ونقول كون العقل الأول عقلا أمر سلبي عندكم لأن معنى كونه عقلا أنه مجرد عن المادة والتجريد عن المادة سلب المادة ونفيها والنفي كيف يناسب وجود جوهر عقلي هو عقل كيف والسلوب كثيرة فهلا أوجب بكل سلب جوهرا عقليا فإنه كما يسلب عنه المادة يسلب عنه الصورة أعني الصورة الجسمية ويسلب عنه الكيفية والكمية والوضع والحيز والمكان والزمان ولم يجب أن يقال يلزم عنه بكل سلب جوهر عقلي ومثل هذه السلوب تتحقق في حق واجب الوجود أيضا ولا يوجب كل سلب جوهرا عقليا وإن سلم ذلك حصل غرضنا من إضافة الكل إليه.
ثم نقول لم صار كونه واجب الوجود بغيره أولى بإيجاب نفس من كونه مجردا عن المادة ولو عكس الأمر فجعل ما ذكرتموه بالغير موجبا للعقل وما ذكرتموه من التجرد عن المادة موجبا للنفس أي محال كان يلزم منه وأي خلل كان يحصل وهل هذا إلا تحكم بارد بني على تقليد أو تقليد استند إلى تحكم.
ونقول عددتم اعتبارات أربعة وقضيتم بوحدة العقل في ذاته وقلتم أن الوحدة توجب نفسا أو جسما فبينوا ما هو المستفاد من الباري تعالى وما هو له من ذاته فإن الذي له من ذاته ليس إلا إمكان الوجود بقيت اعتبارات ثلاثة وإن كانت مستفادة من الأول استدعت ثلاث مقتضيات وواجب الوجود واحد من كل وجه وإن كانت له لذاته أي من لوازم ذاته فقد بطل قولكم إن الذي له من ذاته هو الإمكان فقط ثم الإمكان لا يناسب إلا المادة لأن طبيعة المادة طبيعة عدمية لها استعداد قبول الصور والإمكان طبيعة عدمية أيضا لها استعداد قبول الوجود بقيت الصورة لا موجب لها.
ومما يقضى منه العجب أن الجسم الذي هو مركب من جوهرين مختلفين مادة وصورة لا يجوز أن يوجب جسما مثله وشيء ما له وجود بغيره وإمكان بذاته يوجب جواهر عقلية حقيقية مختلفة بالنوع لا يجوز أن تشترك في مادة مع أن الإمكان ليس يتحقق له وجود إلا في الذهن والمادة يتحقق لها وجود في الخارج فعرف بهذه الاعتراضات أن الواسطة التي أوجبوا وجودها حتى توجب الموجودات لا يحتاج إليها.
ثم نقول من أين أثبتم أربع اعتبارات في الصادر الأول حتى صدرت عنه أربعة جواهر فما قولكم في الصادر الثاني والثالث أفيصدر عن كل واحد على مثال ما صدر من الأول أو يتغير الترتيب فإن كان على مثال الأول فيجب أن يصدر عن كل واحد من الأربعة أربعة جواهر فيتضاعف الأعداد أربعة في أربعة وذلك على خلاف الوجود أو يصدر عن العقل الثاني أربعة أخرى فما الموجب للوقوف على تسعة من العقول أو تسع من النفوس وتسعة من الأفلاك وأربعة من العناصر فهلا زاد إلى ما لا يتناهى أو هلا زاد بعدد معلوم أو هلا نقص فهل الانتهاء إلى عدد معلوم ثم الوقوف عليه إلا تحكم محض ثم ما الموجب حتى يتغير التأثير من السماوي المتركب تركيبا لا ينحل قط المتحرك تحركا على الاستدارة لا يسكن قط إلى العناصر والمركبات تركيبا لا يدوم قط ولا يثبت على حال قط المتحركة تحركا على الاستقامة ثم الانتهاء إلى النفس الإنسانية والوقوف عليها آخرا وما الموجب لتقدير النجوم والشمس والقمر بأقدارها المعلومة حتى صار منها ما هو أكبر ومنها ما هو أصغر وما الموجب لتعيين القطبين بالموضع المعلوم مع أن كل كرة واحدة وليس بعض الأجزاء بتعين القطب فيه أولى من البعض فإن كنتم شرعتم في طلب العلة لكل شيء وادعيتم أن كمال نفس الإنسان في أن تتجلى لها حقائق الموجودات وتصرفتم بالفكر العقلي في الهيئات وكيفية الإبداع فأفيدونا جواب هذه الأسولة وإذ رأينا انحصاركم وتحيركم ورأينا الوجود على خلاف الترتيب الذي وضعتم ولم تستمر قاعدتكم على ما مهدتم عرف بطلان مذهبكم من كل وجه وعلم بالضرورة استناد الموجودات إلى صانع عالم قادر مختار ابتدع الخلق بقدرته وإرادته ابتداعا واخترعهم على مشيئته اختراعا ثم سلكهم في طرق إرادته وبعثهم على سبيل محبته لا يملكون تأخرا عما قدمهم إليه ولا يستطيعون تقدما إلى ما أخرهم عنه وهذا القدر يكفي في هذه المسئلة من الرد على الفلاسفة المتفقين على رأي أرسطاطاليس وسنرد على الباقين عند تعقبنا آراء أرباب المقالات إن شاء الله تعالى.
صفحة ٢٢