والحق أن الدليل ليس بمختص بالغافل فإن الغافل كما لم يحط علما بالفعل من كل وجه كذلك العالم لم يحط به علما من كل وجه والفاعل الخالق يجب أن يكون محيطا بالفعل من كل وجه إذ الأحكام إنما يثبت فيه من آثار علمه لا من آثار علم غيره ويدل على علمه لا على علم غيره فكما يستحيل إيجاد الفعل واختراعه على جهل وغفلة بالمخلوق المخترع من كل وجه كذلك يستحيل إيجاده على غفلة من وجه قال الله تعالى " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " فإن قيل هذا الدليل لا يصلح لإثبات استحالة حدوث الفعل بالقدرة الحادثة فإن إحاطة العبد بالفعل من كل وجه غير مستحيل وإن لم يتفق في الصورة المذكورة وقوعا لا وجوبا فلو قدر تعلق العلم الحادث بالفعل من كل وجه وجب أن تجوزوا حصول الفعل بالقدرة الحادثة من كل وجه لأن الأحكام والإتقان فيه دل على علم الفاعل ومع ذلك لم يجز على أصلكم فدل أن الاستدلال بانتفاء العلم من كل وجه باطل وأيضا فإن القدر الذي تعلق العلم به وجب أن يكون مخلوقا للعبد وعندنا العلم بالفعل من كل وجه غير شرط بل العلم بأصل وجوده شرط كونه فاعلا وهو لم يعدم ذلك.
والجواب أنا ما أنشانا هذا الدليل لبيان استحالة حدوث الفعل بالقدرة الحادثة بل لنفي كون العبد خالقا لأفعاله التي يثاب ويعاقب عليها إذ لو كان خالقا لدل الأحكام في فعله على علمه لكن لم يدل فلم يكن خالقا لأنه لو كان خالقا لكان عالما بخلقه من كل وجه لكنه ليس بعالم به من كل وجه فليس بخالق.
هذا وجه دلالة هذا النظر فلا يلزمنا تقدير الإحاطة به من كل وجه فإن انتفاء العلم إذا دل على انتفاء الخالقية لم يلزم أن يدل وجود العلم على ثبوت الخالقية بل هو عكس الأدلة والدليل لا ينعكس .
ولو تصدينا لبيان الاستحالة صغنا الدليل صياغة أخرى فقلنا لو كان الفعل منتسبا إلى العبد إبداعا لوجب أن يكون في حال إبداعه عالما بجميع أحواله ويستحيل من العبد الإحاطة بجميع وجوه الفعل في حالة واحدة لأمرين أحدهما أن العلم الحادث لا يتعلق بمعلومين في حالة واحدة وذلك لجواز طريان الجهل على العالم بأحد الوجهين فيؤدي إلى أن يكون عالما جاهلا بمعلوم واحد في حالة واحدة ويكون علمه علما من وجه وجهلا من وجه.
الثاني أن وجوه المعلومات في الفعل تنقسم إلى ما يعلم ضرورة وإلى ما يعلم نظرا فيحتاج حالة الإيجاد في تحصيل ذلك العلم إلى نظر وهو اكتساب ثان وربما يحتاج إلى معرفة الضروري والنظري من وجوه الاكتساب فيؤدي إلى التسلسل حتى لا يصل إلى إيجاد الفعل المطلوب وعن هذا المعنى صار كثير من عقلاء الفلاسفة إلى أن الإيجاد لن يحصل إلا بالعلم حتى لو تصور من الإنسان العلم بوجوه الفعل كليا وجزيا ومحلا ومكانا وزمانا وعددا وشكلا وعرضا وكمالا لتصور منه الإيجاد والإبداع وعن هذا صاروا إلى أن علم الباري سبحانه بذاته هو المبدئ لوجود الفعل الأول وفرقوا بين العلم الفعلي والعلم الانفعالي وإنما يحتاج الإنسان إلى القدرة والإرادة والدواعي والآلات والأدوات لأن علمه لن يتصور أن يكون علما فعليا بل علومه كلها انفعالية ولذلك اتفق المتكلمون بأسرهم على أن العلم يتبع المعلوم فيتعلق به على ما هو به ولا يكسبه صفة ولا يكتسب عنه صفة وهذا هو سر هذه الطريقة ونهايتها.
أما الطريق الثاني في بيان استحالة كون القدرة الحادثة صالحة للإيجاد.
فنقول لو صلحت للإيجاد لصلحت لإيجاد كل موجود من الجواهر والأعراض وذلك لأن الوجود قضية واحدة تشمل الموجودات وهو من حيث أنه وجود لا يختلف فليس يفضل الجوهر العرض في الوجود من حيث أنه وجود بل من وجه آخر وهو القيام بالنفس والحجمية والتحيز والاستغناء عن المحل وعند الخصم هذه كلها صفات تابعة للحدوث وليست من آثار القدرة وأما الشيئية والعينية والجوهرية والعرضية فهي أسماء أجناس عنده ثابتة في العدم ليست أيضا من آثار القدرة فلم يبق من الصفات وجه لتعلق القدرة إلا الوجود وهو لا يختلف في الموجودات وجهة الصلاحية أيضا وفي القدرة جهة واحدة فلو صلحت لإيجاد موجود ما صلحت لإيجاد كل موجود لكنها لا تصلح لإيجاد بعض الموجودات من الجواهر وأكثر الإعراض فلم تصلح لإيجاد موجود ما.
صفحة ٢٤