ذلك هو الخط الفكري الذي تابعه هيدجر بعد ذلك عندما اتجه لتفسير ماهية التقنية الحديثة في محاضرتيه عن التقنية وعن الرجعة (1962م)؛ فالتقنية هي الشكل الشامل لاستغلال العالم واستهلاكه، وهي لا تجهل ما تفعله وحسب، وإنما تنحرف بغير تدبر نحو تحقيق الطموح الذي يتحداها لتحويل العالم في مجموعه إلى موضوع للاستهلاك والاستغلال.
بيد أن ماهية التقنية شيء غير تقني على الإطلاق، كما أنها ليست مجرد فعل بشري، إنها تنبع من علاقة محددة وأساسية للإنسان مع الوجود في مجموعه، وهذه العلاقة قد تم الإعداد لها وبلغت أوج تمامها في الميتافيزيقا الغربية، وهذا الشكل المحدد لاقتحام الموجود والتعامل معه بصورة استهلاكية واستغلالية يسميه هيدجر بكلمة يصعب ترجمته وهي كلمة «الوضع» التي تعبر عن قهر الإنسان للواقع وشده إلى التعسف معه والتصرف فيه.
10
وهذا الوضع - منظورا إليه من جهة تاريخ الوجود - هو شكل من أشكال تكشف الموجود، بل هو أخطر هذه الأشكال جميعا إن لم يكن هو الخطر الأكبر الذي يواجه تاريخ البشرية، لقد أصبح الإنسان على شفا السقوط في الهوة التي تجعله مجرد كائن أو عنصر بين كائنات وعناصر عديدة، ولكنه لا يفطن لهذا الخطر، وإنما يزهو بنفسه ويتصور أنه قد صار سيد الأرض (والغريب أن هيدجر الذي انطلق من هذا الفهم غير المألوف للتقنية قد استبصر في ذلك الوقت المبكر بالمشكلات الناجمة عن تقنيات الهندسة الوراثية والاستهلاك الزائد للطاقة والمواد الخام في المجتمع التقني الحديث وفقدان العلاقة الحميمة بالأرض إلى حد الاغتراب والإحساس باقتلاع الجذور).
كيف يجد الإنسان الإمكانية الوحيدة للتحرر من أسر العلم والتقنية؟ وهل تنطوي التقنية على «الإنقاذ» الذي سينمو من داخلها (مصداقا للبيت الشهير لشاعره المفضل هلدرلين: حيثما يكن الخطر، ينم المنقذ ويظهر) وكيف سيكون وجود الإنسان وتفكيره تحت وطأة هذا العالم، وهل سيكون له مستقبل؟ هذه الأسئلة كلها ترجع بنا إلى السؤال الأساسي الذي طرحه هيدجر في «الوجود والزمان» عن معنى الوجود ومدى قدرته على أن يشغل التفكير الفلسفي في حاضر الإنسان ومستقبله، وهو ينصب في الواقع على ماهية الإنسان أو حقيقته في غمار هذا العالم الذي يعيش فيه الإنسان الغربي (والإنسان غير الغربي الدائر في فلك الحضارة الصناعية)، هذا العالم الذي هيمنت عليه السيطرة العلمية والتقنية - كيف سيعيش الإنسان كإنسان في هذا العالم؟ أنقول إنه سيظل ينتج نفسه من خلال إنتاجه لشروط حياته عن طريق العقل العلمي والتقني الذي يحسب ويقنن؟
يبدو أن أسلوب وجود الإنسان في هذا العصر قد تحدد من خلال التفسير العلمي والتقني للعالم، واعتبار الأرض مصدر الطاقة والمواد الخام، ومن خلال تنظيم العمل وتقسيمه وتنظيم الجماهير العاملة لتكون في خدمته، ثم من خلال البيروقراطية والتشابك المعقد بين السياسة والاقتصاد والعلم والتقنية فيما نسميه بالحضارة أو المدنية الحديثة، أم ترانا نقول إن الإنسان كإنسان هو الكائن الذي يخضع لقدر معين يفرض عليه أن يتحمل مسئوليته ويضع عبئه على كاهله؟
يبدو أن السؤال في صيغته الأخيرة قديم قدم الفكر الغربي نفسه، وذلك منذ أن عرف هذا الفكر عند الإغريق أن الإنسان كائن فان، وأنه منفتح على الموت؛ ومن ثم فهو - على حد تعبير هيراقليطس - مشارك بالضرورة وبسبب طبيعته الفانية في اللعبة الكونية الكبرى، ولعل تفكير هيدجر في ماهية الإنسان في عصرنا التقني الحديث ألا يكون بعيدا عن هذا الأصل الفكري، وأن يكون نوعا من التلقي ثم التحويل لتلك التجربة اليونانية المبكرة، فهو - أي الإنسان - ككائن منفتح على الموت يحيا حياة مختلفة عن سائر الكائنات والموجودات؛ لأنه ينتمي «لآخر» مختلف عنها جميعا، ولا يمكن أن يكون مجرد موجود مثلها، أعني أنه ينتمي للوجود ذاته، ثم إن هذا الإنسان الفاني يملك ما يسميه هيدجر ب «الفارق الأنطولوجي»، ويقيم فيه أيضا، وهذا الفارق - الذي ذكرناه من قبل - ليس مجرد تمييز للوجود نفسه عن الموجودات، وإنما هو في صميمه «حدث» ينكشف من خلاله أن كل موجود على هذا النحو أو ذاك إنما يوجد «بفضل» الوجود، أضف إلى هذا أن أسلوب «حدوث» الوجود أسلوب فريد؛ فهو يهب نفسه للموجود في الوقت الذي فيه يمتنع عليه أو يحتجب عنه، ووجود الإنسان - المنفتح دائما على الوجود أو المتعالي والمتجاوز نحوه باستمرار - هو «الموضع» الذي تحدث فيه «إنارة» الوجود وتحجبه، أو هو «موضع السر» لكل ما هو موجود أو يمكن أن يوجد؛ لهذا فإن وجود الإنسان يتحدد بهذا «الحدث» أو هذا «القدر»، وهو قدر لا يملك الإنسان التصرف فيه، وكل ما عليه هو أن يخضع له، وينضوي تحته ويستجيب ويتسق معه.
11
ونرجع مرة أخرى إلى عصرنا العلمي والتقني وماهية الإنسان الذي يعيش فيه، فالقدر الذي وصفناه ليس حاضرا فيه، وإنما هو ممتنع على الإنسان أو محتجب عنه، والمشكلة أن الإنسان الذي نسي الوجود أو ضل عنه أو أضاعه - كما رأينا من قبل - لا يحس بهذا الامتناع والتحجب؛ إذ لو أحس به لبقي على علاقة به مهما تكن علاقة سلبية، ما السبب في هذا؟ الجواب أن الإنسان والعالم الذي يعيشه فيه منبتان عن هذا القدر؛ لأن الإنسان يوجد - كما سبق القول - ككائن ينتج نفسه وشروط حياته بسبب تحكم العقل العلمي والتقني في أسلوب وجوده، وبالتالي بسبب تشويهه لوجوده وقدره جميعا.
ماذا تكون مهمة الفكر في هذه الحالة؟ مهمته هي الاستجابة للقدر الممتنع الذي لا ينفك مع ذلك حاضرا على الدوام، وتهيئة نفسه بالاستعداد المستمر للحدوث الممكن لذلك القدر، وكأن هذا الفكر المؤقت - كما يسميه الفيلسوف - يمثل معالم الظل الذي يلقيه الحضور أو الحدث الممكن في المستقبل لذلك القدر، بأي معنى إذا يكون هذا الفكر حاضرا ومستقبلا؟ بمعنى التفكير المتواصل في العالم العلمي والتقني وأصوله الميتافيزيقية الأولى، وبمعنى الاستعداد والإعداد الفكري للقدر في حدوثه الممكن، وعندما تتم هذه الرجعة للأصل والأساس الأول، ويتم التهيؤ والتنبه والاستعداد والإعداد، فربما يحدث شيء حاسم يغير الفكر نفسه ويعيد العالم العلمي التقني إلى أساسه المنسي.
صفحة غير معروفة