويسبق أحدهما الآخر بالذات لكن إذا كان وجودهما مكانين فإما وجود لا يقبل المكان أصلا فكيف يطلق عليه معية المكان ونحن لا ننكر أن الوهم يرتمي إلى مدة مقدرة قبل العالم كما يرتمي إلى فضاء مقدر فوق العالم وذلك وهم مجرد وخيال محض فلا فضاء ولا بينونة كما يقدره الكرامي ولا زمان ولا مدة كما يقدره الوهمي ولو قدر تقديرا عالم آخر فوق هذا العالم لم يؤد ذلك إلى تجويز ذلك إلى تجويز عوالم هي أجسام لا تتناهى إذ قد تبين بالبرهان استحالة بعد لا يتناهى في الملا والخلا وكذلك لو قدر تقديرا عالم آخر قبل هذا العالم لم يؤد ذلك إلى تجويز عوالم هي متحركات لا تتناهى إذ تبين بالبرهان استحالة مدة وعدة لا تتناهى فرجع الخلاف إذا إلى استحالة وجود جسم لا يتناهى بعدا وبيان استحالة وجود أجسام لا تتناهى زمانا فإن الخصم يسلم التقدم والتأخر في المعية فإذا سلم التقدم نقول لا يلزم من تقدير جسم لا يتناهى بعدا وإن كان مستحيلا أن يكون مع الباري تعالى بالمكان كذلك لم يلزم من تقدير حركات لا تتناهى زمانا أن تكون مع الباري تعالى بالزمان فإنه تعالى غير قابل للزمان والمكان وكان الله ولم يكن معه شيء إذ لم تكن معية بالذات ولا بالوجود ولا بالرتبة المكانية والزمانية ولم يلزم من إطلاق كونه موجدا أن يكون الموجد معه في الوجود ولا لزم من إطلاق كونه موجبا أن يكون الموجب معه في الوجود فإن الوجود المستفاد لا يكون مع الوجود المفيد وكان المعية من كل وجه وعلى كل معنى من الأقسام منفيا عنه سواء أطلقناها في قسم واحد أو في قسمين مركبين ونحن نبدأ بطرق المتكلمين ثم نعود إلى ما ذكرناه من الكلام على محل النزاع. معية المكان ونحن لا ننكر أن الوهم يرتمي إلى مدة مقدرة قبل العالم كما يرتمي إلى فضاء مقدر فوق العالم وذلك وهم مجرد وخيال محض فلا فضاء ولا بينونة كما يقدره الكرامي ولا زمان ولا مدة كما يقدره الوهمي ولو قدر تقديرا عالم آخر فوق هذا العالم لم يؤد ذلك إلى تجويز ذلك إلى تجويز عوالم هي أجسام لا تتناهى إذ قد تبين بالبرهان استحالة بعد لا يتناهى في الملا والخلا وكذلك لو قدر تقديرا عالم آخر قبل هذا العالم لم يؤد ذلك إلى تجويز عوالم هي متحركات لا تتناهى إذ تبين بالبرهان استحالة مدة وعدة لا تتناهى فرجع الخلاف إذا إلى استحالة وجود جسم لا يتناهى بعدا وبيان استحالة وجود أجسام لا تتناهى زمانا فإن الخصم يسلم التقدم والتأخر في المعية فإذا سلم التقدم نقول لا يلزم من تقدير جسم لا يتناهى بعدا وإن كان مستحيلا أن يكون مع الباري تعالى بالمكان كذلك لم يلزم من تقدير حركات لا تتناهى زمانا أن تكون مع الباري تعالى بالزمان فإنه تعالى غير قابل للزمان والمكان وكان الله ولم يكن معه شيء إذ لم تكن معية بالذات ولا بالوجود ولا بالرتبة المكانية والزمانية ولم يلزم من إطلاق كونه موجدا أن يكون الموجد معه في الوجود ولا لزم من إطلاق كونه موجبا أن يكون الموجب معه في الوجود فإن الوجود المستفاد لا يكون مع الوجود المفيد وكان المعية من كل وجه وعلى كل معنى من الأقسام منفيا عنه سواء أطلقناها في قسم واحد أو في قسمين مركبين ونحن نبدأ بطرق المتكلمين ثم نعود إلى ما ذكرناه من الكلام على محل النزاع.
فنقول للمتكلمين طريقان في المسئلة أحدهما إثبات حدث العالم والثاني إبطال القول بالقدم.
أما الأول فقد سلك عامتهم طريق الإثبات بإثبات الإعراض أولا وإثبات حدثها ثانيا وبيان استحالة خلو الجواهر عنها ثالثا وبيان استحالة حوادث لا أول لها رابعا ويترتب على هذه الأصول أن ما لا يسبقه الحوادث فهو حادث وقد أوردوا هذه الطريقة في كتبهم أحسن إيراد.
صفحة ٣
وأما الثاني فقد سلك شيخنا أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه طريق الإبطال وقال لو قدرنا قدم الجواهر لم يخل من أحد أمرين إما أن تكون مجتمعة أو مفترقة أو لا مجتمعة ولا مفترقة أو مجتمعة ومفترقة معا أو بعضها مجتمع وبعضها مفترق وبالجملة ليست تخلو عن اجتماع وافتراق أو جواز طريان الاجتماع والافتراق وتبدل أحدهما بالثاني وهي بذواتها لا تجتمع ولا تفترق لأن حكم الذات لا يتبدل وهي قد تبدلت فإذا لا بد من جامع فارق فيترتب على هذه الأصول أن ما لا يسبق الحادث فهو حادث وقد أخذ الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني هذه الطريقة وكساها عبارة أخرى وربما سلك أبو الحسن رحمه الله طريقا في إثبات حدوث الإنسان وتكونه من نطفة أمشاج وتقلبه في أطوار الخلقة وأكوار الفطرة ولسنا نشك في أنه ما غير ذاته ولا بدل صفاته ولا الأبوان ولا الطبيعة فيتعين احتياجه إلى صانع قديم قادر عليم قال وما ثبت من الأحكام لشخص واحد أو لجسم واحد ثبت في الكل في الجسمية وهذه الطريقة تجمع الإثبات والإبطال واعتمد إمام الحرمين رضي الله عنه طريقة أخرى فقال الأرض عند خصومنا محفوفة بالماء والماء بالهواء والهواء بالنار والنار بالأفلاك وهي أجرام متحيزة شاغلة جوا وحيزا وبالاضطرار نعلم أن فرض هذه الأجسام متيامنة عن مقرها أو متياسرة أو أكبر مما وجدت شكلا وعظما أو أصغر من ذلك ليس من المستحيلات وكل مختص بوجه من وجوه الجواز دون ساير الوجوه مع استواء الجايزات وتماثل الممكنات احتاج إلى مخصص بضرورة العقل وستعلم فيما بعد أن العالم ممكن الوجود باعتبار ذاته سواء قدر كونه متناهيا في ذاته مكانا أو زمانا أو غير متناه فإن الخصم يقضي عليه بالإمكان على انه في ذاته غير متناهي الزمان وهو متناهي المكان فالأولى أن يجعل للتناهي المكاني مسئلة ويجعل للتناهي الزماني من حيث الحركات والمتحركات مسئلة أخرى ونأخذ احتياجه إلى المخصص كالمسلم أو كالضروري أو كالقريب من الضروري.
فإن قيل فما الدليل على تطرق وجود الجايزات إلى العالم بأسره قلنا العقل الصريح يقضي بالإمكان في كل واحد من أجزاء العالم والمجموع إذا كان مركبا من الأجزاء كان الإمكان واجبا له ضرورة.
صفحة ٤
فإن قيل فما الدليل على أن الأجسام متناهية من حيث الذات قلنا لو قدرنا جسما لا يتناهى أو بعدا لا يتناهى فإما أن يكون ذلك الجسم غير متناه من جميع الجهات أو من جهة واحدة وعلى أي وجد قدر فيمكن أن يفرض فيه نقطة متناهية يتصل بها خط لا يتناهى ويمكن أن تفرض نقطة أخرى على خط هو أنقص من الأول بذراع ونصل بين النقطتين بحيث يطبق الخط الأصغر على الخط الأطول فإن كان كل واحد من الخطين تمادى إلى غير نهاية فيكون الخط الأصغر مساويا للخط الأطول وهو محال وإن قصر الأقصر عن الأطول بمتناه فقد تناهى الأقصر وتناهى الأطول إذ قصر عنه الأقصر بمتناه وزاد الأطول عليه بمتناه وما زاد على الشيء بمتناه كان متناهيا وعلى كل حال فإن كان أحدهما أكبر من الثاني كان فيما لا يتناهى ما هو أصغر وأكبر وأكثر وأقل وذلك محال فعلم أن جسما لا يتناهى محال وجوده وإن بعدا لا يتناهى في خلا أو ملا محال ويمكن أن ينقل هذا البرهان بعينه إلى أعداد وأشخاص لا تتناهى حتى يتبين أن فرض ذلك محال فإذا قضينا على الجسم بالتناهي وجاز أن يكون أكبر منه وأصغر وإذا تخصص أحد الجايزين احتاج إلى المخصص وكما يمكن فرض الجواز في الصغر والكبر يمكن فرضه في التيامن والتياسر فإن الجواز العقلي لا يقف في الجايزات ثم المخصص لا يخلو إما أن يكون موجبا بالذات مقتضيا بالطبع وإما أن يكون موجدا بالقدرة والاختيار والأول باطل فإن الموجب بالذات لا يخصص مثلا عن مثل إذ الإحياز والجهات والأقدار والأشكال وساير الصفات بالنسبة إليه واحدة وهي في ذواتها متماثلة إذ لا طريق لنا إلى إثبات الصانع إلا بهذه الأفعال وقد ظهر فيها آثار الاختيار لتخصيصها ببعض الجايزات دون البعض فعلمنا قطعا ويقينا أن الصانع ليس ذاتا موجبا بل موجدا عالما قادرا وهذه الطريقة في غاية الحسن والكمال إلا أنها محتاجة إلى تصحيح مقدمات ليحصل بها العلم بحدث العالم واحتياجه إلى الصانع منها إثبات نهاية الأجرام في ذواتها ومقاديرها ومنها إثبات خلا وراء العالم حتى يمكن فرض التيامن والتياسر فيه ومنها نفي حوادث لا أول لها فإن الخصم ربما يقول بموجب الدليل كله ويسلم أن العالم ممكن الوجود في ذاته وأنه محتاج إلى مخصص مرجح لجانب الوجود على العدم ومع ذلك يقول هو دايم الوجود به ومنها حصر المحدثات في الإجرام والقايم بالإجرام وقد أثبت الخصم موجودات خارجة عن القسمين هي دائمة الوجود بالغير دواما ذاتيا لا زمانيا ووجودا جوهريا لا مكانيا بحيث لا يمكن فرض التيامن والتياسر والصغر والكبر فيها ولا تتطرق الأشكال والمقادير إليها ومنها إثبات أن الموجب بالذات كالمقتضى بالطبع فإن الخصم لا يسلم ذلك ويفرق بين القسمين والأولى أن تفرض المسئلة على قضية عقلية يوصل إلى العلم بها بتقسيم داير بين النفي والإثبات.
فنقول القسمة العقلية حصرت المعلومات في ثلثة أقسام واجب ومستحيل وجايز فالواجب هو ضروري الوجود بحيث لو قدر عدمه لزم منه محال والمستحيل هو ضروري العدم بحيث لو قدر وجوده لزم منه محال والجايز ما لا ضروري في وجوده ولا عدمه والعالم بما فيه من الجواهر العقلية والأجسام الحسية والأعراض القايمة بها قدرناه متناهيا وغير متناه وكذلك لو قدرنا انه شخص واحد أو أشخاص وأنواع كثيرة إما أن يكون ضروري الوجود أو ضروري العدم وذلك محال لأن أجزاءه متغيرة الأحوال عيانا وضروري الوجود على كل حال لا يتغير بحال.
صفحة ٥
فوجه تركيب البرهان منه أن نقول كل متغير أو متكثر فهو ممكن الوجود باعتبار ذاته وكل ممكن الوجود باعتبار ذاته فوجوده بإيجاد غيره فكل متغير أو متكثر فوجوده بإيجاد غيره وأيضا فإن الكل متركب من الآحاد والآحاد إذا كان كل واحد منها ممكن الوجود فالكل واجب أن يكون ممكن الوجود وكل ممكن فهو باعتبار ذاته جايز أن يوجد وجايز أن لا يوجد وإذا ترجح جانب الوجود على العدم احتاج إلى مرجح والمرجح يستحيل أن يكون مرجحا باعتبار ذاته ومن حيث وجوده فقط لأمور أحدها أن الوجود من حيث هو وجود أمر يعم الواجب والجايز وهو فيهما بمعنى واحد لا يختلف فلو أوجد من حيث أنه وجود أو من حيث أنه ذات لما كان أحد الموجودين أولى بالإيجاد من الثاني فيتعين أنه يوجد لكونه وجودا على صفة أو ذاتا على صفة ويدل على ذلك الأمر الثاني وهو أن وجوه الجواز قد تطرقت إلى الأفعال وتلك الوجوه متماثلة والموجب لا يخصص مثلا عن مثل فإن نسبة أحد المثلين إليه كنسبته إلى المثل الثاني فإذا خصص أحد المثلين دون الثاني علم أن الإيجاب الذاتي باطل فإن منعوا تلك الوجوه فلا شك أن الجايز بنفسه يتساوى طرفاه ونسبة الذات من حيث هو ذات إلى أحد طرفيه كنسبته إلى الطرف الثاني فإذا تخصص بالوجود دون العدم فلا بد من مخصص وراء كونه ذاتا وبطل الإيجاب بالذات والثالث أن الموجب بالذات ما لم يناسب الموجب بوجه من وجوه المناسبة لم يحصل الموجب وذلك أنا إذا تصورنا ذاتين أو أمرين معلومين لا اتصال لأحدهما بالآخر ولا مناسبة بينهما ولا تعلق ولا أشعار بل اختص كل واحد منهما بحقيقته وخاصته لم يقض العقل بصدور أحدهما عن الثاني وواجب الوجود لذاته ذات قد تعالى وتقدس عن جميع وجوه المناسبات والتعلق والاتصال بل هو منفرد بحقيقته التي هي له وهي وجوب وجوده ولا صفة له ثانية تزيد على ذاته الواجبة فلا يلزم أن يوجد عنه شيء بحكم الذات فإيجاب الذات غير معقول أصلا بعد رفع النسب والعلائق وعن هذا قلتم أن الموجب لما كان واحدا استحال أن يصدر عنه شيئان معا ولما كان عقلا أي مجردا عن المادة أوجب عقلا بالفعل مجردا عن المادة ولما اقتضى الإيجاب مناسبة والمناسبة تقتضي المماثلة حتى ينوب أحد المثلين مناب الثاني ثبت لواجب الوجود مثل ثبوت مناب واجب الوجود في الإيجاب فعرف أن الإيجاب الذاتي باطل فتعين الإيجاد الاختياري وذلك ما أردنا أن نورد.
فإن قيل إما كون العالم جايز الوجود واحتياجه إلى واجب الوجود فمسلم لكن لم قلتم إن كونه موجودا بغيره يستدعي حدوثه عن عدم فإن وجود الشيء بالشيء لا ينافي كونه دايم الوجود به وإنما يتبين هذا بأن نبحث في الموضع المتفق انه إذا أحدثه عن عدم هل كان سبق العدم شرطا في تحقق الأحداث.
قلنا لا يجوز أن يكون شرطا فإن المحدث ما استند إلى المحدث إلا من حيث وجوده فقط والعدم لا تأثير له في صحة الإيجاد فيجوز أن يكون دايم الوجود بغيره.
صفحة ٦
والجواب قلنا الواجب أن نزيل عن الكلام ما يوقعه الوهم حتى يتجرد المعقول الصرف عن العقل فقول القائل وجد عن عدم أو بعد العدم أو سبقه العدم إن كان يعني به أن العدم شيء يتحقق له سبق وتقدم وتأخر واستمرار وانقطاع أو شيء يوجد عنه شيء فذلك كله من إيهام الخيال حيث لم يمكنه تصور الأولية في الشيء الحادث إلا مستندا إلى شيء موهوم كالزمان والمدة كما لم يمكنه تصور النهاية في العالم إلا مستندا إلى شيء موهوم كالخلا والفضا وكما لم يمكن فرض خلاء بين وجود الباري تعالى وبين العالم لا يمكن أيضا فرض زمان وتقدير زمان بين وجود الباري تعالى وبين العالم فإن ذلك من عمل الوهم فقط ولا يلزم منه المعية بالزمان كما لا يلزم المعية من المكان فافهم ذلك فيجب أن تزيل هذا الإيهام عن فكرك فيتصور أن وجود شيء لا من شيء هو المعني بحدوث الشيء عن العدم فإن قولنا له أول المعنى بحدوثه وإن قولنا لم يكن فكان هو المعنى بسبق العدم إذ لا بد من عبارة وتوسع في الكلام ليطلق لفظ السبق والتأخر والاستمرار والانقطاع وإذا ثبتت هذه القاعدة فنقول إذا كان العالم ممكن الوجود باعتبار ذاته والممكن معناه أنه جايز الوجود وجايز العدم فيستوي طرفاه أعني الوجود والعدم باعتبار ذاته فإذا وجد فإنما يوجد باعتبار موجده ولولا موجده لما استحق إلا العدم فهو إذا مستحق الوجود والعدم بالاعتبارين المذكورين فكان واجب الوجود سابقا عليه بالذات والوجود إذ لولاه لما وجد ولا يجوز أن يكون وجوده مع واجب الوجود بالذات والوجود جميعا لأن قبل ومع بالذات والوجود لا يجتمعان في شيء واحد فهو إذا متأخر الوجود ولا يجوز أن يكون مع واجب الوجود بالزمان لأنه يوجب أن يكون واجب الوجود زمانيا لأن قولنا مع من جملة المتضايفات كالأخوة والأبوة فأحد الشيئين إذا كان مع الثاني بالزمان كان الثاني معه أيضا بالزمان وبكل اعتبار أثبت المعية في أحد الشيئين وجب عليك أن تثبتها في الشيء الثاني ولا يجوز أن يكون وجوده مع واجب الوجود بالرتبة والفضيلة لأن رتبة الواجب بذاته لا يكون كرتبة الواجب بغيره وظهر أن جايز الوجود وواجب الوجود لا يكونان معا بوجه من الوجوه واعتبار من الاعتبارات وصح القول كان الله ولم يكن معه شيء فما معنى قولكم الجايز دايم الموجود بالواجب أو مع الواجب أو قدرتم دوام وجود الباري تعالى زمانيا ممتدا مع الأزمنة الغير المتناهية كما توهمتم وجود العالم زمانيا ممتدا في أزمنة لا تتناهى وبئس الوهم وهمكم في الدوامين فكأنكم أخذتم لفظ الدوام بالاشتراك المحض أما دوام وجود الباري تعالى فمعناه انه واجب لذاته وبذاته ولا يتطرق إليه جواز ولا عدم بوجه من الوجوه فهو الأول بلا أول كان قبله والآخر بلا آخر كان بعده وأوله آخره وآخره أوله أي ليس وجوده زمانيا وأما العالم فله أول ودوامه دوام زماني يتطرق إليه الجواز والعدم والقلة والكثرة والاستمرار والانقطاع فلو كان دايم الوجود بدوام الباري كان الباري دايم الوجود بدوام العالم فلو كان الدوامان بمعنى واحد فيلزم أن يكون وجود الباري تعالى زمانيا أو وجود العالم ذاتيا وكلا الوجهين باطل فبطل قولكم إن العالم دايم الوجود بالواجب وإنما يتضح هذا البطلان كل الوضوح إذا أثبتنا استحالة حوادث لا أول لها ووجود موجودات لا تتناهى وأما قولكم إن العالم في المحل المتفق عليه إنما يستند إلى الموجد من حيث وجوده فقط والعدم لا تأثير له في صحة الإيجاد قلنا ولو استند إلى الموجد من حيث وجوده فقط لاستند كل موجود وتسلسل القول إلى ما لا يتناهى ولم يستند إلى واجب وجوده بل إنما استند إليه من حيث جوازه فقط والجواز قضية أخرى وراء الوجود والعدم ثم جواز الوجود سابق على الوجود بالذات فنقول إنما وجد به لأنه كان جايز الوجود ولا نقول إنما كان جايز الوجود لأنه وجد فجواز وجوده ذاتي له والوجود عرضي والذاتي سابق على العرضي سبقا ذاتيا ثم بينا أن الجايز مستحق العدم باعتبار ذاته لولا موجده فكان مسبوقا بوجوده ومسبوقا بعدم ذاته لولا موجده لأن استحقاق وجوده عرضي مأخوذ من الغير واستحقاق عدمه ذاتي مأخوذ من ذاته فهو إذا مسبوق بوجود واجب ومسبوق بعدم جايز فتحقق له أول والجمع بين ما له أول وبين ما لا أول له محال.
صفحة ٧
فإن قيل فما الفرق بين وجوب العالم بإيجاب الباري تعالى وبين وجوده بإيجاد الباري تعالى فإن العالم إذا كان ممكنا في ذاته ووجد بغيره فقد وجب به وهذا حكم كل علة ومعلول وسبب ومسبب فإن المسبب أبدا يجب بالسبب فيكون جايزا باعتبار ذاته واجبا باعتبار سببه ثم السبب يتقدم المسبب بالذات وإن كانا معا في الوجود كما تقول تحركت يدي فتحرك المفتاح في كمي ولا يمكنك أن تقول تحرك المفتاح في كمي فتحركت يدي وإن كانت الحركتان معا في الوجود.
والجواب قلنا وجود الشيء بإيجاد موجده صواب من حيث اللفظ والمعنى بخلاف وجوب الشيء بإيجاب الموجب وذلك أن الممكن معناه انه جايز وجوده وجايز عدمه لا جايز وجوبه وجايز امتناعه وإنما استفاد من المرجح وجوده لا وجوبه نعم لما وجد عرض له الوجوب عند ملاحظة السبب لأن السبب إفادة الوجوب حتى يقال وجب بإيجابه ثم عرض له الوجوب بل أفاده الوجود وفصح أن يقال وجد بإيجاده وعرض له الوجود فانتسب إليه وجوده إذ كان ممكن الوجود لا ممكن الوجوب وهذه دقيقة لطيفة لا بد من مراعاتها والذي نثبته أن الواجب والممتنع طرفان والممكن واسطة إذ ليس بواجب ولا ممتنع فهو جايز الوجود وجايز العدم والوجود والعدم متقابلان لا واسطة بينهما والذي يستند إلى الموجد من وجهين الوجود والعدم في الممكن وجوده فقط حتى يصح أن يقال أوجده أي أعطاه الوجود ثم لزمه الوجوب لزوم العرضيات فالأمر اللازم العرضي لا يستند إلى الموجد فأنتم إذا قلتم وجب وجوده بإيجابه فقد أخذتم العرضي ونحن إذا قلنا وجد بإيجاده فقد أخذنا عين المستفاد الذاتي فاستقام كلامنا لفظا ومعنى وانحرف كلامكم عن سنن الجادة ولربما نقول أن الممكن إذا وجد في وقت معين أو على شكل مخصوص يجب وجوده على ذلك الوجه لأن الموجد إذا علم حصوله في ذلك الوقت على ذلك الشكل وأراد ذلك فهو واجب الوقوع لأن خلاف المعلوم مستحيل الوقوع والحصول وإذا كان ممكن الجنس جايز الذات لكن لم يكن وجوب ذلك إلا بإيجاب العلم والإرادة فإذا تحقق أن الوجود هو المستفاد في الحوادث لا الوجوب بطل الإيجاب الذاتي الذي يتحجوا به حين بنوا عليه مقارنة وجود العالم بوجود الباري تعالى ولم يبق لهم إلا التمثيل بمثال وذلك من سخف المقال لأن الخصم ربما لا يسلم أن حركة اليد سبب حركة الكم والمفتاح ولا يقول بالتولد يبقى مجرد فاء التعقيب والتسبيب لفظا في قوله تحركت يدي فتحرك المفتاح وهذا كما أن المادة عند الخصم سبب ما لوجود الصورة حتى يصح أن يقال لولا المادة لما وجدت الصورة وهما معا في الوجود وليس وجود الصورة بإيجاد المادة بل بإيجاد واهب الصور ثم إن سلم ذلك فيجوز أن يسبق السبب المسبب ذاتا ويقارنه زمانا فيكون زمان وجودهما واحدا وأحدهما سبب والثاني مسبب كما يقال في الاستطاعة مع الفعل لكن الممتنع وجود ما له أول مع وجود ما لا أول له وقد بينا أن هذه المعية ممتنعة على الوجود كلها أعني بالذات والوجود والزمان والرتبة والفضيلة فإن التقدم والتأخر والمع يطلق على الشيئين إذا كانا متناسبين نوعا من المناسبة ولا نسبة بين الباري تعالى وبين العالم إلا بوجه الفعل والفاعلية والفاعل على كل حال متقدم والمفعول متأخر يبقى أن يقال هل كان يجوز أن يخلق العالم قبل ما خلقه بحيث يكون نسبة بدوه إلى وقتنا أكثر زمانا فيجاب عنه أن إثبات الأولية والتناهي للعالم واجب تصوره عقلا إذ البرهان قد دل عليه وما وراء ذلك تقدير وهمي يسمى تجويزا عقليا والتقديرات والتجويزات لا تقف ولا تتناهى وهو كما إذا سئلتم هل كان يجوز أن يحدث العالم أكبر مما خلقه بحيث يكون نسبة نهايته إلى مكاننا أكبر مسافة فيجاب عنه إن إثبات الحد والتناهي للعالم واجب تصوره عقلا إذ البرهان قد دل عليه وما وراء ذلك فتقدير ذهني يسمى تجويزا عقليا والتقديرات والتجويزات لا تتناهى فتقدير مكان وراء العالم مكانا كتقدير زمان وراء العالم زمانا وبالجملة حدث العالم حيث يتصور الحدوث والحادث ما له أول والقديم ما لا أول له والجمع بين ما له أول وبين ما لا أول له محال هذا ما نعقله من الحدوث ضرورة وهو كتناهي العالم من الحجمية والجسمية حذو القدة بالقدة.
صفحة ٨
فإن قيل قد دل البرهان العقلي على أن جسما ما لا تتناهى ذاته بالفعل مستحيل وجوده فبينوا أن حركات متعاقبة وحوادث متتالية لا تتناهى مستحيل وجودها فإن عندنا التناهي واللاتناهي إنما يتطرق إلى أربعة أقسام اثنان منها لا يجوز أن يوجدا غير متناهيين الذات وهو ما له ترتيب وضعي كالجسم أو طبيعي كالعلل فجسم لا تتناهى ذاته مستحيل وجوده وعلل ومعلولات لا تتناهى بالعدد مستحيل وجودها أيضا ولكل واحد من القسمين ترتيب في الوجود أما الجسم فله ترتيب وضعي ولأجزائه اتصال ولكل جزء منه إلى جزء نسبة فلا يجوز وجود جسم غير متناه في زمان واحد وأما العلل فلها ترتيب طبيعي فإن المعلول يتعلق بعلته ولكل معلول إلى علته نسبة فلا يجوز وجود جسم وعلل ومعلولات لا تتناهى وأما القسمان اللذان يوجدان غير متناهيي الذات فإن أحدهما الحوادث والحركات التي لا تترتب بعضها على بعض لضرورة ذاتها بل تتعاقب وتتوالى شيء بعد شيء في أزمنة غير متناهية فإن ذلك جايز عقلا والثاني النفوس الإنسانية فإنها موجودات لم تتعاقب بل هي مجتمعة في الوجود ولكن لا ترتيب لها وضعا كالجسم ولا طبعا كالعلل فيجوز أن توجد غير متناهية.
والجواب قلنا كلما حصره الوجود وكان قابلا للنهاية فهو متناه ضرورة وما لا يتناهى لا يتصور وجوده سواء كان له ترتيب وضعي أو طبيعي أو لم يكن.
والبرهان على ذلك بحيث يعم الأقسام الأربعة أن كل كثرة لا تتناهى فلا تخلو إما أن تكون غير متناهية من وجه أو غير متناهية من جميع الوجوه والجهات وعلى القسمين جميعا فإنا يمكننا أن نفصل منهما جزءا بالوهم أو بالعقل فنأخذ تلك الكثرة مع ذلك الجزء شيئا على حدة ونأخذها بانفرادها شيئا على حدة فلا يخلو إما أن تكون تلك الكثرة مع تلك الزيادة مساوية للكثرة من غير الزيادة عددا أو مساحة فيلزم أن يكون الزائد مثل الناقص ومساويا له وهذا محال وإما أن لا يكون مساويا له فيلزم أن يكون كثرتان غير متناهيتين وإحداهما أكبر والثانية أنقص وهو أيضا محال وهذا البرهان إن فرضته في جسم غير متناه من جميع الجهات أو من جهة واحدة فالعبارة عنه أن نقول لك أن تفرض نقطة من ذلك الجسم ويفصل منه مقدارا فتأخذ ذلك الجسم مع ذلك المقدار شيئا على حدة وبانفراده شيئا على حدة ثم نطبق بين النقطتين المتناهيتين في الوهم فلا يخلو إما أن يكونا بحيث يمتدان معا مطابقين في الامتداد إلى ما لا يتناهى فيكون الزائد والناقص متساويين وإما أن لا يمتدا بل يقصر أحدهما عنه فيكون متناهيا والقدر المفضول كان متناهيا أيضا فيكون المجموع متناهيا أيضا وقد فرضه غير متناه هذا خلف وكذلك إن فرضته في حركات غير متناهية أو أشخاص غير متناهية متعاقبة أو مجتمعة أو تفرض نفوسا غير متناهية معا أو مجتمعة في الوجود فالعبارة عنه أن نقول لك أن تفرض حركة واحدة أو شخصا واحدا وتفصل من الحركات أو الأشخاص مقدارا بالتوهم وتنسب الحركات الزائدة إلى الحركات الناقصة وتم البرهان من غير تفاوت بين الصورتين.
قال أبو علي بن سينا ها هنا فرق وهو أن الجسم له ترتيب وضعي أمكنك أن تعين فيه نقطة ثم ترتب عليها جواز الانطباق والامتداد إلى ما لا يتناهى وليس للحركات المتتالية ترتيب وضعي فإنها ليست معا في زمان واحد فلا يمكنك أن تعين فيها حركة واحدة وترتب عليها جواز الانطباق لأن ما لا يترتب في الوضع أو الطبع فلا يحتمل الانطباق.
صفحة ٩
قيل له جوابك عن هذا الفرق من وجهين أحدهما أنك فرضت النقطة في الجسم والامتداد إلى ما لا يتناهى بالوهم وقدرت التطبيق أيضا بالوهم فقدر وهما أن الحركات الماضية كأنها موجودة متعاقبة والأزمنة أيضا كأنها موجودة وهما متعاقبة على مثال خط موهوم لا يتناهى تركب من نقط متتالية والحدود في الحركات والأوقات في الأزمنة كالنقط في الخطوط والتعاقب كالتتالي والعلة التي لأجلها امتنع اللاتتناهي ووجب أن تتناهى فهو أنه مود إلى أنه يكون الأقل مثل الأكثر والناقص مثل الزايد وهذا موجود في الموضعين جميعا ولذلك قال المتكلم أنا إذا فرضنا الكلام في اليوم الذي نحن فيه وقلنا ما مضى من الأيام غير متناه عندكم وما بقي أيضا غير متناه والباقي والماضي متساويان متماثلان في عدم التناهي فلو فصلنا من الماضي سنة وأضفناها إلى الباقي صار الماضي ناقصا والباقي زايدا وهما متماثلان في نفي التناهي أدى ذلك إلى أن يكون الزايد مثل الناقص.
الوجه الثاني أنه لو لم يتحقق في الحركات والأشخاص ترتيب وضعي فقد تحقق فيها ترتيب طبيعي كالعلل والمعلولات فإنها لا بد أن تكون متناهية بالاتفاق وذلك أن كل معلول فهو ممكن الوجود بذاته وإنما يجب وجوده بعلته فيتوقف وجوده على وجود علته والكلام في علته كذلك حتى يتناهى إلى علة أولى ليست ممكنة لذاتها كذلك نسبة كل والد إلى مولود نسبة العلة إلى معلولها فيتوقف وجود الولد على وجود الوالد وكذلك القول في الوالد فهلا قلت ينتهي إلى والد أول ومع ذلك فالأشخاص عندكم لا تتناهى ثم يعدد لكل شخص إنساني قد وجد نفس ناطقة وهي باقية مجتمعة في الوجود فالأشخاص إذا كانت لا تتناهى وجاز وجودها لأنها متعاقبة لا مجتمعة معا في الوجود فما قولك في النفوس فإنها مجتمعة وهي لا تتناهى فإن قال ليس لها ترتيب طبيعي ولا وضعي قيل إذا ترتبت الأشخاص والدا ومولودا ترتبت النفوس أيضا ذلك الترتيب لأن من العوارض واللوازم المعينة للنفوس كونها بحيث إن صدرت عن أشخاصها أشخاص فهذه النسبة باقية ببقائها ولذلك النوع ترتيب.
برهان آخر في أن ما لا يتناهى من الحوادث والحركات لا يتحقق في الوجود: وذلك أنا نفرض الكلام في الدورة التي نحن فيها ولا شك أن ما مضى قد انتهى بها وما انتهى بشيء فقد تناهى ومعنى قولنا أن ما مضى قد انتهى أنا إذا أردنا قصر النظر على ما نحن فيه وقطعناه عما سيأتي اقتضى ذلك تناهي الحركات الماضية إذ يتناهى الحركات الماضية لم يكن مشروطا فيها لحوق الحركات الآتية فما من حركة توجد وتعدم إلا وقد انقضت حركات قبلها بلا نهاية فيوجد أبدا طرف منها متناهيا ويكون ذلك الطرف آخر الماضي وأولا لما بقي فكل حركة أو كل دورة فقد تحقق لها أول وآخر وإذا تناهى من طرف فقد تناهى من الطرف الثاني فالحركات كلها إذا في ذواتها متناهية أولا وآخرا وهي معدودة بالزمان والزمان هو العاد للحركات فالمعدود إذا يتناهى أولا وآخرا كذلك يلزم أن يتناهى العاد أولا وآخرا يبقى أن يقال أهي متناهية عددا أم لا قلنا وكل عدد موجود فهو قابل للزيادة والنقصان والأكثر والأقل فهو متناه وكل عدد موجود فهو متناه وهذا الحكم يجري في كل عدد موجود معا كالنفوس الإنسانية أو متعاقبة كالأشخاص الإنسانية وعندهم النفوس غير متناهية عددا وهي قابلة للزيادة والنقصان فإذا طبقت الأشخاص على النفوس تساوت لا محالة وإن نقصت من الأشخاص عددا وطبقت الباقي على عدد النفوس فإن كان كل واحد منهما لا يتناهى كان الزائد مثل الناقص وإن كان يتناهى فقد حصل المقصود وتطبيق الخط على الخط كتطبيق العدد على العدد وتطبيق النفس على الشخص والحركات والمتحركات إذا تناهت ذاتا وزمانا ومكانا وعددا وهذا قاطع لا جواب عنه ولا سؤال عليه.
ومن جملة الإلزامات على الدهرية أن حركات زحل وهو في الفلك السابع مثل حركات القمر وهو في الفلك الأول من حيث أن كل واحد من النوعين غير متناه ومعلوم بالضرورة أن حركات زحل أكثر من حركات القمر فهي إذا مثلها وأكثر منها وذلك من أمحل المحال وأبلغ في التناقض.
فإن قيل إن قصرت مسافة فلك القمر عن فلك زحل فقد طال زمان القمر بمقدار قصر المسافة حتى قطع القمر فلكه بمثل ما قطع زحل فلكه فقد تساويا في الحركة.
صفحة ١٠
قلنا وما قولكم في حركة فلك زحل فإنها حركات المحيط وحركات فلك القمر حركات القطب فهما متساويان فيما لا يتناهى وحركات فلك زحل أضعاف حركات فلك القمر ولا جواب عنه.
فإن قيل ألستم أثبتم تفاوتا في معلولات الله تعالى وفي مقدوراته فإن العلم عندكم متعلق بالواجب والجايز والمستحيل والقدرة لا تتعلق إلا بالجايز فكانت المعلومات أكثر والمقدورات أقل والقلة والكثرة قد تطرقتا إلى النوعين وهما غير متناهيين.
والجواب قلنا نحن لم نثبت معلومات أو مقدورات هي أعداد بلا نهاية بل معنى قولنا أنها لا تتناهى أي العلم صفة صالحة يعلم به ما يصح أن يعلم والقدرة صفة صالحة يقدر بها على ما يصح أن يوجد ثم ما يصح أن يعلم وما يصح أن يقدر عليه لا يتناهى وليس ذلك عدد أنقص من عدد حتى يكون ذلك نقضا لما ذكرناه وإنما الممتنع عندنا أعداد يحصرها الوجود وهي غير متناهية فنقول قد بينا أن ما لا يتناهى إنما يمكن تصوره في الوهم والتقدير لا في الوجود كالعدد يقال له أنه لا ينتهي تضعيفا وليس نعني به أن العدد الغير متناه موجود محصور بل المعنى أنك إذا قدرت أو توهمت ضعفا فوق ضعف إلى ما لا يتناهى أمكنك ذلك كذلك المعلولات والمقدورات على التقدير الوهمي لا يتناهى ولصلاحية العلم أن يعلم به كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه يقال أن العلم لا يتناهى وكذلك لصلاحية القدرة أن يقدر بها على كل ما يصح أن يقدر عليه يقال إن القدرة لا تتناهى فلا القدرة ولا العلم أمر بسيط ذاهب في الجهات لا يتناهى ولا المعلومات والمقدورات أعداد كثيرة لا تتناهى وهكذا ينبغي أن تفهم من معنى قولنا ذات الباري سبحانه لا تتناهى أي هو واحد لا يقبل الانقسام بوجه من الوجوه فلا يتطرق إليه نهاية بوجه من الوجوه.
شبه الدهرية قالوا إذا قلتم أن العالم محدث بعد أن لم يكن فقد تأخر وجوده عن وجود الباري تعالى فلا يخلو إما أن يتأخر بمدة أو لا بمدة فإن تأخر لا بمدة فقد قارن وجوده وجود الباري سبحانه وإن تأخر بمدة فلا يخلو إما إن تأخر بمدة متناهية أو بمدة غير متناهية فإن تأخر بمدة متناهية فقد وجب تناهي وجود الباري تعالى وإن تأخر بمدة غير متناهية فنفرض في تلك المدة موجودات لا تتناهى فإنه إن لم يمتنع مدة لا تتناهى لم يمتنع لم يمتنع عدة لا تتناهى.
والجواب قلنا هذا الكلام غير مستقيم وضعا وتقسيما أما الوضع فقولكم لو كان العالم محدثا كان وجوده متأخرا فإن عنيتم به التأخر بالزمان فغير مسلم فإنا قد بينا أن التقدم والتأخر والمعية الزمانية تمتنع في حق الباري سبحانه.
وعلى هذا لم يصح بنا التقسيم عليه أنه متأخر بمدة أو لا بمدة فإن ما لا يقبل المدة ذاتا ووجودا لا يقال له تقدم أو تأخر أو قارن بمدة أو لا بمدة فأحلتم علينا تقدما وتأخرا ومعية زمانية للباري تعالى وإذا منعنا ذلك ألزمتم علينا مقارنة في الوجود وذلك تلبيس فإنا إذا منعنا التقدم والتأخر الزماني منعنا المقارنة الزمانية بل وجود الباري تعالى لا يقال متقدم بالزمان كما لا يقال أيضا فوق بالمكان ولا يقال مقارن بالزمان كما لا يقال مجاور للعالم بالمكان وإن عنيتم بالتأخر في الوجود أي الموجد مفيد الوجود والموجد مستفيد الوجود والموجد لا أول لوجوده والموجد له أول فهو مسلم ولا يصح أيضا بنا التقسيم عليه أنه تأخر بمدة أو لا بمدة.
فإن قيل لا بد من نسبة ما بين الموجد والموجد وإذا تحققت النسبة فبمدة متناهية أو غير متناهية.
قلنا ولا بد من نفي النسبة بين الموجد والموجد إذ لو تحققت النسبة بمدة متناهية أو غير متناهية كان وجوده زمانيا قابلا للتغير والحركة أليس لو قال القائل ما نسبة واحد منا حيث حدث وله أول كان السؤال محالا أليس لو قال القايل ما نسبة العالم منه تعالى حيث وجد وله نهاية أفيباينه أو يجاوره فإن باينه أفبخلا أو بينونة تتناهى أم لا تتناهى كان السؤال محالا كذلك نقول في المدة فإن الجزئي كالكلي والزمان كالمكان.
صفحة ١١
وجواب آخر عن التقسيم نقول ما المعنى بالمدة أهي عبارة عن أمر موجود أو عن تقدير موجود أم عن عدم بحت فإن كان أمرا موجودا محققا فهو من العالم فلا يكون قبل العالم وأيضا الموجود إما قايم بنفسه أو قايم بغيره وعلى الوجهين جميعا لا يمكن تقديره قبل العالم وإن كان أمرا مقدرا وجوده والتقديرات الوهمية تجويزات وليس كلما يجوزه العقل أو يقدره الوهم يمكن وجوده جملة حاصلة فإن وجود عالم آخر وكذلك إلى ما لا يتناهى مما يجوز يقدره الوهم وكذلك الأعداد التي لا تتناهى مما يقدره الوهم لا مما يجوزه العقل وبالجملة الجايزات كلها لا يمكن أن توجد جملة حاصلة فيكون ما لا يتناهى مما يحصره الوجود وذاك محال فعلم أن تقدير أزمنة غير متناهية لا يكون كالتحقيق وما يمكن وجوده جملة معا أو متعاقبا لا يمكن أن يكون مشحونا بما لا يتناهى وإن كانت المدة عبارة عن عدم بحت فلا يتناهى ولا لا يتناهى في عدم البحت.
وجواب آخر لم قلتم أن المدة لو كانت متناهية لتناهى وجود الباري تعالى فإن تناهي المدة كتناهي العالم مكانا وهو مصادرة على المطلوب الأول وتعبير عن محل النزاع ثم تناهي العالم مكانا ليس يقتضي تناهي ذات الباري تعالى لأنه لا مناسبة بينه وبين المكانيات والمكان كذلك تناهي العالم زمانا لا يقتضي تناهي وجود الباري تعالى لأنه لا مناسبة بينه وبين الزمانيات والزمان ولم قلتم أن المدة لو لم تكن متناهية في التقدير العقلي أمكن أن يوجد فيها موجودات في التحقيق الحسي.
شبهة أخرى قال ابن سينا حكاية عن أرسطاطاليس كل حادث عن عدم فإنه يسبقه إمكان الوجود ضرورة وإمكان الوجود ليس هو عدما محضا بل هو أمر ما له صلاحية الوجود والعدم ولن يتصور ذلك إلا في مادة فكل حادث فإنه يسبقه مادة ثم تلك المادة المتقدمة لا تتصور إلا في زمان لأن قبل ومع لا يتحقق إلا في زمان والمعدوم قبل هو المعدوم مع وليس الإمكان قبل هو الذي يقارن الوجود فهو إذا متقدم تقدما زمانيا والعالم لو كان حادثا عن عدم لتقدمه إمكان الوجود في مادة تقدما زمانيا فهو إما أن يتسلسل فهو باطل وإما أن يقف على حد لا يسبقه إمكان فلا يسبقه عدم فيكون واجبا بغيره وهو ما ذهبنا إليه وهذه الشبهة هي التي أوقعت المعتزلة في اعتقاد كون المعدوم شيئا وعن هذا قصروا الشيئية في الممكن وجوده لا المستحيل ثبوته.
صفحة ١٢
والجواب أنا قد بينا أن معنى الحدوث عن عدم أنه هو الموجود الذي له أول لا الإمكان السابق عليه ليس يرجع إلى ذات وهو شيء حتى يحتاج إلى مادة بل هو أمر راجع إلى التقدير الذهني لأن ما لا يجوز وجوده لا يتحقق له ثبوت وحدوث والقبلية والمعية راجعة أيضا إلى التقدير العقلي وإنما نتصور نحن من حدوث العالم ما يتصورونه من حدوث النفس الإنسانية حادثة لها أول لا عن شيء حتى يمكن أن يقال أنها مسبوقة بالعدم أي لم تكن فكانت وهي ممكنة الوجود في ذاتها وإمكانها لا يستدعي مادة تسبقها فإن ذلك يودي إلى أن يكون وجودها ماديا فعلم أن الإمكان من حيث هو إمكان ليس يستدعي مادة وسبقه على الموجود الحادث ليس إلا سبقا في الذهن سميتموه سبقا ذاتيا وذلك السبق ليس سبقا زمانيا وكذلك القول في المعلول الأول وساير النفوس فإنها ممكنة الوجود بذواتها وإمكان وجودها سابق على وجودها سبقا ذاتيا وكذلك القول في الجسم الأول الذي هو فلك الأفلاك ونقول أن كل حادث حدوثا زمانيا أو حدوثا ذاتيا على أصلكم فإنه يسبقه إمكان الوجود فإن الموجود المحدث قد تردد بين طرفي الوجود والعدم وهذا التردد والسبق والإمكان كله يرجع إلى تقدير في الذهن وإلا فالشيء في ذاته على صفة واحدة من الوجود لكن الوجود باعتبار ذاته انقسم إلى ما يكون وجوده لوجود هو له لذاته أي هو غير مستفاد له من غيره فيقال الوجود أولى به وأول ما يكون وجوده لوجود هو له من غيره فيقال الوجود ليس أولى به ولا أول وهذا الوجود لم يتحقق إلا أن يكون له أول مسبوق بوجود لا أول له ويكون له في ذاته إمكان الوجود يعبر عنه بأنه مسبوق بإمكان الوجود لا أنه وجود يسبقه إمكان الوجود بل الوجود في ذاته وجود ممكن فقد وجد ها هنا سبقان أحدهما سبق وجود الموجود والثاني سبق إمكان الوجود ولكننا بعدما بحثنا عن السبق الثاني لم نعثر على معنى إلا أن الوجود المستفاد لن يتحقق إلا بأن يكون ممكنا في ذاته مقدرا فيه تردد بين طرفي الوجود والعدم واحتاج إلى مرجح لولاه لما حصل له وجود فلو كان كل حادث محتاجا إلى سبق إمكان وكل إمكان محتاجا إلى مادة وكل مادة إلى زمان تسلسل القول فيه فيقال وتلك المادة والزمان يحتاجان إلى مادة وزمان ولما حصل وجود حادث أصلا فبطل الأصل الذي وضعوا الكلام عليه بل لا بد من منتهى ينتهي إليه فيكون مبدعا لا من شيء ويكون ممكنا في ذاته ولا يستدعي إمكانه مادة وزمانا فهكذا يجب أن يتصور معنى سبق الإمكان وسبق العدم وسبق الموجد فإن الموجد يسبق بوجوده من حيث وجوده ويلزم ذلك أن يسبق العدم والإمكان في الموجد سبقا تقديريا وقد تقرر الفرق بين التقدم الذاتي والتقدم الوجودي فتأمل ذلك.
شبهة أخرى اعتمد عليها أبو علي بن سينا قال أسلم أن العالم بما فيه من الجواهر والأعراض جايز الوجود لذاته لكن كلامنا في أنه هل هو واجب الوجود بغيره دايم الوجود بدوامه قال والجايز أن لا يوجد وأن يوجد وإذا تخصص بالوجود احتاج إلى مرجح لجانب الوجود والحال لا يخلو إما أن يقال ما يجوز أن يوجد عن المرجح يجب أن يوجد حتى لا يتراخى عنه وإما أن يقال لا يجب أن يوجد حتى يتراخى عنه ثم يوجد بعد أن لم يوجد لكن العقل الصريح الذي لم يكذب يقضي أن الذات الواحدة إذا كانت من جميع جهاتها واحدة وهي كما كانت وكان لا يوجد عنها شيء فيما قبل مع جواز أن يوجد وهي الآن كذلك فالآن لا يوجد عنها شيء وإذا كان قد وجد فقد حدث أمر لا محالة عن قصد وإرادة وطبع وقدرة أو تمكن وغرض أو سبب من الأسباب ثم لا يخلو ذلك السبب إما أن يحدث في ذاته صفة أو يحدث أمرا مباينا عنه والكلام في ذلك الحادث على أي وجه كان كالكلام في العالم فإذا لا يجوز أن يحدث أمر ما وإذا لم يجز فلا فرق بين حال أن يفعل وبين حال أن لا يفعل وقد وجد الفعل فهو خلف وإنما ألزمنا هذا لأنا وضعنا في التقدير العقلي ذاتا معطلة عن الفعل وهو باطل فنقيضه حق.
والجواب قلنا أنتم مطالبون بإثبات ثلث مقدمات إحداها إثبات جواز وجود العالم في الأزل والثانية إثبات أن ما يجوز وجوده يجب وجوده والثالثة إثبات سبب حادث لأمر حادث.
صفحة ١٣
أما الأولى فنحن قد بينا استحالة وجود أمر جايز في ذاته مع وجود موجود واجب في ذاته في الأزل من وجهين أحدهما استحالة اقتران وجود ما لا أول له مع وجود ما له أول فإن الجمع بينهما من المحالات والوجود الواجب لذاته يجب أن يتقدم الوجود الجايز لذاته تقدما ما في وجوده بحيث يكون الواجب موجودا ولا وجود معه لا من حيث الوجود ولا من حيث الذات ولا من حيث الزمان ولا من حيث الرتبة والمكان ولا من حيث الفضيلة وبالجملة فحيث ما تحقق الجواز والإمكان في شيء تحقق نفي الأزلية عنه وإثبات الأولية له واقتران الأزلية والأولية في شيء واحد محال وقولكم العالم جايز الوجود وكل جايز وجوده يجب وجوده أزلا وأبدا جمع بين قضيتين متناقضتين ومن اعترف بالجواز والإمكان فقد سلم المسئلة من كل وجه فإن الشيء إذا تطرق إليه الجواز في الوجود من وجه تطرق إليه الجواز من ساير الوجوه أعني الوقت والمقدار والشكل إذا كان الموجود قابلا لها أو لواحد منها والداير بين وجوه الجواز إذا تخصص بأحد الجايزين دون الثاني احتاج إلى مخصص وانتفى الوجوب والدوام عنه.
وأما الوجه الثاني في بيان الاستحالة أن الحوادث التي لا تتناهى قد تبين استحالتها.
فإن قيل ما المانع من وجود العالم في الأزل كان الجواب استحالة حوادث لا تتناهى لما بينا من البرهان الدال عليه.
وأما الكلام على المقدمة الثانية وهي أن ما يجوز وجوده يجب وجوده.
قلنا هذا الكلام أولا متناقض لفظا ومعنى أما اللفظ فإن الجواز والوجوب متناقضان إلا أن يقال أن ما يجوز وجوده في ذاته يجب وجوده بغيره قيل وهذا أيضا باطل فإن الوجوب بالغير إنما يكون بإيجاب الغير والجايز إنما يحتاج إلى الواجب في وجوده لا في وجوبه فيكون وجوده بايجاد الغير ثم يلزمه من حيث النسبة وجوبه وقد تبين هذا المعنى فيما قبل وأما التناقض من حيث المعنى فهو أن الجايز وجوده مما لا يتناهى فلو كان ما جاز وجوده وجب وجوده لوجد ما لا يتناهى دفعة واحدة وإذا شرط الترتيب في الذوات حتى حصل في الوجود أول ثم ثان ثم ثالث ثم ينتهي إلى موجودات محصورة كذلك يشترط الترتيب في الموجود حتى حصل موجود له أول ثم ثان ثم ثالث فالترتيب في الذوات تقدما وتأخرا كالترتيب في الموجودات أولا وآخرا وهذا بناء على ما ذكرناه من إثبات قسم آخر في أقسام التقدم والتأخر وذلك واجب الرعاية.
وأما الكلام في المقدمة الثالثة وهي المغلطة الزباء والداهية الدهيا وكثيرا ما كنا نراجع أستاذنا وإمامنا ناصر السنة صاحب الغنية وشرح الإرشاد أبا القاسم سليمان بن ناصر الأنصاري فيها ويتكلم عليها فما يزيد فيها على أن إثبات وجه فاعلية الباري سبحانه وتعالى مما يقصر عن دركه عقول العقلا ثم الذي كان يستقر كلامه عليه إن قال ثبت جواز وجود العالم عقلا وثبت حدوثه دليلا ويعرف أن ما حدث بذاته فيجب نسبة حدوثه إلى واجب الوجود بذاته والخصم إنما يطالب بوجه النسبة فإن الموجد إذا كان لا يوجد وأوجد فنسبة الحادث إليه قبل الإيجاد كنسبته إليه حال الإيجاد وبعده ولم يحدث أمر ما ولا سبب فلم وجد ولم أوجد وبالجملة فما معنى الإيجاد والإبداع إن قلت انه علم وجوده في هذا الوقت وأراد وجوده فيه قيل العلم عام التعلق والإرادة عامة التعلق فنسبة وجوده إلى الإرادة العامة في هذا الوقت على هذا الشكل كنسبة وجوده في غير هذا الوقت على غير هذا الشكل وكذلك القول في القدرة فإنها في عموم تعلقها كالإرادة والعلم فلا خصوص في الصفات فكيف يختص الفعل وهذا الموضع منشأ ضلال بعض المتكلمين فإن الكرامية أثبتوا حوادث في ذات الباري تعالى من الإرادة والقول وهي التي تخصص العالم بالوجود دون العدم والمشية القديمة تتعلق عندهم تعلقا عاما والإرادة تعلق تعلقا خاصا وفرقوا بين الأحداث والمحدث والخلق والمخلوق والمعتزلة أثبتوا إرادات حادثة لا في محل هي التي تخصص العالم بالوجود دون العدم ولم يفرقوا بين الأحداث والمحدث والخلق والمخلوق والأولى أن نسلك في حل الإشكال طريق إبطال مذهب الخصم ثم نشير إلى ما يلوح للعقل من معنى الإيجاد.
صفحة ١٤
فنقول اتفقنا على أن العالم جايز لذاته محتاج إلى مرجح لجانب الوجود على العدم فالمرجح لا يخلو إما أن يرجح من حيث هو ذات أو من حيث هو وجود ويلزم عليه أمران أحدهما أن يكون كل ذات وكل وجود مرجحا والثاني أن يحدث ما يجوز وجوده مما لا يتناهى فان نسبة الجميع إلى الذات والوجود نسبة واجدة والوجهان محالان وإما أن يرجح من حيث هو ذات أو وجود على صفة أو على اعتبار ووجه فان يرجح من حيث هو وجود على صفة فقد سلمت المسئلة وبطل الايجاب الذاتي وإن يرجح من حيث هو وجود على وجه كما قال الخصم أنه واجب الوجود لذاته وإنما أوجب من حيث أنه واجب لذاته وهو وجود على وجه فهو أيضا باطل فإن وجوب الوجود لذاته معناه أمر سلبي أي وجوده غير مستفاد من غيره ومن فهم وجودا غير مستفاد لم يلزمه أن يفهم أنه مفيد غيره وكذلك من فهم أنه عالم أو عقل وعاقل كما قال الخصم لم يلزم منه أن يفهم منه أنه موجد مفيد الوجود غيره لأن معنى كونه عقلا عند الخصم معنى سلبي أيضا أي مجرد عن المادة وبأن يكون مجردا عن المادة لا يلزم أن يكون مفيد الوجود لغيره فبطل الإيجاب الذاتي من كل وجه وتعين أنه إنما أوجد لكونه على صفة ولتلك الصفة من حيث ذاتها صلاحية التخصيص والإيجاد عموما بالنسبة إلى ما حصل على الهيئة التي حصل وبالنسبة إلى غيرها نسبة واحدة ولها أيضا خصوص وجه بالنسبة إلى ما حصل دون ما لم يحصل وذلك الخصوص لها عند إضافتها إياها إلى غيرها.
فنقول لما علم الباري وجود العالم في الوقت الذي وجد فيه أراد وجوده في ذلك الوقت فالعلم عام التعلق بمعنى أنه صفة صالحة لأن يعلم به جميع ما يصح أن يعلم والمعلومات لا تتناهى على معنى أنه علم وجود العالم وعلم جواز وجوده قبل وبعد على كل وجه يتطرق إليه الجواز العقلي والإرادة عامة التعلق بمعنى أنها صفة صالحة لتخصيص ما يجوز أن يخصص به والمرادات لا تتناهى على معنى أن وجوه الجواز في التخصيصات غير متناهية ولها خصوص تعلق من حيث أنها توجد وتوقع ما علم وأراد وجوده فإن خلاف المعلوم محال وقوعه فالصفات كلها عامة التعلق من حيث صلاحية وجودها وذواتها بالنسبة إلى متعلقاتها إلى ما لا يتناهى خاصة التعلق من حيث نسبة بعضها إلى بعض والإرادة لا تخصص بالوجود إلا حقيقة ما علم وجوده والقدرة لا توقع إلا ما أراد وقوعه وتعلقات هذه الصفات إذا توافقت على الوجه الذي ذكرناه حصل الوجود لا محالة من غير تغيير يحصل في الموجد وإنما يتعذر تصور هذا المعنى علينا لأنا لم نحس من أنفسنا إيجادا وإبداعا ولا كانت صفاتنا عامة التعلق فعلمنا إذا لم يتعلق إلا بمعلوم واحد ولم تتعلق إرادتنا إلا بمراد واحد ولا قدرتنا إلا بمقدور واحد لا على سبيل الإيجاد ولن يتصور بقا صفاتنا لكونها إعراضا فيتقاضى عقلنا وحسنا حدوث سبب لحدوث أمر حتى لو قدرنا علما وإرادة وقدرة لها عموم التعلق بمتعلقات لا تتناهى على معنى صلاحية كل صفة لمتعلقها وقدرنا صلاحية قدرتنا للإيجاد وقدرنا بقا الصفات فعلمنا وجود شيء بقدرتنا وإراداتنا في وقت مخصوص ودخل الوقت لا نشك أن الشيء يقع ضرورة من غير أن تتغير ذاتنا أو يحدث أمر أو سبب لم يكن وهذا كما يقدره الخصم في العقل الفعال وفيضه فإنه يقول هو عام الإفاضة واهب للصور على الإشاعة من غير تخصيص ثم يثبت له نوع خصوص بالإضافة إلى القوابل والشرايط التي تتكون فتحصل استعدادا في القوابل فيختص الفيض بقابل مخصوص على قدر مخصوص فخصوص الفيض بسبب خارج عن ذات المفيض لا يقدح في عموم الفيض باعتبار ذاته على أن الإيجاب الذاتي عند الخصم فيض ذاتي هو وجود عام لا خصوص فيه ولكنه إنما يفيض منه واحد ثم من الواحد يفيض عقل ونفس وفلك ومن كل عقل ونفس عقل ونفس حتى ينتهي بالعقل الأخير ثم يفيض منه الصور على الموجودات السفلية وتنتهي بالنفس الناطقة.
فنقول ما الموجب لحصر الموجودات في هذه الذوات ولا خصوص في الفيض وإن تناهي الموجودات عددا ومكانا كتناهي الموجودات بداية وزمانا.
فإن قلتم أن الخصوص عندنا يرجع إلى قبول الحوامل فيقدر الفيض بمقدارها.
صفحة ١٥
قيل وكلامنا في أصل الحوامل لم انحصر في عدد معلوم فلم انحصرت السماوات في سبع أو تسع ولم انحصرت العناصر في أربعة ولم انحصرت المركبات في عدد معلوم ولم تناهت هذه الموجودات فهلا ذهبت السموات إلى غير نهاية مكانا كما ذهبت حركاتها إلى غير نهاية زمانا.
فإن قلتم منعنا من ذلك برهان عقلي على أن العالم متناه مكانا قلنا ومنعنا عن ذلك أيضا ذلك البرهان بعينه كما بينا وكل ما ذكرتموه في العناية الإلهية التي أوجبت ترتيب الموجودات على نظامها الأكمل نقدره نحن في الإرادة الأزلية التي اقتضت تخصيص الموجودات على النظام الذي علمه أو ليس لم يكف على أصلكم مجرد وجود مطلق حتى خصصتم بالوجوب ولم يكف الوجوب حتى خصصتم بالتعقل ولم يكف التعقل حتى خصصتم بالعناية ثم عدتم فقلتم هذه صفات إضافية أو سلبية لا توجب تكثرا في ذاته وتغيرا فما سميتموه تعقلا نحن نقول هو علم أزلي وما سميتموه عناية نحن نقول هو إرادة أزلية فكما أن العناية عندكم ترتبت على العلم فعندنا الإرادة إنما تتعلق بالمراد على وفق العلم فلا فرق بين الطريقين إلا أنهم ردوا معاني الصفات إلى الذات وعند المتكلمين معاني الصفات لا ترجع إلى الذات فالأولى بالمناظرة في هذه المسئلة أن يدفع الخصم إلى تعيين محل النزاع وتبيين مذهبه فيستفيد بذلك بطلان مذهب الخصم فإن يقول أول ما صدر عن الباري تعالى فهو العقل الأول لأنه لا يصدر عن الواحد إلا واحد ثم العقل أوجب عقلا آخر ونفسا وجسما هو فلك الأفلاك وبتوسط كل عقل عقلا ونفسا وفلكا حتى انتهت الأفلاك بالفلك الأخير الذي يديره العقل الفعال الذي هو واهب الصور في العالم وبتوسط العقول السماوية والحركات الفلكية حدثت العناصر وبتوسطها حدثت المركبات وآخر الموجودات هي النفس الإنسانية لأن الوجود ابتدأ من الأشرف فالأشرف حتى بلغ إلى الأخس وهو الهيولي ثم ابتدأ من الأخس فالأخس حتى بلغ الأشرف فالأشرف وهو النفس الناطقة الإنسانية.
فيقال لهم هذه الموجودات السفلية على هيئتها وأشكالها من أنواعها وأصنافها التي تراها أوجدت دفعة واحدة أم على ترتيب فإن وجدت دفعة واحدة بطل الترتيب الذي أوجده في وجود الموجودات وإن حصلت على ترتيب شيئا بعد شيء فأنى تحقق سبق ذاتي وتأخر ذاتي بين المعلول الأول والمعلول الأخير.
ونقول ما نسبة المعلول الأخير إلى المعلول الأول من حيث الزمان وهما وإن كانا في ذواتهما غير زمانيين إلا أن النفس الإنسانية حدثت حدوثا لم تكن قبل ذلك موجودة فتحقق لها أول فما نسبة أولية النفس إلى العقل الأول فإن كان بينهما نفوس غير متناهية حدثت في أزمنة غير متناهية كان غير المتناهي محصورا بين حاصرين وذلك محال وإن كانت متناهية فبطل قولهم أن الحوادث لا تتناهى إذ لو كانت الحركات السماوية غير متناهية كانت الموجودات السفلية غير متناهية أيضا وحصل من نفس بيان المذهب بطلانه ثم هم منازعون في الترتيب الذي ذكروه فإن أصحابهم قد اختلفوا في المبادي اختلافا ظاهرا فمنهم من قال أول الموجودات هو العنصر ثم العقل ثم النفس ثم الجسم ومنهم من قال العقل ثم النفس ثم الهيولي ثم الأفلاك ثم العناصر ثم المركبات كما سيأتي بيان ذلك.
شبهة من شبه برقلس قال الباري سبحانه جواد بذاته وعلة وجود العالم جوده وجوده قديم لم يزل فيلزم أن يكون وجود العالم قديما لم يزل قال ولا يجوز أن يكون مرة جوادا ومرة غير جواد فإنه يوجب التغير في ذاته قال ولا مانع من فيض جوده إذ لو كان مانع لما كان من ذاته إذ المانع الذاتي مانع أبدا وقد تحقق الجود بإيجاد الموجود فهو خلف ولو كان المانع من غيره كان الغير هو الحامل لواجب الوجود وواجب الوجود لا يحمل على شيء ولا يمنع من شيء.
شبهة أخرى تقارب هذه الشبهة قال ليس يخلو الصانع من أن يكون لم يزل صانعا بالفعل أو لم يزل صانعا بالقوة فإن كان الأول فالمصنوع معلول لم يزل وإن كان الثاني فما بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا بمخرج ومخرج الشيء من القوة إلى الفعل غير ذات الشيء فيجب أن تتغير ذات الصانع لمغير وذلك باطل.
شبهة أخرى قال كل علة لا يجوز عليها التحرك والاستحالة فإنما تكون علة من جهة ذاتها لا من جهة الانتقال من غيرها وكل علة من جهة ذاتها فمعلولها من جهة ذاتها وإذا كانت ذاتا لم تزل فمعلولها لم يزل.
صفحة ١٦
والجواب قلنا ما المعنى بقولك الباري تعالى جواد بذاته وما معنى الجود فإن عندنا وعندكم الجود ليس صفة ذاتية زايدة على الذات بل هو صفة فعلية والصفات عندكم إما أن تكون سلوبا كالقديم والغنى فإن معنى القديم نفي الأولية ومعنى الغنى نفي الحاجة وأما أن تكون إضافات كالخالق والرازق على اصطلاحنا والمبدئ والعلة الأولى على اصطلاحكم وليس لله صفة وراء هذين المعنيين فالجود من قسم الإضافة لا من قسم السلب فلا فرق إذا بين معنى المبدئ وبين معنى الجود ومعناهما الفاعل الصانع فكأنكم قلتم صانع بذاته وهو محل النزاع ومصادرة على المطلوب الأول فإن الخصم يقول ليس فاعلا لذاته وفعله ليس قديما لم يزل وفيه وقع الخلاف غيرت العبارة من الفعل إلى الجود وجعلته دليل المسئلة وإذا كان معنى الجود راجع إلى الفعل والإيجاد فقوله مرة هو جواد ومرة غير جواد كقوله مرة فاعل ومرة غير فاعل وذلك أيضا محل النزاع فلم يجب أن يقال انه يوجب التغير.
وإنما حل الشبهة فيه من وجهين أحدهما أن الفعل إنما امتنع في الأزل لا لمعنى يرجع إلى الفاعل بل لمعنى راجع إلى نفس الفعل حيث لم يتصور وجوده فإن الفعل ما له أول والأزل ما لا أول له واجتماع ما لا أول له مع ما له أول محال فهو تعالى جواد حيث يتصور الجود ولا يستحيل الموجود أليس لو عين الشخص في زماننا فيقال يجب أن يوجد أزلا لأن الباري سبحانه جواد لذاته كان السؤال محالا لأن الموجود المعين استحال وجوده فيما لم يزل فاستحالة وجود الموجود هو المانع لفيض الوجود لا منعا يكون ذلك حملا أو زجرا بل هو ممتنع في ذاته وهكذا لو أوجد ما أوجده أولا أو أوجد جميع الموجودات معا من غير ترتيب واحد على واحد كل ذلك غير جايز عند الخصم ولم يقدح في كونه جوادا هذا كما يقدره المتكلم أن الباري سبحانه يوصف بالقدرة على ما يجوز وجوده وإما ما يستحيل وجوده فلا يقال الباري تعالى ليس قادرا عليه بل يقال المستحيل في ذاته غير مقدور فلا يتصور وجوده.
وهذا هو الجواب أيضا عن قولهم لو لم يكن صانعا فصار صانعا كان صانعا بالقوة فصار صانعا بالفعل وتغيرت ذاته.
فإنا نقول إنما لم يكن صانعا لم يزل لأن الصنع فيما لم يزل مستحيل الوجود وإذا استحال وجود الشيء في نفسه ولذاته لم يكن مقدورا فلا يكون مصنوعا قط وإذا استحال وجود الشيء لمعنى آخر كان جايزا في ذاته فإذا زال ذلك المعنى تحقق الجواز فصار مقدورا فيكون مصنوعا والصنع لم يزل إنما استحال لنفي أولية الأزل وإثبات أولية الصنع فكان الجمع بينهما محالا فإذا نفيت الأزلية تعينت الأولية فتحقق الجواز فصح المقدور فوجد المصنوع.
وكذلك الجواب عن الشبهة الثالثة أنه علة لذاته فإن معنى كونه علة أي مبدئ لوجود شيء وإنما الممتنع وجود المعلول مع العلة معية بالذات فإن ذلك يرفع العلية والمعلولية وكذلك نقول يستحيل وجود المعلول مع العلية معية بالزمان فإن ذلك يوجب كون العلة زمانية قابلة للتغير وذلك محال أيضا فيجب أن يتقدم في الوجود لأن وجود الباري سبحانه وجود لذاته غير مستفاد من غيره ووجود العالم مستفاد منه والمفيد أبدا يتقدم في الوجود.
أما الوجه الثاني في حل الشبهة أن نطالبهم أولا فنقول بما عرفتم أنه سبحانه يجب أن يكون جوادا لذاته قالوا لأن موجودا ما يفعل أكمل من موجود لا يفعل وإن تصدر عنه موجودات أشرف من أن لا تصدر.
قيل له لو عكس الأمر عليكم أن الموجود الذي لا يفعل أكمل فما جوابكم عنه إذ ليس هذا من القضايا الضرورية خصوصا في موجود يكون كماله بذاته لا بغيره وإنما يصدر عنه فعل لو صدر لا لغرض ولا ليكتسب به حمدا ولا أمرا ما يتعلق بالتناقل لعمري لو كان موجودان أحدهما كماله بذاته والآخر كماله من غيره شهد العقل بالضرورة أن الذي كماله بالذات أشرف من الذي كماله بغيره والموجود الذي لو لم يفعل فعلا كان ناقصا فليس بكامل الذات بل هو ناقص مستكمل من غيره فلم يصح أن يكون واجب الوجود لذاته.
وأما حل الشبهة الثانية نقول ما المعنى بقولكم إذا لم يكن صانعا فصار صانعا فقد تجدد أمر فنقول تجدد في ذات الصانع أمر أم تجدد أمر في غير ذاته والأول غير مسلم والثاني مسلم وهو محل النزاع.
صفحة ١٧
وقولهم كان صانعا بالقوة أيضا مشترك فإن القوة يراد بها الاستعداد المجرد ويراد بها القدرة والأول غير مسلم والثاني مسلم وهو محل النزاع ولا يحتاج إلى مخرج إلى الفعل.
وأما حل الشبهة الثالثة قال كل علة لا يجوز عليها التحرك والاستحالة فإنما تكون علة من جهة ذاتها غير مسلم بل هو باطل على أصله بالعقل الأول فإنه لا يجوز عليه التحرك والاستحالة وليس علة من جهة ذاته بل هو معلول الواجب الوجود وعلة من جهة كونه واجبا به لا بذاته وكذلك العقول المفارقة لا تقبل الحركة والاستحالة وليست عللا من جهة ذواتها.
ومما يعتمد في إثبات حدث العالم أن نفرض الكلام في النفوس الإنسانية ونثبت تناهيها عددا ثم ترتب عليها تناهي الأشخاص الإنسانية وترتب عليها حدوث الأمزجة وتناهيها ثم نرتب عليها تناهي الحركات الدورية الجامعة للعناصر ثم ترتب عليها تناهي المتحركات والمحركات السماوية فثبت حدث العالم بأسره وهي أسهل الطرق وأحسنها.
فنقول قد تقرر في أوايل العقول إن كل عدد أو معدود موجود بالفعل إذا كان غير متناه بالفعل فإنه لا يقبل الزيادة والنقصان وإن الزايد لا يكون مثل الناقص قط ولا يمكن أن يكون شيء أكبر من مقدار غير متناه لموجود وجد وغير المتناهي لا يتضاعف بما لا يتناهى وإن ما يتناهى من طرف يتناهى من سائر الأطراف والنفوس الإنسانية عند القوم موجودات بالفعل مجتمعة في الوجود وهي قابلة للزيادة والنقصان فإن الزمان الذي نحن فيه قد اشتمل على أشخاص إنسانية متناهية ولكل شخص نفس إذا أضفت تلك النفوس إلى ما مضى من الأشخاص التي بقيت نفوسها كانت الأوائل منها أنقص وهي مع الزيادة أزيد وكذلك في كل زمان وساعة تتزايد النفوس أبدا وما قبل الزيادة في كل وقت يستحيل أن يكون غير متناه وذلك لأن نسبة ما مضى إلى الحاصل كنسبة الناقص إلى الزايد وحيث ما تمادى إلى الأول صار أنقص كما إذا تمادى إلى الآخر صار أزيد ومثل هذا مستحيل فيما لا يتناهى موجودا بالفعل محصورا في الوجود نعم ربما يظن في الموجودات المتعاقبة في الوجود أنها لا تتناهى قبل آخر وآخرا بعد أول وأنها إذا جازت غير متناهية آخرا جازت غير متناهية أولا وهذا الظن وإن كان خطأ عند العقل إلا أن الخيال ربما يعين هذا الرأي لكن الفرض إذا كان في موجودات غير متناهية مجتمعة في الوجود لا متعاقبة أعدادا ومعدودات بالفعل لا بالقوة فيلزمها ضرورة ألا تقبل الزيادة والنقصان إذ لو قبلت وهي غير متناهية لكان الزايد مثل الناقص.
والذي يوضحه أن كل جملة موجودة الآحاد بالفعل إذا زيد عليها عدد معلوم أو نقص منها عدد محصور صار ما لا يتناهى أكثر مما كان أو أنقص.
صفحة ١٨
فنقول إذا دخل ما لا يتناهى في الوجود من النفوس فالباقي من النفوس التي لم تدخل في الوجود بعد أما إن كانت متناهية أو غير متناهية فإن لم تكن متناهية فقد تضاعف ما لا يتناهى بما لا يتناهى وذلك محال وإذا كانت متناهية فإذا زيدت على غير المتناهي صارت الجملة أكثر من المقدار الأول وقد علم أن غير المتناهي الموجود لا يكون شيء أكثر منه وهذا أكثر منه فهو خلف ثم يلزم أن يكون الباقي على نسبة عددية إذ هي موجودة بالفعل أما نسبة النصف أو الثلث أو الربع أو غير ذلك من النسب وإذا كانت الجملة غير متناهية بالفعل استحال تقدير النسبة إليها فإن ما لا يتناهى لا نصف له ولا ثلث ولا ربع وإذا تحققت النسبة دل ذلك على أن الجملة محصورة معدودة متناهية وليس يلزم على ما ذكرناه كون العدد غير متناه فإنا لا نسلم ذلك في عدد معلوم موجود ومعنى قولنا أن العدد لا يتناهى انه في التقدير الوهمي لا يتناهى أي الوهم يعجز عن بلوغ حد ونهاية فيه فيحكم العقل انه لا نهاية له وكما أن العدد على الإطلاق معلوم من غير ربط بمعدود وكذلك النصف والثلث والربع على الإطلاق معلوم من غير نسبة إلى ما لا يتناهى إنما المستحيل إثبات أعداد موجودة غير متناهية فإن كل موجود معدود فهو محدود وإذا تحقق بطلان النفوس الغير متناهية وكانت كل نفس متعلقة ببدن تحقق بطلان الأبدان الغير متناهية ثم إذا تناهت الأبدان والنفوس الإنسانية تناهت الامتزاجات العنصرية فتناهت الحركات الدورية السماوية فتناهت المتحركات العلوية فتناهت المحركات الروحانية فتناهى العالم بأسره فكان له أول منه ابتداء فأما تقدير عدم عليه يمكن أن يكون قبله فهو تقدير خيالي كتقدير خلا وراء العالم يمكن أن يكون فيه فالخلا بالنسبة إلى العالم مكانا كالعدم بالنسبة إليه زمانا وتقدير بينونة وراء العالم غير متناهية كتقدير أزمنة قبل العالم غير متناهية.
ولو سأل سائل هل يمكن تقدير عالم آخر وراء هذا العالم ووراء ذلك العالم عالم آخر إلى ما لا يتناهى كان السؤال محالا كذلك لو سأل هذا هل يمكن تقدير هذا العالم أو عالم آخر قبله بزمان وقبل ذلك القبل بزمان إلى ما لا يتناهى كان السؤال أيضا محالا فليس قبل العالم إلا موجده ومبدعه قبلية الإيجاد والإبداع لا قبلية الإيجاب بالذات ولا قبلية الزمان كما ليس فوق العالم إلا مبدعه فوقية الإبداع والتصرف لا فوقية الذات ولا فوقية المكان والله المستعان.
القاعدة الثانية
في حدوث الكائنات بأسرها بأحداث له سبحانه
وفيها الرد على المعتزلة والثنوية والطبايعيين والفلاسفة وفيها تحقيق الكسب والفرق بينه وبين الإيجاد والخلق مذهب أهل الحق من أهل الملل وأهل الإسلام أن الموجد لجميع الكائنات هو الله سبحانه فلا موجد ولا خالق إلا هو والفلاسفة جوزوا صدور موجود من غير الله تعالى بشرط أن يكون وجود ذلك الغير مستندا إلى وجود آخر ينتهي إلى واجب الوجود بذاته ثم هم مختلفون في انه هل يجوز أن يصدر عنه أكثر من واحد فذهب أكثرهم إلى انه واحد من كل وجه فلا يصدر عنه إلا واحد.
ثم اختلفوا في ذلك الواحد فقال بعضهم هو العقل وقال بعضهم هو العنصر ثم العقل واختلفوا في الصادر عن المعلول الأول فقال بعضهم هو النفس وقال بعضهم هو عقل آخر ونفس وفلك هو جسم وكذلك يصدر عن كل عقل عقل حتى انتهى بالعقل الذي هو مدير فلك القمر الفعال الواهب للصور على مركبات العالم ومن قدماء الأوائل من جوز صدور شيء متكثر من واجب الوجود واختلفوا فيه فمنهم من قال هو الماء ومنهم من قال هو النار ومنهم من قال هو الهواء ومنهم من قال هو أجسام لطيفة بسيطة تركبت أو أجزاء صغار اجتمعت فحدث العالم ومنهم من قال هو العدد ومنهم من قال هو المحبة والغلبة على ما قررنا تفصيل مذاهبهم في الإرشاد إلى عقائد العباد.
وأما المجوس فلهم تفصيل مذهب في حدوث الكائنات وسبب امتزاج النور والظلمة وسبب الخلاص لكن اتفقوا على نسبة الخير والصلاح إلى النور ونسبة الشر والفساد إلى الظلمة.
صفحة ١٩
وأما المعتزلة القدرية فأثبتوا للقدرة الحادثة تأثيرا في الإيجاد والأحداث من الحركات والسكنات وبعض الاعتقادات والاعتمادات والنظر والاستدلال والعلم الحاصل به وبعض الادراكات وهي التي يجد الإنسان من نفسه أنها تتوقف على البواعث والدواعي وورود التكليف بمباشرتها والكف عنها.
ووافقنا الفلاسفة على أن جسما ما أو قوة في جسم لا يصلح أن يكون مبدعا لجسم.
ووافقنا المجوس على أن الظلمة لا يجوز أن تحدث بإحداث النور.
ووافقنا المعتزلة على أن القدرة الحادثة لا تصلح لأحداث الأجسام والألوان والطعوم والروائح وبعض الإدراكات والحيوة والموت ولهم اختلاف مذهب في المتولدات وإنما أوردنا هذه المسئلة عقيب حدث العالم لأن الدليل لما قام على أن الممكن بذاته من حيث إمكانه استند إلى الموجد وإن الإيجاد عبارة عن إفادة الوجود فكل موجود ممكن مستند إلى إيجاد الباري سبحانه من حيث وجوده والوسايط معدات لا موجبات وهذا هو مدار المسئلة.
ولنا في تقرير هذا المعنى كلام مع الفلاسفة على مقتضى قواعدهم ومع المجوس على موجب أصلهم باعتبار انه موجود ومع المعتزلة على موجب عقائدهم.
أما الكلام على الفلاسفة فنقول كل موجود بغيره ممكن باعتبار ذاته لو جاز أن يوجد شيئا فأما أن يوجده باعتبار انه موجود بغيره أو باعتبار انه ممكن بذاته أو باعتبارهما جميعا لكن لا يجوز أن يوجد باعتبار انه موجود بغيره إلا بشركة من ذاته إذ لا تعزب ذاته عن ذاته ولا يخرج وجوده عن حقيقته وهو باعتبار ذاته ممكن الوجود والإمكان طبيعته عدمية فلو أثر في الوجود لأثر بشركة العدم وهو محال.
وهذا البرهان إنما نقلناه عن قولهم في الجسم انه لا يؤثر في الجسم إيجادا وإبداعا إذ الجسم مركب من مادة وصورة فلو أثر بشركة من المادة والمادة لها طبيعة عدمية فلا يجوز أن توجد شيئا فالجسم لا يجوز أن يوجد أيضا فإمكان الوجود كالمادة ونفس الوجود كالصورة كما أن الجسم لا يؤثر من حيث صورته إلا بشركة من المادة كذلك الموجود بغيره الممكن باعتبار ذاته لا يؤثر من حيث وجوده إلا بشركة من إمكان الوجود فلا موجد على الحقيقة إلا بوجود واجب بذاته من كل وجه لا يشوبه إمكان ولا عدم من وجه والوسايط إن أثبتت فإنها معدات لا موجدات.
فإن قيل الممكن باعتبار ذاته إنما يوجب غيره أو يوجد باعتبار وجوده بغيره وحين لاحظنا جانب الوجود نقطع نظرنا عن الإمكان والعدم فإن الإمكان قد زال بثبوت الوجود وحصل الوجوب بدل الإمكان فلا التفات إلى الإمكان أصلا فلم يؤثر بشركة الإمكان والجواب قلنا إذا كان الوجود من حيث هو وجود مؤثرا من غير ملاحظة إلى وجه الإمكان والجواز فليؤثر وجود كل موجود حتى لا يكون العقل بالإيجاب أولى من النفس أو الجسم وحتى يكون الجسم مؤثرا في الجسم باعتبار صورته لا من حيث مادته فإن الوجود من حيث هو وجود لا يختلف وإنما الاختلاف في كل موجود إنما يرجع إلى الفواصل.
فإن قيل العقل الأول إنما يوجب شيئا آخر بسبب اعتبارات في ذاته فهو من حيث وجوده بواجب الوجود يوجب عقلا أو نفسا ومن حيث انه ممكن بذاته يوجب جسما هو صورة ومادة وقولكم أن جهة الإمكان غير ملتفت إليها أصلا باطل فإن جهة الوجوب يناسب وجود العقل والنفس وجهة الإمكان يناسب وجود المادة والصورة وإنما حملنا على إثبات هذا الإيجاب لأن الواحد لا يجوز أن يصدر عنه إلا واحد فإنه لو صدر عنه اثنان لكان عن جهتين ولو ثبت أن له جهتين لتكثرت ذاته وقد دل البرهان على أن واجب الوجود لن يتكثر.
والجواب قلنا ولو كان العقل إنما أوجب عقلا أو نفسا باعتبار انه واجب بغيره لا وجب الجسم جسما أو نفسا باعتبار انه واجب بغيره فإن قضية الوجوب بالغير لا تختلف إلا أن يكون أحدهما بغير واسطة والثاني واسطة وإلا فمن حيث أن الجسم ذو مادة لا يمتنع عليه الإيجاد من حيث انه واجب بغيره وكما أن العقل من حيث انه ذو إمكان في ذاته لم يمتنع عليه الإيجاب والإيجاد من حيث انه واجب بغيره فقولوا أن الجسم يجوز أن يوجد جسما أو قوة في جسم يجوز أن توجب جسما أو صورة الجسمية يجوز أن توجب جسما وهذا مستحيل بالاتفاق.
صفحة ٢٠
نعم نقول هاهنا مقتضيات أربعة عقل ونفس وفلك ومادة وهي جواهر مختلفة متمايزة بالحقايق تستدعي مقتضيات أربعة مختلفة بالحقائق أيضا فعليكم أن تثبتوا في المعلول الأول هذه الحقائق بحيث يناسب كل واحد واحد وإلا فيلزم أن يصدر عن شيء واحد أشياء وذلك محال عندكم وعليكم أيضا أن تثبتوا أن تلك الاعتبارات المقتضية لا ترجع إلى إضافات وسلوب فإن كثرة الإضافات والسلوب وإن لم توجب كثرة في الذات إلا أنها لا توجب أشياء فإن ذات واجب الوجود واحدة من كل وجه إلا أنها لا تتكثر بالإضافات والسلوب والصفات الإضافية والسلبية لا توجب أشياء متعددة إذ لو أوجبت لأضيف إلى واجب الوجود جميع الموجودات إضافة واحدة من غير وسائط وذلك محال عندكم فهم بين أمرين متناقضين أن أثبتوا في المعلول الأول صفات إيجابية مختلفة الحقائق فقد ناقضوا مذهبهم حيث قالوا الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وإن قالوا هذه الصفات التي ثبتت إضافية أو سلبية لزمهم أن يثبتوا مقتضيات متعددة لواجب الوجود وذلك أيضا يناقض مذهبهم.
وهذا إلزام إفهام لا محيص عنه ثم نفصل القول بعد الإجمال فنقول إذا كان المقتضى مفصلا معلوما مختلف الأنواع يجب أن يكون المقتضى مفصلا معلوما مختلف الحقائق وما أثبتم إلا أمرين أحدهما كونه واجبا بغيره والثاني كونه جايزا بذاته وكونه واجبا بغيره أوجب عقلا أو نفسا وكونه ممكنا بذاته أوجب صورة ومادة فقد أثبتم صدور موجودين جوهرين قائمين بذاتيهما من وجه واحد وذلك أيضا يناقض مذهبهم.
وأراد من تكيس منهم أن يعتذر عن هذين الإلزامين فقال إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد كما ذكرنا إلا أن العقل الأول إنما يكثر باعتبارات ذاته لا بما استفاد من غيره لأن الإمكان له من ذاته لا من غيره والوجود له من غيره لا من ذاته فلم يستفد الكثرة من واجب الوجود لعمري لما حصل العقل حصلت له اعتبارات أربعة أحدها كونه واجبا بغيره والثاني كونه عقلا والثالث كونه واحدا في ذاته والرابع كونه ممكنا في ذاته فأوجب من حيث هو عقل عقلا ومن حيث هو موجود بواجب الوجود نفسا ومن حيث هو واحد صورة ومن حيث هو مكن مادة وهذه الاعتبارات لما كانت مختلفة الحقائق أوجبت جواهر مختلفة الأنواع.
انظروا بعين الاعتبار إلى هذا الاعتذار هل هو إلا تحكم محض لم يقم عليه دليل عقلي ولا شاهد حسي بل هو أقل رتبة من طرد الفقها أرادوا بناء أشرف الموجودات كمالا على اعتبارات كلها ترجع إلى عبارات فنطالبهم أولا بصحة هذه المناسبات ولا يجدون إلى إثباتها سبيلا.
ثم نقول كونه واجب الوجود بغيره أمر إضافي لا محالة لأن كون واجب الوجود مبدأ وعلة أو موجبا ومبدعا أمر إضافي لا تتكثر به الذات فإذا كان الإيجاب إضافة فيكون بين الموجب والموجب إضافة لا محالة والأمر الإضافي قد يتكثر ويتعدد ولا تتكثر به الذات فلو صلح أن يكون موجبا في العقل الأول العقل الآخر لصح مثله في واجب الوجود بذاته فهلا كثرت الإضافات في حق واجب الوجود حتى تتحقق له نسبة إيجاب إلى موجب فتتكثر النسب الإضافية ولا تتكثر بها الذات وهذا كما يقدرونه في العقل الفعال الذي هو واهب الصور على العالم الجسماني فإنه ما من صورة تحدث في العالم إلا وهي من فيضه وسنخه ثم تختلف الصور باختلاف الأنواع والأصناف إلى ما لا يتناهى ولا تختلف الصفات في الفايض بل هو على نعت واحد والصور تختلف وتتكثر بحسب القوابل والحوامل ولو اختلفت النسب فإنما هي إضافات لا صفات حقيقية كذلك يجب أن يقال في واجب الوجود بذاته أنه ينسب إليه الكل نسبة واحدة من حيث وجودها الممكن ثم الاختلاف يحصل في القوابل أو تكون الإضافات والسلوب كثيرة وتتعدد الموجبات بحسب تلك ولا يوجب ذلك كثرة في الذات كما قالوا في المعلول الأول.
صفحة ٢١