وأما المجوس فمذهبهم يدور على قاعدتين أحديهما ذكر سبب امتزاج النور والظلمة والثانية ذكر سبب خلاص النور من الظلمة والأولى هي المبدأ والثانية هي المعاد وذلك انه لما ألزم عليهم أن النور إذا كان ضد الظلمة جوهرا وطبعا وفعلا وحيزا وهما متنافران ذاتا وطبيعة فكيف امتزجا وما الموجب لاجتماعهما حتى حصل الامتزاج وحصل بحصول الامتزاج صور هذا العالم ثم هل يبقى هذا الامتزاج أبد الدهر ويلزم عليهم كون أجزاء النور معذبة أبد الآبدين أو تتخلص يوما ما فما الموجب للخلاص.
فصار مدار المسئلة معهم على تقرير هذين الركنين.
قالت طائفة منهم أن النور فكر في نفسه فكرة ردية فحدث منها الظلام متشبثا ببعض أجزاء النور وهذا قول من قال بحدوث الظلام.
فيقال لهم إذا كان النور خيرا لا شر فيه بوجه ما فما الموجب لحدوث الفكرة الردية فإن حدثت بنفسها فهلا حدث الظلام بنفسه من غير أن ينسب إليه وإن حدث بالنور فالنور كيف أحدث أصل الشر ومنبع الفساد فإنه إن كان كل فساد في العالم إنما انتسب إلى الظلام والظلام انتسب إلى الفكرة كانت الفكرة مبدأ الشر والفساد.
ومن العجب أنهم اعتذروا حتى لم ينسبوا شرا جزئيا إلى النور في الحوادث ولزمهم أن ينسبوا كل الشر وأصل الفساد إليه.
ومن قال بقدم الظلام فالرد عليه أن العقل يقضي ضرورة أن شيئين متنافرين غاية التنافر طبعا لا يمتزجان إلا بقاسر فإنهما لو امتزجا بذاتيهما بطل تنافرهما بذاتيهما وما هو متنافر ذاتا لا يجوز أن يجتمع ذاتا فالذات الواحدة لا توجب اجتماعا وافتراقا وذلك يقتضي ألا يحصل وجود ما وقد حصل فهو خلف.
ونقول أيضا الظلام لا يخلو إما أن يكون موجودا حقيقة أو لم يكن فإن كان وجوده وجودا حقيقيا فقد ساوى النور في الوجود وبطل الامتياز عنه من كل وجه وكذلك إن ساواه في القدم والوحدة ثم الوجود من حيث هو وجود خير لا محالة فلم يكن الظلام شرا وإن لم يكن موجودا حقيقة فما ليس بموجود حقيقة كيف يكون قديما وكيف ينافي ضده وكيف يحصل منه امتزاج وكيف يحصل من امتزاجه وجود العالم.
ونقول أيضا عندكم وجود خير من شر ووجود شر من خير لا يتصور.
ومن قال بحدوث الظلام فقد لزمه حدوث شر من خير ثم حدوث العالم من الامتزاج وذلك حدوث خير من شر.
ومن قال بقدمه فقد لزمه حصول العالم من الامتزاج والامتزاج إن كان خيرا فهو حصول خير من شر وإن كان شرا فهو حصول شر من خير ثم لو كان الامتزاج خيرا أوجب أن يكون الخلاص شرا لأنه ضده ولو كان شرا فالخلاص خير وعلى أي وجه قدر فلا بد من حصول خير من شر وحصول شر من خير.
ونقول أيضا العقل بالضرورة يقضي بأن امتزاج جوهرين بسيطين لا يقتضي إلا طبيعة واحدة ونحن نرى مختلفات في العالم اختلافا في النوع والشخص والحقيقة والصورة على طبائع مختلفة وأعراض متضادة وهذه المختلفات تستحيل أن تحصل من امتزاج أمرين بسيطين فقط فإنهما لا يوجبان أمورا على خلاف ذاتيهما ولا يوجدان أكوانا على ضد طبيعتيهما فقد بطل قولهم أن الكون والكائنات حصلت من الامتزاج بل لا بد من إسنادهما إلى فاطر حكيم قادر عليم.
وأما الكلام على المعتزلة فنذكر أولا طريق أهل السنة في إسناد الكائنات إلى الله سبحانه خلقا وإبداعا.
ولهم طريقان في ذلك أحدهما قولهم الأفعال المحكمة دالة على علم مخترعها إذ الاتقان والإحكام من آثار العلم لا محالة وإذا كان الفعل صادرا من فاعل متقن فيجب أن يكون من آثار علم ذلك الفاعل ومن المعلوم أن علم العبد لا يتعلق قط بما يفعله من كل وجه بل لو علمه علمه من وجه دون وجه علم جملة لا علم تفصيل فوجوه الإحكام في الفعل لم تدل على علمه وليست من آثار علمه فيتعين أن الفاعل غيره وهو الذي أحاط به علما من كل وجه وهذه الطريقة هي التي اعتمد عليها الشيخ أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه وأوردها في كتبه وفرضها في الغافل إذا صدر عنه فعل.
صفحة ٢٣